خطبة عن (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى؟)
ديسمبر 4, 2025الخطبة الأولى ( الجزاء من جنس العمل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :
(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (60) ،(61) الرحمن
وقال الله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (26) يونس
وروى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ )
وفي سنن البيهقي ، وصحيح الأدب المفرد للبخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وَإِنَّ أَهْلَ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ وَإِنَّ أَهْلَ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الآخِرَةِ ».
إخوة الإسلام
هناك سنن ربانية ، وقواعد إلهية ، أقام الله عليها خلقه ، وهي لا تتغير ولا تتبدل ، وأرشد الله تعالى عباده أن يفقهوها ، ويعملوا بها ، ومن هذه القواعد والسنن الربانية ، والتي نجدها واضحة جلية في النصوص الشرعية ، قاعدة : ( الجزاء من جنس العمل ) ، و( كما تدين تدان ) ، و( جزاء وفاقا )
فهذه القاعدة الالهية ، والسنة الربانية ، من الواجب على المسلم أن يتفهمها ، ويتعرف عليها ، ويعمل بها ، فبالعمل بها يتحدد مصيره ، فالجزاء من جنس العمل ، هكذا نطقت بهذه القاعدة آيات القرآن الكريم ، وأحاديث سيد المرسلين ، وإمام المتقين ،
ففي سنن الترمذي : قال صلى الله عليه وسلم : (وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ »
وفيه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ».
ومن مكر بمسلم مكر الله به، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (30) الانفال
ومن خذل مسلما في موطن يحب فيه نصرته خذله الله عز وجل- ففي سنن أبي داود وغيره
: ( أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولاَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ »
وكذلك من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به ، أي: فضحه بين الخلائق ،
ففي صحيح البخاري : (يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ »
ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا
ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهْوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا »
أيها المسلمون
أما عن السنن الربانية في أمور الخير: ففي الصحيحين : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »
ومن أقال نادما في تأجير أو استئجار أو بيع أو شراء، أو تصرف، ومن أقال نادما فأخرجه مما دخل فيه من عقد ونحوه أقال الله عثرته يوم القيامة فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وفي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ». وَقَالَ « يَمِينُ اللَّهِ مَلأَى – وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ مَلآنُ – سَحَّاءُ لاَ يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ». وقال الله تعالى : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) [الشورى: 40]،
فمن عفا عفا الله عنه، وهكذا قال الله تعالى :
(وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التغابن: 14].
وكذلك من أحسن أحسن الله إليه، ومن جاد جاد الله عليه، ومن نصر أمر الله ودينه وشرعه نصره الله وثبته، قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ) [محمد: 7].
وأيضا : من تواضع لله رفعه الله.، والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض
يرحمكم من في السماء ، ففي سنن الترمذي : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ ».
ومن عامل الناس بما يحب عامله الله بما يحب، والله -تعالى- شكور يشكر العمل القليل فيصير عنده كثيرا، وينمي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.
أيها المسلمون
وهناك قاعدة ربانية أخرى ، وسنة الهية عظمى ، يجدها المتتبع لآيات القرآن ، وأحاديث سيد الأنام ، ألا وهي : ( من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه) ، ففي مسند أحمد :
(عَنْ أَبِى قَتَادَةَ وَأَبِى الدَّهْمَاءِ قَالاَ أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقُلْنَا هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئاً قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ « إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ ».، وتأمل معي في قصة سليمان -عليه السلام- لما شغلته الخيل عن ذكر ربه مع أنها خيل جهاد، فقال الله تعالى : ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (30) :(33) ص
فقد عوضه الله الريح أسرع من الخيل ، فقال الله تعالى :
(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) ص (36)
وهكذا تحمله الريح وجنوده من الجن والإنس وعتاده فتهبط به وتصعد وتطير، رُخَاء بريح لينة طيبة، دون مطبات، ودون عذاب في الدنيا، والسفر قطعة من عذاب.
وتأمل معي : عندما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم ديارهم وأوطانهم في مكة وغيرها لله ،وقدموا مهاجرين في سبيل الله ، وصبروا على شدة البعد عن أوطانهم ، وألم الغربة عن ديارهم ؛ أعقبهم الله فتح فارس والروم، وغيرها، وبوأهم في الأرض بلادا عظيمة، وملكا كبيرًا.
وتأمل معي أيضا : فلما احتمل يوسف الصديق -عليه السلام- ألم السجن في ذات الله ، بوأه الله ملك مصر كلها ، وأيضا : لما بذل الشهداء أرواحهم لله، وقطَّع الأعداء أجسادهم ، عوضهم الله بطير خضر في الجنة فيها أرواحهم، تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وتسرح دائما في أنهار الجنة، وتأكل من شجرها حتى تقوم الساعة ،ففي سنن الترمذي : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فَقَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَأُخْبِرْنَا أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلاَعَةً فَقَالَ هَلْ تَسْتَزِيدُونَ شَيْئًا فَأَزِيدُكُمْ قَالُوا رَبَّنَا وَمَا نَسْتَزِيدُ وَنَحْنُ فِي الْجَنَّةِ نَسْرَحُ حَيْثُ شِئْنَا ثُمَّ اطَّلَعَ إِلَيْهِمُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ هَلْ تَسْتَزِيدُونَ شَيْئًا فَأَزِيدُكُمْ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُتْرَكُوا قَالُوا تُعِيدُ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَنُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ).
ولما بذل رسل الله أعراضهم في سبيل الله، فقام الأعداء بسبهم وشتمهم ونالوا منهم، وما أشد من أن يقال عن الصادق كذاب، وعن الأمين خائن، وعن العاقل مجنون، ويقال ساحر، وبه جنّة، وشاعر، فالله -سبحانه وتعالى- عوض أنبياءه بذلك المقام العظيم الرفيع في السماوات، ورفعهم عنده مكانا عليا، فقال الله تعالى في شأنهم :
(فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) [النساء: 69].
ومن السنن الربانية ، والقواعد الالهية : ( من صدق الله صدقه وصدَّقه ) : نعم من صدق صدقه الله وصدَّقه، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ أُهَاجِرُ مَعَكَ. فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ « قَسَمْتُهُ لَكَ ». قَالَ مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّى اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا – وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ – فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ « إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ ». فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِىَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَهُوَ هُوَ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ». ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ « اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ». [رواه النسائي )
وقال أبو حاتم الرازي للإمام أحمد -رحمه الله-: كيف نجوت من سيف الواثق وعصا المعتصم؟ قال: يا أبا حاتم لو وضع الصدق على جرح لبرأ
وهكذا رفع الله ذكرهم، وقد قدموا في سبيله ما قدموا، قال الله تعالى :
(وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) [الشعراء: 84] ، وذلك لما صدقوا معه.
ومن السنن الربانية أيضا : (من ذكر الله ذكره الله ) : قال الله تعالى ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152]، وفي الحديث القدسي كما في الصحيحين: ) قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »
ومن السنن الربانية أيضا : من تصدق تصدق الله عليه: نعم (من يتصدق يتصدق الله عليه)، بل ويعوضه خيرًا، وما نقص مال من صدقة، ومن عجيب هذا ما روى النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا من قصة صاحب بستان ، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :
« بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ .فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلاَنٌ. لِلاِسْمِ الَّذِى سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِى فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِى هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ».
فانظر كيف أعطاه الله لما أعطى عباده ، ولذلك كان السلف من أصحاب الأموال يعطون بلا عد، فيقول ابن المبارك لغلمانه: إذا جاء الفقير احثوا له حثوا بدون عد، اغرف، اعط.
وقيل للحسن بن سهل -رحمه الله- وقد كثر عطاؤه وإنفاقه مع أن عنده عيال وعنده هو حاجات، قالوا له: ليس في السرف خير، الإسراف ما فيه خير، ماذا رد عليهم؟
قال: (ليس في الخير سرف) ، فأعمال الخير ليس فيها سرف، اعط، والله ينفق عليك ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا ، ومن بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة، وشتان ما بين البيتين ، وكذلك من ساهم في بناء مسجد ولو بالخبرة والاستشارة والمراقبة والإعانة يدخل في ذلك الأجر.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الجزاء من جنس العمل )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن السنن الربانية : من اتقى الله وقاه وكفاه: فمن اتقى الله فمكافأته عنده عظيمة، لأن التقوى فيها شدة وجهد وعناء؛ ولأنه يلزم نفسه القيام بالواجب، والامتناع عن المحرم برغم الشهوات والمغريات، فإنه يتقي الله فماذا له؟ ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (2) ،(3) الطلاق
وقال الله تعالى : ( لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) [القلم: 34].
ومن السنن الربانية : أن من غض بصره عن الحرام ، رزقه الله بصيرة في عين قلبه : وتأملها في كتاب الله، وفي ترتيب الآيات، قال الله تعالى :
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 30 – 31]
فماذا قال الله بعدها بآيات؟ ، قال الله تعالى :
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ يعني في قلب عبده المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) [النور: 35]،
فمن غض بصره لله، نور الله بصيرته، ومن نور الله بصيرته ،ميز الحلال من الحرام، والسنة من البدعة، وهكذا..
ومن السنن الربانية : من فسح لإخوانه في المجلس ، فسح الله له: قال الله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) [المجادلة: 11]،
فالله يفسح لك في صدرك ،وفي رزقك ،وفي قبرك، ويعطك ملكا عظيما ، قال تعالى :
(إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ) [الإنسان: 20]
كل ذلك قد فسحه الله لك، فهذا الصدر السليم للمسلمين، المحب لهم، الذي يتنازل عن حقه أو بعضه لأجلهم، فتفسحوا يفسح الله لكم.
ومن السنن الربانية : من تجاوز عن المعسر تجاوز الله عنه: يقول عليه الصلاة والسلام
كما في صحيح البخاري : « إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ ، قِيلَ لَهُ انْظُرْ . قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّى كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ ، فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ . فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ » .
أما عن ثواب من حمد الله على المصيبة: ففي الحديث (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِى فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ » رواه الترمذي
وماذا عن ثواب قيام الليل: فهؤلاء الذين يخفون قيام الليل، ويستخفون عن أعين الناس بالصلاة في الظلام في قعر بيوتهم، لما أخفوا العبادة ، كما قال الله تعالى في شأنهم :
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة: 16] ،
فكان الجزاء : أن أخفى الله لهم مفاجأة حسنة عظيمة جليلة ، فقال الله تعالى :
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة (17)
إخوة الإسلام
تلك هي بعض السنن الربانية ، والقواعد الالهية ، ألا فتدبروها ، واعملوا بها ، لتنالوا الأجر والجزاء من رب العالمين
الدعاء
