خطبة عن حسن قضاء الدين وحديث (إِنَّ خَيْرَ عِبَادِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً)
يناير 4, 2020خطبة عن أحكام التسعير وحديث (إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ)
يناير 4, 2020الخطبة الأولى ( العطاء )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (5) :(7) الليل ، وروى البخاري في صحيحه : (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رضى الله عنهما – قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى فَقَالَ « خُذْهُ ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ ، فَخُذْهُ ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ »
أيها المسلمون
الحياة الدنيا تقوم على التبادُل، وتسير الحياة على قانون الأخذ والعطاء، وهذا القانون هو من أوضح قوانينها في كل تفاصيل الحياة، فما أراد شيئاً قدَّمَ مقابله ، ما يستطيع من خلاله الحصول على شيئه، فهو قانون متمكِّنٌ في كل شؤون الناس، بلا استثناء لشيء منها. قال الله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) الزخرف 32، والعطاءُ صفةٌ ذاتيةٌ، مغروزة في الأنفس الكريمة، لأنه صفةُ كرم وكمال، والشيءُ حيثُ مَغْرَسُه، تتنوَّع مظاهره وصوره في حياة المُعطي، وتختلف العطاءات باختلاف الأحوال، وأجودها ما كان مناسباً في كل جهات العطاء ، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. فَلَقِىَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ ». ، والعطاء من أصول صناعة الحياة، ومن الأُسس التي تجعل الإنسان راغباً في الحياة، لأنه يجد في العطاءِ تحقيقاً للكثير من كمالات بناءِ كمال ذاته، ففيه كمالُ الأفعال، غيرَ ما هو مضمون في قانون العطاء من ردِّ الشيءِ المُعطى بالأضعاف، والحياة جعل الله فيها كرَماً، فمن أعطى شيئاً للحياة ، أُعطِيَ ليكون حياةً ، وقد روى الإمام أحمد في مسنده : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ بَيْنَمَا عَائِشَةُ فِي بَيْتِهَا إِذْ سَمِعَتْ صَوْتاً فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ مَا هَذَا قَالُوا عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ فَكَانَتْ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ – قَالَ – فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ مِنَ الصَوْتِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْواً ». فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ إِنِ اسْتَطَعْتُ لأَدْخُلَنَّهَا قَائِماً . فَجَعَلَهَا بِأَقْتَابِهَا وَأَحْمَالِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )
والعطاء سرٌّ من أسرار الخلود في الحياة، فليس هو مجرَّد صفةٍ أو خُلُقٍ، يتحلَّى به الإنسان، وإنما هو عنصر مهم في إبقاء الإنسان، وإبقاء جواهر الحياة وحقائقها دائمة تسري في الوجود ، لأجل هذا كان العطاء قانوناً ،ولم يكنْ خُلُقاً فقط، وقُيِّدَ الكثير من الأمور ليتحقَّقَ بإقامة العطاء، وعندما نُدرك هذا المعنى ،فإننا سنكون راغبين كثيراً في أن ننتهز كل فرصة تواتينا ، لبذل العطاء ، وهنا يأتي دور تنوُّع العطاء، فليس العطاءُ بذلَ المال فقط ، ولا النجدةَ بالوقت، ولا منْحَ الجُهد فقط ، إنما هو في نفس الوقت أساسه تحقيقُ أثرٍ من خلال بذلٍ، والآثار ليست واحدة، حيثُ اختلاف الحاجات، فحاجات الحياة كثيرة جداً، وأجود الحاجات ما كان ظاهراً في الوقت حينها، فهنا يكون العطاء أعظم وأنبل، فليس عطاءً محموداً في زمن اغتناء الناس بذلُ المال، ولا في زمن الجهل أيضاً، فقيمة العطاء في قيمة الحاجة الظاهرة. ومن المعلوم أن أجود العطاءات؛ هو عطاءُ العقلِ، في تنميته بالعلم والمعرفة والتفكير والتأمل، في كل ما يحتاجه الناس مما يهم حياتهم، وأجود هذا العطاء ما كان جوهراً، وكان إضافة متينة، وكان زائداً بالتميُّز عن سابقه، والتكرارُ للسابق ليس عطاءً له قيمة في الحاضر، فلكل عصر علومه ومعارفه ، وقد روى البخاري في صحيحه : (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – : « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ »، وكذلك عطاءُ الجسد ، فهو من أجود العطاءات، إذ فيه حفظٌ لقيمته، وصيانة لبنائه، ورعاية لصحته وسلامته، من حيث أمورٍ كثيرةٍ متعلقة فيه، ولا تكون عطاءات الجسد سليمة، بل لا تتحقَّق، إلا بعد أن تكون عطاءات العقل، والعطاءُ يُجوَّدُ أثرُه في تجويد أصله. ومن الملاحظ أن قيمة العطاء بقيمة المُعطي، فليس لائقاً بالكبيرِ أن تكون عطاءاتُه كعطاءات الصغار، ولا بالغني كعطاءات الفقير، ولا بالسلطان كعطاءات الرعية، فالعطاءات على الوجاهة والمناصب، وعندما تكون العطاءات أقلَّ من مقام المُعطي ،فإنه أقرب إلى الإمساك بُخلاً عن الجودِ عطاءً، ويُلاحظ في ذلك مناسبةُ العطاء للمُعطَى، فليس أيضاً لائقاً بالصغير أن ينال عطاءات ينالها الكبار، وهكذا، فالشأن في التناسُب ومراعاته ، وقد روى النسائي في سننه : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَقْعُدُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ فَالنَّاسُ فِيهِ كَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَقَرَةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ شَاةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ دَجَاجَةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ عُصْفُورًا وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَيْضَةً )
أيها المسلمون
وطلب العطاء ليس عيباً، فما جرَى العطاءُ إلا بالطلب، سواءً أكان طلباً محسوساً، أو كان طلباً مُسْتَشْعَراً، وذاك أن العطاء غالبَ حاله ،أنه لا يكون إلا كذلك، فإن جاءَ الطلبُ فليكُن المُعطي سبَّاقاً، فهي فُرَصٌ قد لا تعود، وحيث يجيء الطلب فإن في مضمونه تميُّزٌ. وفي مسند أحمد : أن (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ بَلَغَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلاَ يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ ». ومن الثابت أنه لا عطاء يضيع، فكل عطاءٍ ستعود ثمارُه على المُعطي، وسيُدرك ذلك يقيناً، فقط؛ ليكن معطاءً بجودٍ وصدقٍ ونفسٍ طيبة في العطاء، وحينما تعود أرباح العطاء ، فإنها تعود مضاعفة، لا مثْلاً بِمِثْلٍ، فهو استثمار في الحياة، وهو عطاءٌ مضمون العوائد. قال الله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (261) البقرة
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( العطاء )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وعوائد العطاء من ذاتِ المُعطى، فمن أعطى مالاً عاد إليه مالٌ، ومن أعطى جُهداً أُوتي بمثل، كل عطاء يُكافأ صاحبُه بمثل ما أعطى، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ..) فقوله صلى الله عليه وسلم :{ واللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى إعَانَةَ مَنْ أَعَانَ أَخَاهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَوَلَّى عَوْنَهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ الَّتِي يَسْعَى فِيهَا ، وَفِي حَوَائِجِ نَفْسِهِ فَيَنَالُ مِنْ عَوْنِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَنَالُهُ بِغَيْرِ إعَانَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ لِعَبْدِهِ فِي كُلِّ أُمُورِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ زَادَتْ إعَانَةُ اللَّهِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِقَضَاءِ حَوَائِجِ أَخِيهِ فَيُقَدِّمُهَا عَلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ لِيَنَالَ مِنْ اللَّهِ كَمَالَ الْإِعَانَةِ فِي حَاجَاتِهِ ، وَهَذِهِ الْجُمَلُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي الْعَبْدَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ فَمَنْ سَتَرَ سُتِرَ عَلَيْهِ وَمَنْ يَسَّرَ يُسِّرَ عَلَيْهِ وَمَنْ أَعَانَ أُعِينَ . ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ جَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدَّارَيْنِ فِي حَقِّ الْمُيَسِّرِ عَلَى الْمُعْسِرِ وَالسَّاتِرِ لِلْمُسْلِمِ وَجَعَلَ تَفْرِيجَ الْكُرْبَةِ يُجَازَى بِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ لِعَظَائِمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَخَّرَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَاءَ تَفْرِيجِ الْكُرْبَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا
الدعاء