خطبة عن حديث (مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ الْجَسَدَ وَهُوَ بَرِىءٌ مِنْ ثَلاَثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
مارس 14, 2020خطبة عن شرط قبول العمل الصالح (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
مارس 14, 2020الخطبة الأولى ( وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لم يبلغه ، ولَنْ يُصِيبَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الإمام الدارمي في “سننه” وصحَّحه الألباني في “الصحيحة” : أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ ، أَنبَأَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي ، يُحَدِّثُ ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ” كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ ، فَإِذَا خَرَجَ ، مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قُلْنَا: لَا، بَعْدُ ، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ ، فَلَمَّا خَرَجَ، قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ – وَالْحَمْدُ لِلَّهِ – إِلَّا خَيْرًا ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حصًا، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً ، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً ، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً، فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً ، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ ؟ ، قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتظارَ أَمْرِكَ ، قَالَ : ” أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ ” ، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: ” مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ ” قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ ، قَالَ: ” فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ ” ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: ” وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ” ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ ” . وفي رواية للأثر : ( فَأَتَاهُمْ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ، وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا، فَقَالَ: ” أَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، أَوْ لَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا ” . فَقَالَ مِعْضَدٌ: وَاللهِ مَا جِئْنَا بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، وَلَا فَضَلْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عِلْمًا. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَسْتَغْفِرُ اللهَ ، قَالَ: ” عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ، فَوَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّنَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ” .
إخوة الإسلام
لقد كانت بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – أكبر حدث شهدته البشرية قاطبة، فقد كانت بعثته بمثابة الحجر الذي حرك المياه الراكدة في بحيرة الفكر الإنساني آنذاك، والتي انطوت على كثير من العقائد الفاسدة، والتصورات الواهمة، جُلَها راجع للعضِّ بالنواجذ على موروثات خربة من الآباء والأجداد، ورثتها الأجيال كابراً عن كابر، ولسان الحال والمقال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].وزاد من ذلك الحال المزري إعمال العقول القاصرة في غير موضعها، والأقيسة التي يجانبها الصواب، واعتداد ذو الرأي برأيه، والانتصار لصوت الكِبر والعُجب في القلب ، ليعلو فوق صوت الفطرة النقية، فجاءت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- لتقلب ذلك كله رأساً على عقب، وتُحدث زلزالاً هائلاً، وتفجيراً مُدوّيا لتصحيح الأوضاع ، وجاهد -عليه الصلاة والسلام- في الله حق جهاده، ودعا الناس لدين رب العالمين، حتى أظهره الله ودخل الناس في دين الله أفواجا، وبلَّغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته شرع ربه بهذه الصورة الكاملة، وبتلك الأمانة المطلقة، دون زيادة أو نقصان، وتكفُّل المولى -تبارك وتعالى- بحفظ الدين على أهله ، فقال الله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. فوجب على أتباع هذا الدين مزيداً من الاتبّاع للشرع الحنيف، والاستنان بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، دون الحاجة لدعاوى المُدّعين للعبث بالشرع بزعم مسايرة العصر أو مجاراة الواقع،
أيها المسلمون
” وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ ” و “وكم من مريد للخير لم يبلغه” فهي قاعدةٌ جليلة ، يذكرها العلماء في كتبهم ومصنّفاتهم وحواراتهم لأهل البدع، وهي كما سبق مأخوذة من هذا الأثر المشهور والذي رواه الدارمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فالكثير من أصحاب البدع ، والمتلبّسين بالمحدثاتِ من أمور الشريعة، يبتدعون صلواتٍ وأذكاراً وعباداتٍ على هيئةٍ معيّنة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا ورد فيها نصٌّ شرعيٌّ يثبت صحّة تلك الطريقة المحدثة من الدين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويريدون الخير، ويطلبون المزيد من الأجر، وكم من مريدٍ للخير لم يبلغه. وكونهم لم يبلغوا الخير الذي يريدونه حاصل بسبب أن ما يلتزمون به من العبادات المحدثة مردودةٌ عليهم، وغير مقبولةٍ عند معبودهم سبحانه وتعالى؛ لأن المحدثات في الدين لا يتقبّلها الله ، بل هي باطلة، وليس أدلّ على ذلك من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ » ، والمشكلة أن من يقع في البدع لا يرى أنه مخطئ بالضرورة، بل حُجب عنه إبصار مكمن الخطأ فيها: وهو مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيظلّ مجتهداً فيها، متحمساً لنشرها والدعوة إليها، والصبر على الأذى فيها، وتحمّل مشاقّها، ولم يدرك حقيقة الأمرِ ولبّه: أن كل خير في اتباع من سلف، وكل شرٍّ في ابتداع من خلف. وفي قصة الثلاثة الذين ذهبوا لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا أزواجه عن عبادته، فكأنهم رأوْها قليلة، فأرادوا خيراً، فاخترعوا طرقاً للعبادة واستحدثوها، ففي صحيح البخاري : ( أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضى الله عنه – يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » ، فلا مجال إذن للاختراع والابتكار في الدين مهما كان الدافع حسناً، فالنية الحسنة لا تصحّح العمل؛ إذ لا بد لقبول أي عمل من أن يتوافر فيه شرطان: أولهما: الإخلاص، وثانيهما: أن يكون وفق الشرع؛ فلا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان خالص النية صواب الطريقة
أيها المسلمون
لقد أتم الله تعالى لنا الشرع، وانقطع الوحي بموت النبي – صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. فإنّ حاجتنا اليوم لمزيد من اقتفاء آثار سلفنا الصالح وعلى رأسهم نبينا -عليه الصلاة والتسليم- لحاجة ماسّة، لاسيّما وسط هذا الجهل المطبق بأمور الدين من السواد الأعظم من الأمة، واتّخاذ الناس كتاب الله وراءهم ظهريّاً، وتباعد الزمن عن خير القرون، والانغماس حتى الآذان في حياة مادية قـُح. وإلاّ نفعل تكن رجعية حقيقية، ورٍدّة حضارية لا تقوم لنا بعدها قائمة،
أيها المسلمون
وفي هذا الأثر جملة كبيرة من الفوائد، تستَدعِي الوقوف عليه مِرارًا، وقد كان على كلام ابن مسعود – رضِي الله عنه – نورٌ يُشبِه نور النبوَّة؛ لِمَا أُوتِي من عقل راجح، وفقه نفس، وإدامَة نظر في نصوص الوحيَيْن، كحال كثيرٍ من أصحاب نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذين هم هُداتُنا إلى الحقِّ؛ كما في حديث: « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ » رواه مسلم ، أما الفائدة الأولى ، فهي : ضرورة تَواضُع الداعِيَة إلى الله، وخفض جناحه لإخوانه الدُّعَاة، فأبو موسى عالِم فقيه، وهو معلِّم أهل البصرة ووالي الكوفة، ومَعدُود من عُلَماء الصحابة وفُقَهائهم، ومع ذلك لا يَستَنكِف عن الجلوس مع تَلامِذة ابن مسعود أمام بيت شيخهم! بل ويقوم معهم له، ويُكَنِّيه ولا يُنادِيه باسمه. أما الفائدة الثانية ، فهي : عدم الاغتِرار بالخير إذا تضمَّن شرًّا، كما قال أبو موسى – رضِي الله عنه -: إني رأيتُ في المسجد آنِفًا أمرًا أنكرتُه، ولم أرَ – والحمد لله – إلا خيرًا. فهو أنكَرَه؛ لأنه لم يَعهَدْه من قبلُ، ولم يره شَرًّا؛ لأنه ذِكْرٌ لله وطاعة له – سبحانه وتعالى – في ظاهر الأمر ، ومع ذلك لم يغترَّ به؛ بل جاء ابنَ مسعود يستَوضِحه ويستَفتِيه، وهو واجِبُ الدُّعاة عند اشتِباه الأمور وتَداخُل الخير والشرِّ ، وكثيرٌ من الناس إنما يَدخُل عليه الشرُّ من باب الخير؛ ولهذا يعمد أصحاب البِدَع إلى تزيين بِدَعِهم وإلباسها لباس الشرع والدين.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الفوائد المستنبطة من هذا الأثر : استِيضاح الداعِيَة للأمور، وحرصه على اكتِمال التصوُّر الصحيح للحال حوله، وعدم التعجُّل في السماع أو الحكم، وهذا يُؤخَذ من قول ابن مسعود لأبي موسى – رضي الله عنهم جميعًا -: فما هو؟ ، وقوله: ماذا قلتَ لهم؟ ، وقوله لبعض هذه الحِلَق: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ وإن كان هذا الأخِير ربما خرج مخرج الاستِنكار، فإلمام الداعية بعلم ما حولَه يجعله أكثر فَهْمًا للواقع، وأكثر إصابةً للحقِّ. أما الفائدة الرابعة ، فهي : رجوع الداعِيَة إلى مَن هو أعلم منه ،أو أفقه في واقعة معيَّنة إذا ما تطلَّب الأمر، لا سيَّما إذا أَشْكَلَ الأمر عليه ولم يَتَّضِح، فالواجب عليه أن يتوقَّف وأن يكون له مرجعيَّة، كما فعل أبو موسى مع ابن مسعود – رضي الله عنهم جميعًا. أما الفائدة الخامسة ، فهي : وجوب تحرُّك الداعِيَة إلى الله وتفاعُله مع مجتمعه، وعدم اكتِفائه بالتَّنظِير والتَّأصِيل فقط، فابن مسعود لَمَّا سمع عن أمر هذه الحلق، أتاها وزجر أصحابها ووَبَّخَهم، وهذا هو عمل كلِّ أصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأئمَّة الدين، فالبِدَع والمُنكَرات لا بُدَّ أن تُنكَر على أصحابها في مجالسهم ومجامعهم، ولا يُكتَفَى بالإنكار العام، الذي عادَةً لا يبلغ أهلَ البِدَع، أو يبلغهم مُشوَّشًا غير واضح، وقد كرَّر ابن مسعود كلماته الإنكاريَّة لَمَّا بلغه أمر هذه الحِلَق، ولَمَّا جاءَها. أما الفائدة السادسة ، فهي : إنكار الداعِيَة إلى الله على مَن خرج عن الجماعة ،بقول ،أو فعل ليس من هديهم؛ لأن الحقَّ يدور معهم؛ إذ لا يجتَمِعون أبدًا على ضلالة، وكما قال ابن مسعود – رضِي الله عنه -: هؤلاء صحابة نبيِّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم – مُتوافِرون، ولم يصدر منهم الذي تَفعَلون؛ بل ولم يَستَسِيغوه، فكيف تُقِيمون عليه؟ ، والفائدة السابعة : تعريف المُبتَدِع أنه على أحد أمرَيْن؛ الأوَّل: على ما هو خيرٌ ممَّا كان عليه النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأصحابه – رضِي الله عنهم! ، والثاني: أنه على أمرٍ لم يكن عليه النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ولا أصحابُه، وهو الضلالة والبدعة؛ إذ هو استِحسان لما ترَكَه النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – مع إمكانيَّة فعله. لهذا قال لهم ابن مسعود – رضِي الله عنه -: والذي نفسي بيده، إنَّكم لعلى ملَّة هي أهدى من ملَّة محمد، أو مُفتَتِحو باب ضلالة. والفائدة الثامنة : أنَّ القُرْبَ من العُلَماء والدُّعَاة والبعد عنهم – زمانًا ومكانًا – ممَّا يُعوَّل عليه في تقدير حجم الخطأ، وهذا ممَّا يُدرَج في قضيَّة العذر بالجهل، وعلاقته بإمكانيَّة تحصيل العلم، وابن مسعود هنا زادَ إنكارُه على أصحاب هذه الحِلَق، لقُرْبِهم من العهد النبوي ومُعايَشَتِهم لأصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال لهم: وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تُكسَر! ، لم يَطُل بكم الزمان فيَندَرِس العلم، فكيف بكم إذا طال الأمد؟! ، والفائدة التاسعة : أنَّ عادة أهل البِدَع الميلُ إلى الهوى، وترْك تحرِّي الهدى أو ضعفه، فأصحاب هذه الحِلَق مالوا إلى أهوائهم دُونَ أن يُراجِعوا أحدًا من أصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهم مُتوافِرون، ومع علمهم أنَّ الصحابة هم أهل العلم والهدى. بل ولم يرجعوا بعد حديث ابن مسعود لهم، كما قال عمرو بن سلَمة: رأينا عامَّة أولئك الحِلَق يُطاعِنُوننا يوم النهروان مع الخوارج! ، والفائدة العاشرة : أنَّ العبرة ليست بإرادة الخير وحسب؛ بل لا بُدَّ من سلوك الطريق الصحيح للخير بعد إرادته، كما جرى بين ابن مسعود وهؤلاء القوم لما قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ، ما أردنا إلا الخير، فقال لهم: وكم من مُرِيدٍ للخير لن يصيبه؛ لأنه لم يسلك جادَّته، وهذا ما يُعَبِّر عنه العُلَماء بقولهم: النيَّة الصالحة لا تُصلِح العمل الفاسد. والفائدة الحادية عشرة : أنَّ أهل البِدَع قد يجتَمِع فيهم الجهل والهوى معًا، كما هو حال هؤلاء الذين حذَّرهم ابن مسعود – رضِي الله عنه – من طريقة الخوارج، ثم اتَّبعوهم وقاتَلُوا معهم صحابة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم! ، والفائدة الثانية عشرة : أنَّ هذه الأعمال المُبتَدَعة التي تحنَّث بها أصحاب هذه الحِلَق، لم تَزِدهم إلاَّ بُعدًا عن الحقِّ؛ إذ ظنُّوا في أنفسهم بسببها العلم والعمل، فخالَفُوا أصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وماتوا على البدعة.
الدعاء