خطبة عن (وقفات إيمانية مع آيات من سورة النحل)
فبراير 15, 2020خطبة عن (الحساب وأسس المحاسبة)
فبراير 19, 2020الخطبة الأولى ( إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه بسند حسنه ، وصححه الألباني : (عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِى سَقِيمَهُ الْمَاءَ ».
إخوة الإسلام
إن مِن حِكمةِ اللهِ سبحانه وتعالى أنَّ يَبتَلي عبدَه المؤمِنَ المحسِنَ ،بالمنعِ مِن بعضِ الأشياءِ الَّتي يَراها النَّاسُ خيرًا وفضلًا في الدُّنيا، ولكنَّ هذا الابتِلاءَ يَكونُ للتَّمحيصِ، ولخيرٍ أرادَه اللهُ للعبدِ المؤمن، وقد لا يَرى أو لا يَعلَمُ المبتلَى بعِلَّةِ المنعِ، ولا بجَزاءِ الصَّبرِ عليه. وفي هذا الحَديثِ المتقدم يَقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم : ” إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا “، أي: حَفِظه مِن كلِّ ما يُضِرُّ بدِينِه مِن الدُّنيا ” كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِى سَقِيمَهُ الْمَاءَ “، أي: كفِعْلِكم مِن مَنعِكم المريضَ مِن شُربِ الماءِ في بعضِ الأمراضِ، وهذا ضَربٌ مِن التَّربيةِ النَّبويَّةِ والتَّعليمِ للمُسلِمين، وتَثبيتِهم على شَدائدِ الدُّنيا، وأنَّها تَجْري بقَدَرِ اللهِ، فلا يَجزَعُ المسلِمُ ،ولكن يُفكِّرُ في حِكْمةِ اللهِ، ويَصبِرُ على قَضائِه، ويُوقِنُ بأنَّ اللهَ اختار له الخيرَ. وفي شرح الحديث : قال المناوي في فيض القدير:( إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا) أي حفظه من متاع (الدنيا) فحال بينه وبين نعيمها ،وشهواتها ،ووقاه أن يتلوث بزهرتها ،لئلا يمرض قلبه بها ،وبمحبتها ،وممارستها ، ويألفها ويكره الآخرة ، فهو جلّ اسمه يذود من أحبه عن الدنيا حتى لا يتدنس بها وبقذارتها ،ولا يشرق بغصصها، كيف وهي للكبار مؤذية ، وللعارفين شاغلة ،وللمريدين حائلة ، ولعامة المؤمنين قاطعة، والله – تعالى -لأوليائه ناصر، ولهم منها حافظ وإن أرادوها) ، ويقول الشيخ أحمد حطيبة في شرح الحديث: (قد يكون الإنسان المؤمن طالباً للمال وللدنيا، فيكدح ويتعب، ورزقه قليل، وقد يظن في نفسه أنه محروم، والله أعلم أن هذا العبد لو نال هذا المال فلعله يشقى، ويصير تعيساً في الدنيا والآخرة، ولعله يفتن به، فإذا بالله لحبه له يحرمه من هذا المال، فلا يناله، فلعله يحزن إن فاته، ويؤجر على حزنه، ويؤجر على همه وحزنه ، ويوم القيامة يجد الطريق إلى الجنة مفتوحاً له،
أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد:20] ، قال قتادة: الدنيا متاع متروك ، توشك أن تضمحل بأهلها ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع، والله جل شأنه إذا فتح الدنيا وزينتها على العصاة فإنما هو استدراج، قال الله تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة:55] ، يقول ابن الجوزي: تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان : عُد منع الله إياك عطاء منه لك، فإنه لم يمنعك بخلا، إنما منعك لطفا، فرأيته كلام من قد عرف الحقائق، فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزه أصلح له، لأنه لو قدر عليهن تشتت قلبه، ولذلك حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من التكالب على الدنيا، ففي الصحيحين : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ : « أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ ». فَقَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : « فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ. وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ». فحلوة الدنيا مرة الآخرة ،ومرة الدنيا حلوة الآخرة ، فلا تجتمع الرغبة في الدنيا والرغبة في اللّه تعالى والدار الآخرة ، ولا يسكن هاتان الرغبتان في محل واحد إلا طردت إحداهما الأخرى واستبدت بالمسكن، فإن النفس واحدة والقلب واحد، فإذا اشتغلت بشيء انقطع عن ضده، ولهذا قال روح اللّه عيسى ( عليه السلام ) : (لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد)
أيها المسلمون
هكذا عرف الله أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها ،حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها ،فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها، ولا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها. إن أحسنت ساعة أساءت سنة، وإن أساءت مرة جعلتها سُنة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بينها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة. فكل مغرور بها إلى الذل مصيره، وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره، شأنها الهرب من طالبها ،والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته ،ومن أعرض عنها واتته، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات، ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم. فهي خداعة مكارة ،طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها ،حتى إذا صاروا من أحبابها ، كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها، وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها، ورشقتهم بصوائب سهامها، بينما أصحابها منها في سرور وإنعام، إذ ولت عنهم كأنها أضغاث أحلام. ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد، ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحدا منهم جميع ما طلعت عليه الشمس ،جعلته حصيدا كأن لم يغن بالأمس، تمني أصحابها سرورا، وتعدهم غرورا ،حتى يأملون كثيرا، ويبنون قصورا، فتصبح قصورهم قبورا، وجمعهم بورا، وسعيهم هباء منثورا، ودعائهم ثبورا ، أما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحق أن يحسب حسابه وينظر إليه ويستعد له قال الله تعالى : {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} الحديد 20، فالآخرة لا تنتهي في لمحة ،كما تنتهي الحياة الدنيا ،وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله، ولكنها حساب وجزاء ، ودوام يستحق الاهتمام!
أيها المسلمون
وإذا كانت الحياةُ الدنيا مليئة بأنواع الملاذِّ والشهوات؛ مِن النساء، والأموال، والأولاد، والأنعام، والزرع، كما قال الله عز وجل: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، فقد زيَّنَها الله عز وجل للناس ابتلاءً وامتحانًا لهم، هل يُقدِّمون محبَّتهم لها على محبة الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم! ، فقويُّ الإيمان لا يُقدِّم أيَّ شيء منها على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما ضعيف الإيمان، فيجعلها أكبرَ همِّه، ومبلغ علمِه، فتُغرِقه وهو لا يشعُرُ. فزينة الدنيا يغترُّ بها الذي لا يعرفُ حقيقتها تمام المعرفة، فتراه يلهو بها بقلبه، ويلعبُ بها ببدنه، ويُكاثِر فيها، ويفخَرُ على غيره بما ملَك منها، وفي النهاية يذهَبُ ويتركها، فمَثَلُه كمَثَلِ غيثٍ نزل على الأرض فأنبتت الأرضُ واخضرَّت، وأَعجَب الكفَّارَ نباتُها، ثم جاء أمرُ الله تعالى فأتلَفَها كأنْ لم تكن،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وخشيتُه صلى الله عليه وسلم على أمَّتِه من زهرة الدنيا سببُها أن الناس إذا فُتِحَت عليهم الدنيا تنافَسُوا فيها؛ فعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى ، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا » (متفق عليه) ، وإذا تنافسوا فيها أهلَكَتهم، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ « آلْفَقْرَ تَخَافُونَ أَوِ الْعَوَزَ أَوْ تُهِمُّكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ فَاتِحٌ لَكُمْ أَرْضَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَتُصَبُّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا حَتَّى لاَ يُزِيغَكُمْ بَعْدِى إِنْ أَزَاغَكُمْ إِلاَّ هِيَ ». [أخرجه أحمد]. وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ » [متفق عليه]. قال الشيخ عبدالعزيز الراجحي: والمعنى أن هذا التنافس لا يزال بالناس ،حتى يصلَ بهم إلى ارتكاب المحرَّمات والمعاصي ،التي يأثمون بفعلها، فتُوقِعهم في الهلاك، ويستحقون العقوبة والعذاب، فنعم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِى سَقِيمَهُ الْمَاءَ ». فأكبر نعمةٍ على العبد المؤمن؛ أن يحميَه الله من الدنيا لأنه جل جلاله يحبُّه، فليحمَدِ العبدُ اللهَ كثيرًا أنْ حماه اللهُ مِن الدنيا، فالإنسان إذا لم يحمِه الله مِن الدنيا وزينتها، أَلْهَتْه عن آخرته، وبقي في غفلة عمَّا خُلِق له، فكم من إنسان أعطي الدنيا فاغترَّ وهلك!
الدعاء