خطبة عن ( العمل التطوعي ومنزلته في الإسلام)
نوفمبر 26, 2020خطبة عن أصناف الناس ( النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ)
نوفمبر 28, 2020الخطبة الأولى ( الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي بسند صححه : ( أن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ : .. وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ ».وفي رواية عند أحمد : « الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ ». أَوْ قَالَ « فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الأدب النبوي الكريم ، والذي يرشدنا فيه صلى الله عليه وسلم إلى مجاهدة النفس ، فالناس قسمان : قسم ظفرت به نفسه ، فملكته وأهلكته ، وصار مطيعاً لها ، وقسم ظفر بنفسه ، فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله تعالى القِسمين في قوله تعالى : (فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (النازعات:37-41). فالنفس تدعو إلى الطغيان ،وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه ،ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله ،فيقول سبحانه: (وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:16). والنفس تكون تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة ،تلوم صاحبها بعد الوقوع في السوء، وتارة مطمئنة ،وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها، وفي سنن الترمذي :(عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ». وَمَعْنَى قَوْلِهِ « مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ». حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر، «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ « (الحاقة:18). وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ). وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ). وقال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها اليوم فخسارته بدخول النار غداً ). وقال ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد”:” كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ ، وَأَصْلًا لَهُ ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا ، لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ ، وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ ، وَيُحَارِبهَا فِي اللَّهِ : لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ ، وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ : وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ ، مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ ، لَمْ يُجَاهِدْهُ ، وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ ، حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ ” وقال ابن رجب ” فهذا الجهاد يحتاجُ أيضاً إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه : غلبه ، وحصل له النصر والظفر، وملَكَ نفسه ، فصار عزيزاً ملكاً، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك ، غُلِب وقُهر وأُسر، وصار عبداً ذليلاً أسيراً في يدي شيطانه وهواه ، كما قيل: إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامه * بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ “
إخوة الإسلام
يقول الإمامَ ابنُ القيم رحمه الله: جهادُ النفس أربعُ مراتب: إحداهما : أن تجاهدَها على تعلُّمِ الهدى ودينِ الحق الذي لا فلاحَ لها ،ولا سعادة في معاشها ومعادِها إلاَّ بهِ، ومتى فاتَها علْمُه شِقَيتَ في الدارين. الثانية : أن تُجاهدها على العمل به بعد علمِه، وإلاَّ فمجردُ العلم بلا عملٍ إن لم يَضُرَّها لم يَنْفَعها. الثالثة : أن تجاهدَها على الدعوة إليه وتعليمِه مَنْ لا يعلمه، وإلاَّ كان من الذين يكتمون ما أنزلَ الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينفعه علمه ولا يُنجيه عذابِ الله. الرابعة : أن تجاهدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأَذَى الخلق وتتحَمَّلَ ذلك كلَّه لله. فإذا استكملَ هذه المراتب الأربع صار من الربَّانيين، فإنَّ السلف مجمعون على أن العالِمَ لا يستحق أن يُسَمَّى ربَّانياً حتى يعرف الحقَّ ويعمَلَ به ويعلمَه، فَمَنْ عَلِم وعَمِلَ وعلَّم فذاك يُدعى عظيماً في ملكوتِ السماوات. وفي وصية لقمان لابنه قال: (يا بُنيِّ، إن الإِيمانَ قائدٌ، والعمل سائق، والنفس حَرُونٌ، فإن فَتَرَ سائقُها ضلَّت عن الطريق، وإنْ فَتَرَ قائدُها حَزَنَت، فإذا اجتمعا استقامَتْ). فإنَّ النفسَ إذا أُطمعت طَمِعَتْ، وإذا فُوِّضَتْ إليها أساءَتْ وإذا حَمَلْتَها على أمرَ الله صَلَحَتْ، وإذا تركتَ الأمرَ إليها فَسَدَت، فاحذَرْ نفسك واتهمْها على دينك، وأنزلْها منزلةَ مَنْ لا حاجة له فيها ولا بُدَّ له منها، وإنَّ الحكيمَ يُذِلُّ نفسَه بالمكاره حتى تعترفَ بالحقِّ، وإنَّ الأحمقَ يُخَيِّرُ نفسَه في الأخلاق، فما أَحبّت منها أحبَّ وما كَرِهَتْ منها كره… ومما لا شَكَّ فيه أنَّ النفس تكَرهُ مشقةَ الطاعة، وإن كانت تعقُبُ لذَّةً دائمة، وتُحِبُّ لذَّةَ الراحة وإن كانت تعقُبُ حسرةً وندامة، فهي تكرهُ قيامَ الليل وصيام النهار، وتكَرهُ التبكيرَ في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخصٍ يجلِسُ الساعات في المقاهي والأسواق ويبخَلُ بالدقائق القليلة يجلُسُها في المسجد، تكرهُ إنفاق المال في طاعة الله، تكرهُ الجهادَ في سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]. والنفس تكرهُ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر والدعوةَ إلى الله، وتكرهُ القيامَ بالإِصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعةٍ إلا وللنفسِ منها موقفُ الممانع المعادي، فإن أنت أطعْتَها أهلكتك وخَسِرْتَها. كما قال تعالى: ﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]. فإنْ أنت أطعتَها فقد ظلمتَها حيثُ عرَّضْتَها لسَخَطِ الله وعقابه وأهنتها، وأنت تظُنُّ أنك قد أكرمتَها حيث أعطيتَها ما تشتهي، وأرحْتَها من عناءِ العمل ومشقتِهِ فحرمتَها من الثواب..
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وجهاد النفس يحتاجُ إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه، حصل له النصر والظفر، وملك نفسه، فصار عزيزاً ملكاً، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على المجاهدة ، وغُلِب وقُهر وأُسر، صار عبداً ذليلاً أسيراً في يديّ شيطانه وهواه، قال سفيان الثوري، ما عالجت شيئا أشد علي من نفسي، مرة علي، ومرة لي، فإن أعدى أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه، فإنها تحثه على نيل كل مطلوب ،والفوز بكل مرغوب ، حتى وإن خالفت أمر الله وأمر رسوله، والعبد إذا أطاع نفسه وانقاد لها هلك، أما إن جاهدها وزمها بزمام الإيمان، وألجمها بلجام التقوى، فإنه يحرز بذلك النصر، ومما يعين على تهذيب النفس ومجاهدتها، سوء الظن بها، فإن الإنسان إذا عرف نفسه حقيقة لم يركن إليها، ولم ينقد لها، بل أساء بها الظن، وكيف يحسن الإنسان الظن بعدوٍ لدود يتربص به لينقض عليه(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) يوسف،وقد كان من وصايا الصديق رَضي الله عنه للفاروق حين استخلفه، إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك، ومن أعظم أسباب الإعانة على المجاهدة، الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، والاستعانة بالصلاة، ففي صحيح مسلم : (قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ :كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي « سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ « أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ « فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ».
أيها المسلمون
وقال الشيخ السعدي-رحمه الله- :” إن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات ،أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها ، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب، وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-:”فأما مجاهدة الإنسان نفسه فإنها من أشق الأشياء، ولا تتم مجاهدة الغير إلا بمجاهدة النفس أولاً، ومجاهدة النفس تكون بأن يجاهد الإنسان نفسه على شيئين، على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي؛ لأن فعل الطاعات ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، وترك المعاصي كذلك ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، فتحتاج النفس إلى مجاهدة لا سيما مع قلة الرغبة في الخير، فإن الإنسان يعاني من نفسه معاناةً شديدة؛ ليحملها على فعل الخير”. شرح رياض الصالحين ، إن العبد الحريص على طاعة ربه سبحانه، يمكنه بعد عون الله جل وعلا له أن يقهر نفسه الأمارة بالسوء ويتغلب على هواه وذلك ببذل الأسباب المعينة على ذلك من الإخلاص ،وطلب الهدى واتباع الحق والعمل به والسعي دائما لفعل الخيرات والتزود من الطاعات واجتناب سائر المعاصي والمنكرات، وينبغي للعبد كذلك أن يكون حريصا على صون نفسه من كل ما يضرها كوسوسة الشيطان، فلا يفسح بابا يدخل منه الشيطان ،فيتمكن ويلبس عليه فيغرقه في واد الشبهات ويرمي به في مستنقع الشهوات ، وعلى كل من بذل الأسباب وسعى في رضى رب الأرباب أن يتيقن تماما أن جهده بعون الله لن يذهب سدى، وسيصل إلى المبتغى ويتغلب على هواه وينتصر على الشيطان الرجيم بإذن ربه الكريم، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (69) العنكبوت
أيها المسلمون
إن مجاهدة النفس باب عظيم من أبواب الخير، فإن وفق العبد فيه فاز وربح ربحاً لا خسارة بعده أبداً، وإن عجز وغلب خسر خسراناً عظيماً، فهيا نجاهد أنفسنا على تعلُّم دين الله والعمل به والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، لعلنا نكون من الفائزين،
الدعاء