خطبة عن تسوية القبور وحديث (وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ)
أكتوبر 19, 2019خطبة عن (الرَّحْمَةُ)
أكتوبر 23, 2019الخطبة الأولى ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (108) يوسف
إخوة الإسلام
القرآن الكريم: هو أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ، ولقد دعا الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آية من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (108) يوسف ، فقد روى أحمد في مسنده (عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ». وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ قَالَ « هَذِهِ سُبُلُ الشَّيْطَانِ ». ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِى الْخَطِّ الأَوْسَطِ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، وفي مسند أحمد (عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وْالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ ». ، وجاء في تفسير بن كثير : يقول الله تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن ،آمراً له أن يخبرا الناس أن هذه سبيله، أي طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له) ،يدعو إلى اللّه بها على بصيرة من ذلك ، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه :(عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ طَرِيقَةٍ وَأَقْصَدِ هِدَايَةٍ، مَعْدِنَ الْعِلْمِ وَكَنْزَ الْإِيمَانِ وَجُنْدَ الرَّحْمَنِ. وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا أفضل هذه الأمّة، أبرّها قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلّم ولإقامة دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ على آثَارِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ.
وفي تفسير الوسيط لطنطاوي : قل – أيها الرسول الكريم – للناس هذه طريقي ، وسبيلي واحدة مستقيمة ،لا عوج فيها ولا شبهة ، وهى أني أدعو إلى إخلاص العبادة لله – تعالى – وحده ، ببصيرة مستنيرة ، وحجة واضحة ، وكذلك أتباعي يفعلون ذلك . . ولن نكفّ عن دعوتنا هذه مهما اعترضنا العقبات ، وفي سلسلة التفسير (لمصطفى العدوي) يقول : ومن سبيلي أيضاً الدعوة إلى الله؛ فهي من أشرف الأعمال على الإطلاق، فجدير بنا أن نغبِّر أقدامنا في الدعوة إلى الله، وأن نرطب ألسنتنا بعد ذكر الله بالدعوة إلى الله، لكن دعوتي إلى الله ليست دعوة همجية، وإنما هي على بصيرة، على علم ويقين وحجة، فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله مستبصرين بما يدعون إليه، مستيقنين بما يريدونه من الناس ويدعون الناس إليه، فلا تدع بجهل فتضل وتضل غيرك، ولكن ادع إلى الله على بصيرة، وأتقن المسائل، وتعلم دينك: كتاب ربك، وسنة نبيك محمد، وأقوال صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال أهل العلم والفقه في الدين، ثم ادع على بصيرة بعد ذلك. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] ، ربانيين بماذا؟ ، قال الله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] ،فدراسة وتعلم ، ثم بث ونشر للعلم، هكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، يتزودون بالعلم الشرعي ،ويتبصرون به، ثم يدعون الناس إلى طريق ربهم ،على بصيرة ،وليس بجهل، وليس خبطاً عشوائياً. والبصيرة منها كتاب الله وسنة رسول الله؛ لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام:104] ، فالآيات بصائر، وسنن النبيين بصائر كذلك يهتدى بها، قال تعالى في شأن كتابه : {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16] . {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} ،أي: أنزه الله، فالتسبيح هو تنزيه الله عن الشبيه ،والشريك ،والمثيل ، والند تنزيه الله عما يصفه به الواصفون ،القائلون بأن له ولداً ،وبأن له زوجة، والقائلون بأن له شريكاً، والقائلون بأن الملائكة بنات الله، الذين عبدوا معه غيره. فينبغي أيضاً أن ننزه الله عن كل نقص وعيب، وكذلك لنا في كل تسبيحة نسبحها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ » رواه مسلم ، فلنسبح الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ . فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ » ، فجدير بنا أن نسبح الله باللسان وبالجنان.
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (108) يوسف ، يقول ابن تيمية : الدعوة إلى اللّه هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه. فإن هذه الدرجات الثلاث التي هي : الإسلام، والإيمان، والإحسان ، داخلة في الدين، كما قال في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ». ،بعد أن أجابه عن هذه الثلاث، فبين أنها كلها من ديننا.
أيها المسلمون
والمتأمل والمتدبر لقوله تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. يتبين له معالم الدعوة إلى الله ، والمنهج الصحيح في طريق الاصلاح : فالمَعْلم الأول: هو الوضوح والبيان ، ونستخلصها من قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي… }. فعلى الداعي إلى الله أن يصدح بدعوته، موضحا لأتباعه المنهج الذي يسعى لنشره، والطريقة التي يسير عليها، والوسائل التي يستخدمها، والغاية التي يريد أن يصل إليها، والابتلاءات التي قد يلاقيها بسبب دعوته، لا أن تكون دعوته محل غموض أو خفى، بل في غاية من الوضوح له أولاً، ولمن تبعه ثانيا؛ مصطحبين ذلك الوضوح في جميع مراحل الدعوة ، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وأولى قضايا الوضوح الدعوي التي ينبغي الاعتناء بها؛ هي قضايا التوحيد، وأسس العقيدة الصحيحة، لا أن تكون الدعوة مجرد مواعظ مؤثرة، وخطب رنانة تزول بزوال المؤثر، ليفاجأ الداعية عند أول محنة تساقط الأتباع، وقلة النصير، بسبب غياب هذا المعلم في بداية الطريق. قال السعدي – رحمه الله-: “يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} للناس {هَذِهِ سَبِيلِي} أي: طريقي التي أدعو إليها، وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} أي: أحثُّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم، وأرغِّبهم في ذلك وأرهِّبهم مما يبعدهم عنه ” لقد كانت “لا إله إلا الله ” واضحة الكلمات والمعاني لدى كفار القريش ،حينما طلب منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوها ،فيملكوا بها العرب، وتدين لهم بها العجم، بأنها دعوة صريحة، ومبدأ قويم لهذا الدين ،القائم العبودية المطلقة لله –تعالى-، ونفي ما سواه من المعبودات الباطلة، ولكنهم أبوا أن يقولوها، بل وحاربوها. وفي المقابل نجد صورة مشرقة في بيعة العقبة لوضوح الدعوة ومنهجها وتبعاتها لدى الداعي والمدعو، واستجابتهم لها، يقول ابن إسحاق –رحمه الله-: “إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ ، قالوا :” نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فأن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا؛ أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدينا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدينا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ ، قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه ”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما المَعْلم الثاني من معالم الدعوة إلى الله فهو: الحجة والبرهان ، ونستشفها من قوله تعالى :{ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ…} : فالدعوة إلى الله لابد أن تكون قائمة على الأسس الشرعية، والدلالات العقلية، التي تمثل في مجموعها مفهوم البصيرة، كما وضح ذلك ابن كثير –رحمه الله – في تفسيره للآية السابقة بقوله: “هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين، وبرهان شرعي وعقلي ” ، ومن هنا لزم على الدعاة أن تكون لهم قيمة علمية يحملونها للناس، ولمن أرادوا دعوتهم من المخالفين، لا أن تكون دعوتهم قائمة على تصورات خاطئة، ومعتقدات باطلة، وأفكار مضللة، ومشاريع قاصرة، بل دعوة تتميز بقوة الحجة، ووضوح المحجة، تؤثر بذاتها، وتقنع بطرحها، ترتقي بالداعية إلى الله إلى الرفعة، والمنازل العالية. ثم نأتي إلى المَعْلم الثالث وهو: اليقين ، ونلحظه من خلال قوله تعالى : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ…}.، فيقين الداعية بأن المنهج الذي يحمله هو المنهج القويم، والطريق المستقيم، والنور المبين، الذي من تمسك به نجا، ومن سلك طريقه كان على الهدى، ومن مات عليه نال غاية المنى، مهما طال الطريق. فمهما شكك المرتابون، وتساقط المخذولون، وأيس العاملون، واستعجل الثمار المتهورون، وأرجف المنافقون، وأوعد المتربصون، وهدد المخالفون، فإن هذه القيمة –اليقين- ينبغي أن تكون حاضرة أمام الدعاة إلى الله وهم يواجهون هذه التحديات، وأن ما هم عليه هو اليقين الذي لا يقبل الشك، والعقيدة التي لا ترضى بالشرك -بكافة صورة القديمة والمعاصرة ،
أما المَعْلم الرابع فهو : لزوم الإتباع ، ويظهر لنا من خلال قوله تعالى : {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي…}.، ففيها دعوة نحو اتباع الحق، ولزوم الشرع، واستمساك بالهدي، وتسليم للنص، وترك ما سوى ذلك من الأهواء الشخصية، والآراء العقلانية، ووجهات النظر المنحرفة، بسبب التأثر بالمخالف، والانبهار بنهضة الآخر، وجلد النفس من الداخل، تحت مسمى حركة التنوير العصرانية، الداعية إلى حرية فهم النص، وتفسيره تفسيرا ينأ به عن جادة طريقة السلف؛ لينشأ على إثرها جيلاً من أبناء الدعوة مشوه الفكر، متخبط في الاستدلال، مشتت في الرؤى والتصورات، متمرد على الحق. ثم نأتي إلى المَعْلم الخامس وهو: التميز والشموخ {.. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. فلا بد أن تكون هذه الدعوة متميزة بمنهجها، مستقلة بتصوراتها ونظرتها نحو التغيير المنشود، لا أن تكون عقلانية التصور، عاطفية التأثر، تقبع في أسر الهزيمة النفسية، الداعية إلى التأثر بالأطروحات المخالفة في الخارج، أو التخبطات القيادية في الداخل، بل ينبغي أن تكون هذه الدعوة كالشامة في جبين الدعوات المنحرفة، متميزة بامتلاكها معالم الطريق القويم لتمكين هذا الدين، وعودة شريعة رب العالمين، لتكون هي الحاكمة والسائدة، لينعم بها الناس سعادة الدنيا، ونجاة الآخرة، وبذلك يحصل لهم الفلاح، وهي الغاية العظمى، والمنتهى الأسمى لهذه الدعوة. يقول سيد قطب –رحمه الله-: “وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئاً ذا قيمة!
الدعاء