خطبة عن: كَلِمَةُ الحَقٍّ وحديث (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)
نوفمبر 9, 2019خطبة عن الصد عن الدين (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)
نوفمبر 9, 2019الخطبة الأولى ( مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا .. وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلاَطِينِ افْتُتِنَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه بسند حسنه : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلاَطِينِ افْتُتِنَ »
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الهدي النبوي الكريم ، والذي يحذر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الجفاء ،والغفلة ، والفتنة ، وقد تعددت كلمات العلماء في بيان وشرح هذا الحديث ، فقال المباركفوري: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : (مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا) . أَيْ جَهِلَ، قَالَ الله تَعَالَى : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) التوبة 97،. وقَالَ الْقَاضِي : جَفَا الرَّجُلُ إِذَا غَلُظَ قَلْبُهُ وَقَسَا وَلَمْ يَرِقَّ لِبِرٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي لِبُعْدِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِلَّةِ اِخْتِلَاطِهِمْ بِالنَّاسِ, فَصَارَتْ طِبَاعُهُمْ كَطِبَاعِ الْوُحُوشِ . وقال ابن كثير: لما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي، لم يبعث الله منهم رسولا؛ وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) . {يوسف: 109}. وقال السعدي: الأعراب وهم سكان البادية والبراري أشد كفرا ونفاقا من الحاضرة، الذين فيهم كفر ونفاق، وذلك لأسباب كثيرة منها : أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام ؛ فهم أحرى وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من أصول الإيمان، والأحكام الأوامر والنواهي . بخلاف الحاضرة، فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فيحدث لهم بسبب هذا العلم تصورات حسنة، وإرادة للخير الذي يعلمون منه ما لا يعلم من يكون في البادية. وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية، ويجالسون أهل الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية؛ ولا يعني هذا أن كل أهل البادية كذلك، بل فيهم قطعا من هو خير من أهل المدن، ولذلك قال الله تعالى بعد ذلك :(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) {التوبة: 99} ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط : وهذا يتضمن التنفير من سكن البادية حيث لا تقام الجمعة، ولا يتمكن المسلم من تعلم دينه.
أيها المسلمون
إن الجفاء صفة ذميمة ، ومظهر من مظاهر سوء الخلق، وهو يورث التفرق ، والوحشة بين الناس ، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل، فكم من بيت تخرب ،وأسرة تهدمت بسببه، وكم من جفوة ونفرة بين الأحبة حدثت بسبب غلظة الطبع، والخرق في المعاملة ،وترك الرفق في الأمور، والجفاء قد يكون طبعا ،وقد يكون تطبعا ،وكلاهما سيئ، و المؤمن الحق يتدارك نفسه بالبعد عن أسبابه وصوره، و في الحديث الذي رواه احمد : ” مَنْ بَدَا جَفَا ” أي من سكن البادية غلظ طبعه، والإنسان ابن بيئته – كما يقولون – فالجفاء يزيد في أهل المغرب عن أهل المشرق، وفي أهل البادية ورعاة الإبل عن غيرهم، ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الإِيمَانُ هَا هُنَا » . وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ « وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ ، عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ » ، وفي سنن الترمذي (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ » ، وبالجملة فالجفاء والغلظة يبغضها الله عز وجل ،والملائكة ،والناس أجمعون، وعلى المؤمن أن يتخلى عن العنف ،والقسوة ،والعبوس ،والطيش ،وسوء المعاملة ،وعقوق الوالدين، وسوء الظن، وأن يتحلى بمعاني الرفق ،والرحمة ،والبر ،والعطف ،والحلم، فالتخلية قبل التحلية، وأن يجاهد نفسه في التباعد عن أسباب العنف و صوره، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس (9) ،(10)، وعلى العبد أن يجأر إلى الله بالدعاء ،عساه يرزقه حسن التأسي بنبيه صلى الله عليه وسلم فقد كان ألين الناس ، ضحاكا ،بساما ،يصل الرحم ،ويحمل الكل ،ويكسب المعدوم ،ويقري الضيف ،ويعين على نوائب الحق، ومن كان كذلك لا يخزيه الله أبدا ،كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. فهيا بنا نتخلق بأخلاق المؤمنين، فالمؤمن هين لين ،سهل ذلول ،منقاد للحق ،يألف ويؤلف، ولا خير في الجافي الغليظ ، الذي لا يألف ولا يؤلف.
أيها المسلمون
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ ) أي لازم اتباع الصيد والاشتغال به وركب على تتبع الصيد كالحمام ونحوه لهوا وطربا ( غفل ) أي عن الطاعة والعبادة ولزوم الجماعة والجمعة وبعد عن الرقة والرحمة لشبهه بالسبع والبهيمة ، ومن اعتاد الاصطياد للهو والطرب يكون غافلا لأن اللهو والطرب يحدث من القلب الميت ، وأما من اصطاد للقوت فجاز له لأن بعض الصحابة كانوا يصطادون ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلاَطِينِ افْتُتِنَ) أي من غير ضرورة وحاجة لمجيئه (افتتن ) بصيغة المجهول أي وقع في الفتنة ،فإنه إن وافقه فيما يأتيه ويذره فقد خاطر على دينه ،وإن خالفه فقد خاطر على دنياه ، ومن دخل على السلطان وداهنه وقع في الفتنة ، وأما من لم يداهن ونصحه وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فكان دخوله عليه أفضل الجهاد ، فمن دخل عليهم من باب النصح والتعاون على البر والتقوى، والحذر من كل ما نهى الله عنه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا من أعظم القربات، ومن أفضل الجهاد ، ففي صحيح مسلم 🙁 أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا .. وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلاَطِينِ افْتُتِنَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد حذر السلف كثيراً من الدخول على السلاطين مخافة الفتنة وأقوالهم في هذا الباب كثيرة ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال :إياكم ومواقف الفتن .قيل :وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ ، قال أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن على أبواب السلاطين فِتناً كمبارك الإبل ، والذي نفسي بيده لا تصيبون من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينكم مثله أو قال مثليه. ويقول وهب بن منبه مخاطباً عطاء الخرساني : ( كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم . وهذا أيوب السختياني يقول : قال لي أبو قلابة : ( يا أبا أيوب احفظ عني ثلاث خصال : إياك وأبواب السلاطين، وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك فإن الغنى من العافية ). ويقول أبو حازم – وهو من سادات التابعين – : ( إن العلماء كانوا يفرون من السلطان ويطلبهم، وانهم اليوم يأتون أبواب السلطان، والسلطان يفر منهم ). قال الحافظ ابن عبد البر معنى هذا كله في السلطان الجائر الفاسق فأما العدل منهم الفاضل فمداخلته ورؤيته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر ، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز إنما كان يصحبه جلّة العلماء مثل عروة بن الزبير وطبقته وابن شهاب وطبقته.
الدعاء