خطبة عن قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ)
سبتمبر 7, 2019خطبة عن قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)
سبتمبر 14, 2019الخطبة الأولى ( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ».وفي رواية أخرى في سنن الترمذي بسند حسنه : « إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ »
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الهدي النبوي الشريف ، والذي يحذرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل الشيطان ،ومكره بالمؤمنين ، وحرصه على التحريش بينهم ، فيقول صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ ) ،وقد جاء في تفسير ذلك أقوال متعددة للعلماء ، وأذكر لكم منها :القول الأول : أن الشيطان قد أيس أن يجمع كل المصلين على الكفر ، وقد اختار هذا القول العلامة ابن رجب الحنبلي ،القول الثاني : أن هذا إخبار عما وقع في نفس الشيطان من اليأس ،لما رأى الفتوح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، فالحديث أخبر عن ظن الشيطان وتوقعه، ثم كان الواقع بخلاف ذلك لحكمة يريدها الله عز وجل، وقد اختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ،القول الثالث :أن الشيطان أيس من المؤمنين كاملي الإيمان، فلم يطمع فيهم الشيطان أن يعبدوه، واختاره الألوسي ، القول الرابع : أن (أل) في كلمة (المصلون) هي للعهد، والمراد بهم الصحابة. وقال القاري في المرقاة : اختصر القاضي كلام الشراح ، وقال : عبادة الشيطان عبادة الصنم ،لأنه الآمر به ،والداعي إليه ،بدليل قوله تعالى :(يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ) مريم 44، والمراد بالمصلين : هم المؤمنون ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ » رواه أبو داود وغيره ، وقد سموا بذلك : لأن الصلاة أشرف الأعمال ،وأظهر الأفعال ،الدالة على الإيمان ، ومعنى الحديث أيس من أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب
أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ) ، فالمعنى ، ولكن الشيطان غير آيس من إغراء المؤمنين وحملهم على الفتن ،بل له هو مطمع في ذلك ، أي في إغراء بعضهم على بعض ،والتحريض بالشر بين الناس ، من قتل وخصومة ،وقال النووي : هذا الحديث من المعجزات النبوية ، ومعناه آيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ، ولكنه يسعى في التحريش بينهم ،بالخصومات ،والشحناء ،والحروب ،والفتن ،ونحوها، والتحريش: هو إثارة العداوات، والحض المستمر على الكراهية، وإلقاء البغضاء بين الناس، وتأليب نفوسهم بعضها على بعض، بحيل خبيثة، وأساليب ماكرة، وشبهات لا أساس لها من الصحة، مما يؤدي إلى اشتعال الشجار والشقاق، وحدوث التنافر، وذهاب الحب والألفة والمودة فيما بينهم. فالتحريش هو الصناعة الأولى للشيطان، والبضاعة الرائجة له، ولشياطين الإنس، إذ تقتل الحب، وتبث الفتنة، وتنشر الحقد، وتفرق بين الأخ وأخيه، والزوج وزوجه، والخِل وخليله، وربما تقود إلى طريق الذم، والهدم، وتنتهي بالقتل والدم. ولذا فقد جاءت الشريعة الاسلامية بتحريم كل صور التحريش ، فنهت عن التحريش بين البهائم؛ كمثل مناقرة الديكة، ومناطحة الأكباش، ونحو ذلك، وإذا كان الشرع الحكيم قد حرم التحريش بين البهائم ، فكيف بالتحريش بين المسلمين، الذي يؤدي إلى قيام الخصومات، والشحناء، والحروب، والفتن، وأعظم فرحة للشيطان أن يفرق بين المسلمين، وأن يخالف بين كلمتهم، فيحرش بينهم في أمور عرقية، وطبقية، ووهمية ، كي تكون بينهم من الأحقاد، والضغائن ما يكون، ويتعالى بعضهم على بعض بالأحساب، والأنساب، والأموال، والمناصب، وغير ذلك، ولا يرتاح الشيطان ،إلا إذا ألقى العداوة والفتن بين المسلمين ، ويؤكد هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :« يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ». والتحريش بين المؤمنين هو دأب المنافقين ، وأعداء الملة والدين في كل زمان ومكان ، ففي الصحيحين : ( أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ « دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ». فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ فَقَالَ قَدْ فَعَلُوهَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. قَالَ عُمَرُ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ « دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ». والتحريش بين المؤمنين هو أيضا من أخلاق اليهود ، ومن كان على شاكلتهم ، قال الله تعالى في كتابه العزيز عنهم: ( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ) المائدة64،
ومن أمثلة تحريشهم بين المسلمين ،ما فعله شاس بن قيس اليهودي ،حين مر على نفر من الصحابة ،من الأوس والخزرج ،فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم ،فقال لشاب يهودي: اذهب فاجلس معهم ،ثم اذكر يوم بعاث، (هذا يوم كان قبل الإسلام يوم كان فيه حرب بين الأوس والخزرج من أيام الجاهلية)، اذكر هذا واسرد بعض القصائد التي كانت من الشعراء لذلك اليوم، وذكِّر القوم المجتمعين من الأوس والخزرج بما حصل من القتلى والطعن، وما حصل في ذلك اليوم من مواجهات، ففعل الشاب اليهودي ذلك فتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من المسلمين فقال أحدهما: إن شئتم رددنا الحرب جذعة نعيدها حامية، حامية الوطيس، قال الآخرون: قد فعلنا موعدكم الحرة السلاح السلاح، خرجوا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم حتى جاءهم فقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) ، أي : بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم، فعرفوا أنها نزغة من الشيطان، ورد الله كيد العدو في نحره فبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن هذا سبب نزول قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) آل عمران100، إلى قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ…) آل عمران 103الآيات، ومن صور تحريش اليهود أيضا : أن جاءت جارية يهودية كانت عند أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها، وهي أصلاً من اليهود، لكنها أسلمت، وصارت أماً للمؤمنين، فجاءت جاريتها إلى عمر فقالت: “إن صفية تحب السبت وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها، قالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها، ثم قالت: يا جارية ما حملك على ما صنعت؟ -لما عرفت أنها سبب التحريش- قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة “.وقد يصل تحريشهم إلى حد تأليب الرعية بعضهم على بعض تجاه حاكم عادل أو صالح.. كما حدث في قُتل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وكان مصدر تحريش الناس عليه هو اليهودي (عبد الله بن سبأ ). فلذلك كان الأذكياء من الولاة يتفطنون لهذا، فدخل رجل على الوليد فقال: إن لي جاراً عصى وفر من الزحف، قال: أما أنت فتخبر أن لك جار سوء إن شئت أرسلنا معك، فإن كنت صادقاً أقصيناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت تركناك كأنك ما بلغتنا شيئاً، قال: تاركني يرحمك الله. وهذا التحريش قد يكون أحياناً على أهل العلم ، من السفهاء، والجهلاء ،الذين يلغون في أعراض العلماء، وقد أوذي بذلك نفر من كبار أهل العلم ، كشيخ الإسلام ( ابن تيمية) رحمه الله ، لما أودع السجن، وأيضاً ما حصل لكثير من تلاميذه ، فينبغي إذن تفويت سبيل الشيطان وأعوانه وجنوده في قضية التحريش.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا أن صور تحريش الشيطان بين المسلمين في حياتنا كثيرة ومتعددة ، وكان من الواجب علينا أن نتعرف عليها لنحذرها ، ولنتجنبها ، فمن صور التحريش : ما يقع من خلافات في الحياة الزوجية، فأعظم جند إبليس من يفرق بين زوجين، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ – قَالَ – فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ ». قَالَ الأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ « فَيَلْتَزِمُهُ ». وأما ما يحدثه الشيطان من التحريش بين الإخوة فسائل عنه المحاكم ، وعن قضايا الإرث المعلقة، والأراضي والبيوت التي فيها خلاف للورثة، والتحريش قد يقع بين الأصدقاء والإخوان، فكم من علاقات بين إخوان في الله تقطعت بسبب تحريش الشيطان؟ بل وبين الإخوة الأشقاء ، وفي قصة يوسف خير مثال ، قال الله تعالى : ( وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) سورة يوسف100، فقد حملهم الشيطان على ظلمه ،فتسببوا في بيعه عبداً، وتعريضه للفتنة أمام امرأة العزيز، ودخوله السجن، وكذلك حزن أبيه عليه ،حتى أضرت بعينيه فرقة الابن ،ففقد البصر، ويكثر في أيامنا التحريش بين المدير والمرؤوسين، ويقع بين الموظفين بعضهم البعض، وهكذا،
إخوة الإسلام
ألا فاحذروا الشيطان وطرقه ووساوسه وتحريشه ، وتذكروا دائما قول الله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (6) فاطر ، وقوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (5) يوسف
الدعاء