خطبة عن (أَهْلِ الْجَنَّةِ وأَدْنَاهم مَنْزلَة)
يناير 15, 2020خطبة عن عاقبة الظلم (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)
يناير 18, 2020الخطبة الأولى ( وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ .. وأَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيك )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه بسند حسنه : (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ ».
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم أن شاء الله مع هذا الأدب النبوي الشريف ، ففي هذا الحَديثِ يقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “إنَّ أطْيبَ”، أي: أفضلَ وأهنَأَ “ما أكَلْتُم”، أي: ما استفَدْتُم به منَ المالِ في سائرِ أحوالِكُم؛ وعبَّرَ بالأكلِ لأنَّه أغلبُ الحالِ في الاستفادةِ مِن المالِ “مِنْ كسبِكُم”، أي: ما أخَذتُمُوه بسببِ ما عمِلتُم بأيديكم وأنفُسِكُم في الصِّناعةِ أو التِّجارةِ أو الزِّراعة؛ قيلَ: وسببُ ذلك الفَضلِ أنَّ في الكَسْبِ حُسنَ تَوكُّلٍ على اللهِ تعالى ، ثمَّ بيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ حُكمًا متعلِّقًا بالمال والكسِبِ أيضًا، فقال : “وإنَّ أولادَكم مِن كَسْبِكم”، أي: ما عَمِلوا بأيديهم كأنَّ والدَه عَمِلَه، فإنْ أكَل منه الوالدُ فهو أطيبُ الرِّزقِ أيضًا؛ لأنَّ ولَدَ الرَّجُلِ جزءٌ منه ،والوالدُ قد طلبَه وسَعَى في تَحصيلِه؛ فحُكمُه حُكمُ نفْسِه، فهو مشاركٌ له ،وله الأكلُ مِن مالِ ولدِه ، سواءٌ أذن الولد أو لا، وللوالدِ أنْ يتصرَّفَ بمالِ ولدِه كما يَتصرَّف بمالِه، ما لم يكُن ذلك على وجهِ السَّرفِ والسَّفهِ ، وهذا مما يدل على عِظَم حقِّ الوالدِ على أَولادِه. وروى ابن ماجة في سننه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : (أَنَّ رَجُلا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ لِي مَالا وَوَلَدًا وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي ،فَقَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيك . ” ، وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ , وَلا يَأْكُلُ الْوَلَدُ مِنْ مَالِ وَالِدِهِ إلا بِإِذْنِهِ . ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : يَأْكُلُ الْوَالِدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ , وَلا يَأْكُلُ الْوَلَدُ مِنْ مَالِ وَالِدِهِ إلا بِطِيبِ نَفْسِهِ . ومن فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ان حديث “أنت ومالك لأبيك” معناه : أن الإنسان إذا كان له مال فإن لأبيه أن يتبسط بهذا المال ،وأن يأخذ منه ما شاء ، ولكن بشروط : أولها : ألا يكون في أخذه ضرر على الابن فإن كان في أخذه ضرر كما لو أخذ غطاؤه الذي يتغطى به من البرد أو أخذ طعامه الذي يدفع به جوعه فإن ذلك لا يجوز للأب . ثانيها : وكذلك يشترط ألا تعلق به حاجة الابن فلو كان عند الابن أمة يتسراها فإنه لا يجوز للأب أن يأخذها ،لتعلق حاجة الابن بها ،وكذلك لو كان للابن سيارة يحتاجها في ذهابه وإيابه ،وليس لديه من الدراهم ما يمكنه أن يشتري بدلها ، فليس للأب أن يأخذها ، في مثل هذه الحال . وثالثها : ألا يأخذ المال من أحد أبنائه ،ليعطيه لابن أخر ،لأن في ذلك إلقاء للعداوة بين الأبناء ، ولأن فيه تفضيلاً لبعض الأبناء على بعض ، إذا لم يكن الثاني محتاجاً ،فإن كان محتاجاً فإن إعطاء الأب أحد ابنائه لحاجته دون أخوته الذين لا يحتاجون ليس فيه تفضيل، بل واجب عليه .
أيها المسلمون
وقد ذُكرت لهذا الحديث قصَّةٌ مُؤثِّرة وردَتْ في رواية الطبراني والبيهقي عن جابرٍ – رضِي الله عنه – قال: جاء رجلٌ إلى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي أخَذَ مالي، فقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – للرجل: (اذهَبْ فأتِني بأبيك)، فنزل جبريل – عليه السلام – على النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – يُقرِئك السلام ويقول لك: إذا جاءَك الشيخ فسَلْه عن شيءٍ قالَه في نفسه ما سمعَتْه أذناه، فلمَّا جاء الشيخ قال له النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ما بال ابنك يَشكوك، أتريد أخْذ ماله؟ قال: سَلْهُ يا رسول الله، هل أُنفِقه إلا على إحدى عمَّاته أو خالاته أو على نفسي! فقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إيهٍ! دَعْنا من هذا، أخبِرنا عن شيءٍ قُلتَه في نفسك ما سمعَتْه أذناك)، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يَزال الله يزيدنا بك يقينًا! لقد قلتُ في نفسي شيئًا ما سمعَتْه أذناي فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (قُلْ وأنا أسمع)، قال : قلت :
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
قال: فحينئذٍ أخذ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بتلابيب ابنه وقال: (أنت ومالُك لأبيك) ، وذكَر الزمخشري أنَّ رجلاً شكا إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أباه وأنَّه يأخُذ ماله، فدعا به، فإذا شيخٌ يتوكَّأ على عصا، فسأله، فقال الشيخ : إنَّه كان ضعيفًا وأنا قوي، وكان فقيرًا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئًا من مالي، واليوم أنا ضعيفٌ وهو قوي، وأنا فقيرٌ وهو غني، ويبخل عليَّ بماله، فبكى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقال: (ما من حجرٍ ولا مدرٍ يسمع هذا إلا بكى)، ثم قال للولد: (أنت ومالُك لأبيك، أنت ومالُك لأبيك).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ .. وأَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيك )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إنَّ منزلة الوالدين في شريعة الإسلام منزلةٌ رفيعة؛ فالأب والأم هما سبب وجود الإنسان، وهما اللذان تعهَّداه بالرعاية والعناية، ولولا أنْ يقوم الوالدان برعايته وإرضاعه، وتنظيفه ومُداواته – لهلك حتمًا؛ لأنَّه وُلِدَ أضعف ما يكون مخلوق، فأحسَنَا إليه غايةَ الإحسان، فكان عليه أنْ يُقابِل هذا الإحسان بالبرِّ والطاعة؛ يقول الله تعالى -: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]. وقال الله سبحانه -: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23-24]. وقد حرَّم الله على الولد أنْ يقول لوالديه: (أف) إذا كلَّفاه بأمرٍ من الأمور، وأمَرَه أنْ يخفض لهما جَناحَ الذلِّ من الرحمة، وأمَرَه أنْ يُصاحِبهما في الدنيا معروفًا ،ولو كانا كافرين يدعوانه إلى الشرك؛ قال الله تعالى : ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 15]. ومجتمعنا الإسلامي يتميَّز ببرِّ الآباء والأمَّهات ،والعناية بهم وطاعتهم، وهذا ما يُميِّزنا عن المجتمعات الأخرى، ولقد أدرَكْنا أنَّ العاقَّ لوالديه لا يُوفَّق في دُنياه، ولَعذابُ الآخِرة أشدُّ وأبقى .
الدعاء