خطبة عن ( نصرة الله ورسوله والمؤمنين: حكمها ،وصورها ،ونتائجها)
مارس 6, 2021خطبة عن خشية الله بالغيب وثمارها ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
مارس 13, 2021الخطبة الأولى ( الْخَاسِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (15) الزمر ، وقال الله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (19) المجادلة
إخوة الإسلام
الخسارة من الأشياء التي تنفر منها النفوس ، ويتوجع الناس لمن خسر شيئا في دنياه ، ولكن أعظم الخسائر ، أن تخسر رضا الله ، وتخسر النعيم المقيم في الدار الآخرة ، فلا خسارة تعدل خسارة من خسر نفسه في الحياة الأبدية، وهي الخسارة التي توجب لصاحبها الخلود الأبدي في العذاب السرمدي، في جهنم وبئس المصير . فخسائر الدنيا مهما كبرت وكثرت فيمكن تعويضها ، ولكن خسارة الدار الآخرة لا تعوض ، والمصاب بها أعظم ، فالخاسر يخسر نفسه ، حيث يعرضها للعذاب الشديد ، ويخسر أهله ، ولو أراد لكان معهم يتنعم بنعيم الجنة ، بدلا من عذاب النار ، يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]. ومن هذه الخسارة ، خسارة يوم القيامة ، ضج المؤمنون، وخاف الوجلون، وحاذر المشفقون، وفزع المتقون، ورعب الموقنون.
أيها المسلمون
وإنّ معرفةَ أسبابِ الخسارة ، وأعمالِ الخاسرين ، سببٌ لاجتنابها والنّجاة منها ، ألا وإنّ كلّ كفرٍ فهو طريقٌ إلى الخسارة، وكلَّ كافرٍ فهو خاسرٌ، وكلَّ معصيةٍ فهي سببٌ للخسارة، وكلَّ عاصٍ يخسر بقدر عصيانه. فالكفر بالله تعالى أعظم الخسارة؛ لأنّه يوجب خسارةً أبديّةً ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (52) العنكبوت ، ومن الكفر المستوجب للخسارة: الكفرُ بآيات الله تعالى ، الكونيّة في مخلوقاته ، أو آياته الشّرعيّة وهي آيات القرآن الكريم ، قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63]. وقال الله تعالى : (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (95) يونس ، ومن الكفر المستوجب للخسارة : التّكذيب بالبعث والجزاء ، قال الله تعالى : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45] . وكذلك الرافضون للإسلام ، فهم الخاسرون ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (85) آل عمران ، ومن ذلك أيضا اتخاذ الشيطان وليا ،وطاعته في تغيير خلق الله ،وفي مختلف سبل الضلال، قال الله تعالى : { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (119) النساء ، ومنهم المنفقون أموالهم للصد عن سبيل الله ، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(36)، (37) الأنفال ، ومن الخسارة الخوض في الباطل والطعن في النبي – صلى الله عليه وسلم – وغيره من ثوابت الإسلام ومبادئه، قال الله تعالى : { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (69) التوبة ، ومن الخسارة، الردة ، وإيثار الدنيا على الآخرة، قال الله تعالى -بعد استعراض حال هؤلاء : { لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (109) النحل ، ومنهم الرابطون تدينهم بمصالحهم الدنيوية ، فإن أقبلت عليهم الدنيا حال تدينهم ، استمروا فيه ، وإن أدبرت ارتدوا، قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (11) الحج ،والخاسرون أيضا هم المسيئون الظن بربهم، قال الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) فصلت ، ومنهم أيضا أولئك الذين استولى عليهم الشيطان وأنساهم ذكر الله، قال الله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (19) المجادلة ، والعصيان طريق الخسارة ،قال الله سبحانه – مبينا مصير أهل القرى من العصاة لأمر الله ورسله : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} (8) ،(9) الطلاق ، وهناك ثمّة أعمالٌ وُصِف مرتكبوها بالخسران؛ لشناعتها وكثرة وقوعها؛ ليحذر النّاس منها، كسفك الدّم الحرام ، فقد قال الله تعالى : {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30]. وكذلك نقضُ العهد؛ وقطيعة الرّحم؛ والإفساد في الأرض خسران، فقد قال الله تعالى : {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]. والأمنُ من مكر الله تعالى ، هو أيضا من الخسران، قال الله تعالى : {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. وكذلك سوءُ الظّنّ بالله تعالى ، فهو من طريق الخسران ، قال الله تعالى : {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصّلت: 23]. وكذا اللّهوُ بالمال والولد عن ذكر الله تعالى ، فهو يؤدي إلى الخسران ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] . وكذلك التّفريطُ في الصّلاة سببٌ عظيمٌ للخسارة ، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ » [صحيح الترمذي]. ومنعُ الزكاة وحقّ الله تعالى في المال ، هو بابٌ إلى الخسران؛ ففي صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ « هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ » قُلْتُ مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ مَا شَأْنِي فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهْوَ يَقُولُ ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ ، وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً ، إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا »
أيها المسلمون
ومن صُور الخسارة وأليم الحسرة: إفلاسُ رصيدِ الطاعات بعد أن عمِلَ المُسلمُ أعمالاً كثيرةً في وُجوهِ البِرِّ، وتزدادُ الحسرةُ حين يعجزُ الرَّصيدُ عن القضاء، فيكونُ التسديدُ بتحمُّل سيئات العباد، فيخرُجُ من الدنيا حزينًا على ما قدَّم من إساءةٍ، وهناك لا مجالَ لتعويضِ الخسارة ، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ». ومن الخسارة: تضييعُ الصلوات وتأخيرُها، ففي الصحيحين : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الَّذِى تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ » ، وضياعُ الوقت من صُور الخسارة، والوقتُ لا يخلُفُه شيءٌ، وإذا انقضَى لا يرجِعُ ولا يعودُ، والعاقلُ يتأمَّلُ سُرعةَ انقِضاء الأوقات ويعرِف كم ربِحَ فيها وكم خسِر، حتى لا يُفاجَأ بالعُمر يتهاوَى ، والخسائِر تتوَالَى. وقد تلحَقُ الخسارةُ الأمَّةَ جمعاء، فالأمةُ التي تنحرِفُ عن منهج الله، وتُخالِفُ أمرَه، وتستفحِلُ فيها الذنوبُ والمعاصِي، وتتمرَّدُ على هديِ الله ورُسُله تكونُ عاقبةُ أمرِها ندمًا ومِحَنًا وفقرًا وجَورًا وحياةً مُفزِعةً لا أمنَ فيها ولا استِقرار، وتلك سُنَّةُ الله،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الْخَاسِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والسؤال : كيف أحمِي نفسي من الخسارة؟ وأين هي التجارةُ الرَّابِحة؟ ، لقد بيَّن القرآنُ الكريمُ معالِمَ التجارة الرَّابِحة المُثمِرة ، والتي لا تلحَقُها حسرةٌ ولا نَدامةٌ، إنها تجارةٌ مأمونةُ الخسائر، إنها التجارةُ مع الله – تبارك وتعالى -، قال الله سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف: 10، 11]، وقال الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29]. والذين يُفرِّطون في هذه التجارة فسوف تتقطَّعُ قلوبُهم حسرات، وتذوبُ أفئِدتُهم ندمًا على ضياع الفُرصةِ التي لا تُعوَّض، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( [الأنعام: 31].
فالسلامة من الخسران في الآخرة ، لا يكون إلا باجتناب أسبابها؛ وذلك باجتناب الكفر والمعاصي، والتمسك بالإيمان والعمل الصّالح، غير أنّ الخطأ من سمات البشر، ولن ينجوَ صاحبُ المعصية من الخسران إلا بعفو الله تعالى ومغفرته ورحمته؛ ولذا كان حقًّا علينا دائمًا أن نكثر من التّوبة والاستغفار، وهكذا فعل الرّسل عليهم السّلام حين وقعت منهم أخطاءٌ؛ فإنّهم هرعوا إلى التّوبة والاستغفار؛ اتّقاءً للخسران، وقد أمرنا الله أن نقتدي بهداهم ، وهذا أبو البشر آدم وزوجه حوّاء عليهما السّلام لمّا أخطئا بأكلهما من الشّجرة خافا الخسران ، قال الله تعالى : {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وقد جمعت هذه المعاني جميعا سورة العصر ، والتي جعلت مصير الناس جميعا إلى خسارة وهلاك ، إلا من سلك سبيل التوحيد والإيمان ، والطاعة والعمل الصالح ، والتناصح في الخير والحق ، والصبر على الأوامر حتى يؤتى بها ، وعن النواهي حتى تجتنب ، وعن الابتلاء حتى يجتاز بنجاح، قال الله تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (1) :(3) العصر ،فالناس كلهم خاسرون – ونحن من الناس – فالناس كل الناس خاسرون إلا من استثني. لكنهم متفاوتون في الخسارة. فالخسارة لها مراتب متفاوتة: فقد تكون خسارة مطلقة كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم واستحق الجحيم. وقد تكون خاسرة من بعض الوجوه دون بعض وقد عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات :الإيمان بما أمر الله الإيمان به وليس المراد بالإيمان مجرد التصديق بل الإيمان الذي يؤرث العمل ولا يكون الإيمان بدون العلم فهو فرع عنه لا يتم إلا به.ومن صفاتهم العمل الصالح وهو يشمل أعمال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده الواجبة والمستحبة. فالمؤمنون العاملون في تجارة لن تبور ، حيث باعوا الفاني بالباقي ،واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات ، فيا لها من صفقة ما أربحها ومنفعةٍ جامعة للخير ما أوضحها. ومن صفاتهم التواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح فيوصي بعضهم بعضًا بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه. ومن صفاتهم التواصي بالصبر عن المعاصي التي تميل إليها النفس بحكم الجبلة البشرية والتواصي على الصبر على الطاعات التي يشق عليها أداؤها والتواصي بالصبر على ما يبتلى الله تعالى به عباده من المصائب. فبالأمرين الأولين يكمَّل الإنسان نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمَّل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح العظيم.
الدعاء