خطبة عن (العطاء)
يناير 4, 2020خطبة عن الدنيا وحديث (لاَ يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ الله)
يناير 9, 2020الخطبة الأولى : أحكام التسعير ، وحديث ( إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَلَا السِّعْرُ فِي المَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللهِ غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم : «إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»، رواه الخمسة إلَّا النسائي وصحَّحه ابن حبَّان
إخوة الإسلام
تكمن أهمية بيان أحكام التسعير في كونه أحد مكونات الاقتصاد في الاسلام وهو الأمر الذي يكشف عن مدى اتساع أحكام الشريعة وشمولها لكافة جوانب الحياة ومختلف تشعباتها، كما يبين دور علماء الشريعة قديما وحديثا في استنباط قوانين علم الاقتصاد وبناء الأحكام الفقهية عليها. وأيضا تكشف أحكام التسعير جانبا هماما من النظرية الشرعية فيما يتعلق بالموقف من الحرية الاقتصادية وذلك باعتباره أداة تحد من تصرفات أرباب التجارة المناقضة لميزان العدالة. فيشير ذلك إلى ان قيمة الحرية هي الأصل في تصرفات الإنسان وخصوصا في الجانب الاقتصادي لأن العقود التي هي ارتباد الايجاب بالقبول مبنية على الرضا، ولا يكون التحجير على المكلف الا استثناء لأجل مصلحة عامة. فحرية الأفراد ليست غاية يسعى إليها الإسلام في المجال الاقتصادي ، كما ان الفرد ليس دمية يحركها المجتمع كما هو الحال في النظامين الرأسمالي والشيوعي. ومن ثم فالنظام الإسلامي مبني على الدالة ولا يتيح التدخل في شؤون الناس وتصرفاتهم الا في حدود إرجاع الحقوق ورفع الظلم والجور عن الأمة.
وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ هو المُسَعِّر القابضُ الباسطُ الرازقُ» أي: إن الله تعالى هو الذي يُرَخِّص الأشياء ويغلِّيها، وهو الذي يضيق الرزق على من يشاء ويوسعه على من يشاء، أي: فمن حاول التسعير فقد عارض الله ونازعه فيما يريده، ويمنع العباد حقوقهم مما أولاهم الله تعالى في الغلاء والرخص. وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإني لأرجو أن ألقى اللهَ وليس أحدٌ منكم يُطالِبُني بمظلمةٍ في دمٍ ولا مالٍ» ، ففي هذا إشارة إلى أن المانع له من التسعير مخافة أن يظلمهم في أموالهم؛ فإن تسعير السلع تصرف فيها بغير إذن أهلها فيكون ظلما، لكن إذا تواطأ الباعة مثلا من تجار ونحوهم على رفع أسعار ما لديهم أثرة منهم، فلولي الأمر تحديد سعر عادل للمبيعات مثلا؛ إقامة للعدل بين البائعين والمشترين، وبناء على القاعدة العامة، قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وإن لم يحصل تواطؤ منهم وإنما ارتفع السعر بسبب كثرة الطلب وقلة العرض، دون احتيال، فليس لولي الأمر أن يحد السعر، بل يترك الرعية يرزق الله بعضهم من بعض، وعلى هذا فلا يجوز للتجار أن يرفعوا السعر زيادة عن المعتاد ولا التسعير، وعليه يحمل هذا الحديث. فالتسعير إذن من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء ، فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقا مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدم : «إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»، وقالوا : من خلال هذا الحديث ـ يُطْلِق الإسلام ـ حرِّيَّةَ الأفراد للسوق، يبيعون سلعتهم المجلوبة والحاضرة، من غير ظلمٍ منهم، كيف شاءوا وفقًا لقانون العرض والطلب، فإذا ارتفع سعر السلع التي يراد بيعها ـ إمَّا لقلَّة الجَلَب أو كثرة الطلب ـ فإنَّ هذا الأمر موكولٌ إلى الله سبحانه يوسِّع ويضيِّق بإرادته ويرفع ويخفض بمشيئته. ، واعتبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم التدخُّل في حرِّيَّة الأفراد من غير ضرورةٍ ضربًا من الظلم، وأنَّ إلزامهم بتسعيرٍ معيَّنٍ وبقيمة بعينها إكراهٌ من غير وجه حقٍّ، وأنَّ منعهم ممَّا أباحه الله لهم حرامٌ، ولهذا أحبَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ نظرًا لخطورة المظالم في الدماء والأموال ـ أن يلقى الله تعالى بريئًا من مسؤوليتها، وبعيدًا من تبعيتها.
وذهب بعضهم إلى جواز التسعير ، إذا كان للناس سعر غالب ، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك ، أو بأنقص ، واحتجوا بما رواه مالك في الموطإ : (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا. ولكن جاء في الأثر أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع ، قال مالك : لو أن رجلا أراد فساد السوق ، فحط عن سعر الناس ،لرأيت أن يقال له : إما لحقت بسعر الناس ، وإما رفعت . فلا خلاف بين الفقهاء في أن التسعير منهي عنه ،إذا لم يقع ظلم ،ولم يحصل افتعال للغلاء، او الرخص من طرف أرباب الأسواق ، ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ، او منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس ، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم ،من أخذ الزيادة على عوض المثل ، فهو جائز بل واجب) ، فمن ذلك يتبين لنا أن التسعير جائز بشرطين : أحدهما : أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس ، والثاني : ألا يكون سببا لغلاء قلة العرض أ،و كثرة الطلب ،فمتى تحقق فيه الشرطان كان عدلا وضربا من ضروب الرعاية العامة للأمر ، كتسعيرة اللحوم والأخباز والأدوية ،ونحو هذه الأمور مما هي مجال للتلاعب بأسعارها ، وظلم الناس في بيعها وإن تخلفا أو أحدهما كان ذلك ظلما . وخلاصة أقوال وآراء العلماء والفقهاء : – أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير ،فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان ، تسعير عدل لا وكس ولا شطط ، فإذا اندفعت حاجتهم ، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل . ـ وأن العدل هو أساس النظام الاقتصادي في الإسلام ،فلا إفراط ولا تفريط فيما يتعلق بحقوق الأفراد . ـ وأن الأصل في التسعير هو الحرمة ،إلا أنه قد تعرض عوارض تجعل من التسعير أمرا لا مفر منه ،باعتباره ضرورة ،وعلى هذا أجازه من أجازه من الفقهاء. ـ وأن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير ليس على إطلاقه عند كثير من الفقهاء بل هو واقعة حال ،أملاها أن التجار لم يرفعوا السعر ظلما ،بل لأسباب خارجة عن إرادتهم، فإذا ارتفع ظلما جاز التسعير عند هؤلاء. ـ وأن بعض الفقهاء يرى جريان التسعير في جميع السلع وبعضهم يخصه بالمثليات. ـ وأن قرار التسعير لا يؤخذ بانفراد ،بل لابد فيه من المشورة ،ومن مراعاة العدل والإنصاف، لئلا تضيع الحقوق وتقع الأضرار.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : أحكام التسعير ، وحديث ( إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الفوائد والأحكام المستنبطة من هذا الحديث النبوي الكريم : ففي الحديث دليلٌ على أنَّ المُسَعِّر من أسماء الله تعالى، وأنها لا تنحصر في التسعة والتسعين المعروفة ، وقد ورد في الحديث: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ …» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وأن تحريم التسعير من كونه مظلمةً، والظلم حرامٌ قطعًا، فقد حرَّمه الله تعالى على نفسه وعلى عباده ،ومنه تبرز علَّة التحريم المتمثِّلة في إجبار البائع وإكراهه في البيع بغير رضاه، وهو منافٍ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]. ـ وظاهر الحديث أنَّ التسعير حرامٌ في كلِّ الأحوال بدون فرقٍ بين المجلوب والحاضر، ولا فرْقَ ـ أيضًا ـ بين حالة الرخص وحالة الغلاء، وهو مذهب الجمهور، ويرى آخَرون جواز التسعير في وقت الغلاء دون الرخص، ـ وظاهر الحديث لم يفرِّق ـ أيضًا ـ في المنع بين ما كان قوتًا للآدمي والبهيمة وبين ما كان من غير ذلك: كالإدامات وسائر الأمتعة، وعليه الجمهور، وجوَّز جماعةٌ من المتأخِّرين ـ وفيه أنَّ التسعير حَجْرٌ على حرِّيَّة الأفراد وتضييقٌ على تصرُّفاتهم. وفيه دليلٌ على أنَّ السعر لم يكن موجودًا في مجتمعه صلَّى الله عليه وسلَّم، لذلك سألوه في أن يسعِّر لهم ولم يجبهم إليه. ـ ومفهوم الحديث جواز أن يبيع أقلَّ ممَّا يبيع الناس، ورُوي عن مالكٍ -رحمه الله- أنه قال: «يُلزمه الحاكم أن يبيع على وفق ما يبيعه الناس» استدلالًا بواقعة عمر مع ابن أبي بلتعة رضي الله عنهما ـ وفي الحديث تحذيرٌ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأمَّته من الوقوع في مظالم الناس عامَّةً، سواءً في الدماء أو الأموال، ولذلك أراد لقاء الله بريئًا من تبعيَّتها.
الدعاء