خطبة عن: الوصية وحديث (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
أكتوبر 26, 2019خطبة عن حديث (لاَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ)
نوفمبر 2, 2019الخطبة الأولى ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (23) ،(24) الكهف
إخوة الإسلام
لقد دعا الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم -إن شاء الله- موعدنا مع آيات من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (23) ،(24) الكهف ، جاء في تفسير القرطبي : قال العلماء عاتب الله – تعالى – نبيه – عليه السلام – على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين : غدا أخبركم بجواب أسئلتكم ; ولم يستثن في ذلك . فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة . وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا ، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله – عز وجل – حتى لا يكون محققا لحكم الخبر ; فإنه إذا قال : لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا ، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن يكون محققا للمخبر عنه .وفي تفسير الوجيز للواحدي: قال : هذا تأديبٌ من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرٌ له بالاستثناء بمشيئة الله سبحانه فيما يعزم، يقول: إذا قلت لشيءٍ: إني فاعله غدًا ، فقُلْ: إن شاء الله ، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري (أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ – عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ – لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ – أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ – كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ » ، وفي تفسير الوسيط لطنطاوي : وليس المقصود من الآية الكريمة نهى الإِنسان عن التفكير في أمر مستقبله ، وإنما المقصود نهيه عن الجزم بما سيقع في المستقبل ، لأن ما سيقع علمه عند الله – تعالى – وحده . والعاقل من الناس هو الذى يباشر الأسباب التي شرعها الله – تعالى – سواء أكانت هذه الأسباب تتعلق بالماضي أم بالحاضر أم بالمستقبل ، ثم يقرن كل ذلك بمشيئة الله – تعالى – وإرادته . فلا يقول : سأفعل غدا كذا وكذا لأنني أعددت العدة لذلك ، وإنما يقول : سأفعل غدا كذا وكذا إذا شاء الله – تعالى – ذلك وأراد ، وأن يوقن بأن إرادة الله فوق إرادته ، وتدبيره – سبحانه – فوق كل تدبير .فكم من أمور أعد الإنسان لها أسبابها التي تؤدى إلى قضائها.. ثم جاءت إرادة الله- تعالى- فغيرت ما أعده ذلك الإنسان، لأنه لم يستشعر عند إعداده للأسباب أن. إرادة الله- تعالى- فوق إرادته، وأنه- سبحانه- القادر على خرق هذه الأسباب، وخرق ما تؤدى إليه، ولأنه لم يقل عند ما يريد فعله في المستقبل، إن شاء الله.
أيها المسلمون
(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا) ، هذه بدهية عقدية ينبغي أن تكون حاضرة في عقل وقلب كل مؤمن، فإياك أن تقول، أو تزعم ، أنك فاعل في المستقبل ، فالله سبحانه هو المالك الحقيقي للحاضر والمستقبل، فعلى الإنسان إذن أن يتواضع لله فيُعلن أنه لا يملك المستقبل ولا يفعل في المستقبل. إلا أنّ الإنسان قد يستشكل هذا الأمر عندما يلاحظ أنه يصنع المستقبل؛ فكم من خطة كانت في الذهن أو على الورق ثم خرجت إلى حيز الواقع، بل إنّ ذلك كثير، بل إن واقع البشرية يدل على أنّ ذلك يغلب في حياة البشر. فإذا قام هذا الاستشكال في الذهن جاء الجواب حاضراً في مطلع الآية التي تليها : (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) فكل ما يقع من فعل كان مخططاً له من قبل هو مما أذن الله به. فإذا رأيت الناس يخططون للفعل المستقبلي وينجحون في ذلك فاعلم أنّ ذلك مما أذن الله به. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) فهذه إذن حقيقة ينبغي أن تكون حاضرة في الفكر والقلب. وإذا حصلت غفلة وذهلتَ عن هذه الحقيقة فاذكر ربك الذي خلقك ورزقك وهداك. نعم هو الذي خلقك وخلق قدرتك ومشيئتك وفكرك وعلمك، وهو الذي يأذن أن يفعل كل ذلك في المستقبل. ( وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا): ويبقى القلب متعلقاً بالله تعالى؛ فهو واهب العقل والقلب، وهو الهادي سواء السبيل. ولن يبلغ إنسان كمال الرشد، ولكن يمكنه أن يرتقي في معارج الهداية والرشد، وعليه أن يبقى ساعياً ومتشوقاً لأن يكون أقرب ما يمكن إلى حقيقة الرشد؛ فكلما وصل درجة طلب وتمنى أن يكون أقرب منها إلى حقيقة الرشد السامية. وهذه الآية في حد ذاتها دليل على صدق رسول الله، وعلى أدبه، وعلى أمانته في البلاغ عن ربه عز وجل، وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجاً لغيره، وحتى لا يستنكف أحد إذا استدرك عليه شيء، فها هو محمد رسول الله يستدرك عليه ربه ويعدل له. فكأن قوله تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )، فيه تربية للأمة في شخصية رسولها حتى لا يستنكف المربى من توجيه المربي، مادام الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإن كان من الخلق، فما بالك إن كان الاستدراك من الخالق سبحانه، والتعديل والتربية من ناحيته؟
أيها المسلمون
وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن حوادث الدنيا إنما تجري وفق مشيئته سبحانه وتعالى, فهو الذي يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, وهو الذي يعز من يشاء, ويذل من يشاء, فتدول الدول, ويعز الذليل, ويذل العزيز كل ذلك بمشيئة الله ، قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26], وهو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء ذكوراً, وإناثاً, أشقياء, وسعداء, مختلفين في صفاتهم وأشكالهم حسناً وقبحاً, قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [ آل عمران:6]
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي إثبات أن الله مريد لكل ما يخلقه جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وأحاديث نبوية متعددة ، ففي الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلاَ يَقُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ ». ففي ذلك إثبات المشيئة لله تعالى فهو الغفور الرحيم, والرزاق إذا شاء, وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا مكره له, والحديث فيه الحث على العزم في المسألة والجزم فيها، دون ضعف أو تعليق على المشيئة, وإنما نهى عن التعليق على المشيئة لأنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه, والله سبحانه وتعالى لا مكره له كما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ، وفي مسند أحمد وغيره : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عَدْلاً بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ ». فالحديث واضح الدلالة على إثبات مرتبة المشيئة, وأن الله تعالى له المشيئة المطلقة, وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة الله تعالى, والنهي في الحديث إنما هو عن قرن مشيئة الله بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث عطفها بالواو التي هي لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا تعقيب، والرسول مثل غيره من العباد، فالكل خاضعون لمشيئة الله، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله. وفي البخاري ومسلم واللفظ للبخاري (قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ » ، فقوله: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) فيه إثبات مرتبة الإرادة، وأن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى ) أي: إنما أنا أقسم ما أمرني الله بقسمته، والمعطي حقيقة هو الله تعالى, فالأمور كلها بتقدير الله تعالى والإنسان مصرف مربوب, ومن الأحاديث الدالة على الإرادة ما رواه الامام مسلم : (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَنَّ مَلَكًا مُوَكَّلاً بِالرَّحِمِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِإِذْنِ اللَّهِ لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ».
الدعاء