خطبة عن ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)
سبتمبر 4, 2021خطبة عن الطائفة المنصورة ، وحديث ( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ )
سبتمبر 6, 2021الخطبة الأولى ( بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه : ( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ : « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الهدي النبوي الكريم ، والذي يحذرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب الشهرة ، والفخر ، والعجب ، والسمعة ، والرياء ، فقوله صلى الله عليه وسلم : (بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ) : فالإشارة بالأصابع كناية عن الاشتهار بخصلة من الخصال (فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا) ، فهي إشارة حقيقة ، لأن من اشتهر بخصلة تاقت إليه النفوس ، وبُهر به الناظرون ، وأشارت إليه الأصابع ، ورمقته العيون ، وكما قيل في الأشعار : وأفتى فيك الناظرون فأصبع … تومئ إليك بها وعين تنظر
وإنما كان ذلك كافياً في الشر ، لأنه يكتسب صاحبه الفخر بنفسه ، والفخر بما أوتيه ، كما قال الله تعالى على لسان قارون : {إِنَّمَا أُوتيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] ، وطلب الشهرة والفخر بالأعمال يفسد الأعمال ، وكفى بفساد الأعمال شرًا، ويكفيه من الشر أن يشير الناس إليه بأصابعهم في دينه ، أو دنياه ، فيطرون في مدحه، فإن ذلك بلاء ومحنة له، إلا من عصمه الله ، وحفظه ، بحيث يقدر على قهر نفسه ، ولا يلتفت إلى ذلك ، ولا يستفزه الشيطان بسببه. وقيل أيضا المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ ».أنه إنما يشار إليه في دين : لكونه أحدث بدعة ، فيشار إليه بها، وفي دنيا : لكونه أحدث منكراً، هذا بخلاف ما يقارب الناس فيه ، ككثرة صلاة ، أو صوم ، فليس في هذا محل إشارة ، ولا تعجب ، وذلك لمشاركة الناس له في هذا العمل ، فأشار في هذا الحديث بالإشارة بالأصابع : إلى أنه عبد هتك الله ستره ، فهو في الدنيا في عار ، وغداً في النار ، ومن ستره الله في هذه الدار ، لم يفضحه في دار القرار. ومن المعلوم أن الشهرة نوعان: نوع : لا اختيار له فيه فيجب دفع ما ينشأ عنه، ونوع آخر : يتكلفه هو بإظهار محاسنه ، وإبراز ما يشتهر به بين الناس ، ونشر فضائله ليعرف، فهو منهي عنه ، وعن ما ينشأ عنه، ويحتمل أنه تحذير من اللازم للإشارة بالأصابع ، وهو الإعجاب بالنفس ، والاستعظام لها، حيث صارت لها شهرة بكمالاتها في دين أو دنيا ،فإنه إذا اشتهر بتلك ،وجب عليه دفع ما ينشأ عنه ، وتعريف نفسه أنها إنما فضلت بتفضيل الله ، وشهرت بإكرامه لها، كما قال الله تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام : {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]. فالشهرة إن كانت من طلب الشخص فهي مكروهة ، وقد كان السلف الصالح يكرهون طلب الشهرة؛ فقد ورد في “التواضع والخمول” لابن أبي الدنيا: [قال أيوب السختياني رحمه الله: “مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ إِلا سَرَّهُ أَنْ لا يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ”] /وفي “سير أعلام النبلاء” : [عن عَبْد الرَّحْمَنِ بن مَهْدِيٍّ، عَنْ طَالُوْتَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ أَدْهَم يَقُوْلُ: “مَا صَدَقَ اللهَ عبدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ”] وإن كانت الشهرة من الله تعالى – من غير تكلُّف طلب الشهرة منه- لنشر دينه ، فهي محمودة ، قال الإمام أبو حامد الغزالي في “الإحياء” : [اعْلَمْ -أَصْلَحَكَ اللهُ- أَنَّ أَصْلَ الْجَاهِ هُوَ: انْتِشَارُ الصِّيتِ، وَالِاشْتِهَارِ. وَهُوَ مَذْمُومٌ، بَلِ الْمَحْمُودُ: الخُمُولُ، إِلَّا مَنْ شَهَرَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَشْرِ دِينِهِ ،مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ طَلَبِ الشُّهْرَةِ مِنْهُ.. وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبَ بِالشُّهْرَةِ وَانْتِشَارِ الصِّيتِ هُوَ الْجَاهُ وَالْمَنْزِلَةُ فِي القُلُوبِ، وَحُبُّ الجَاهِ هُوَ مَنْشَأُ كُلِّ فَسَادٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ شَهْوَةٍ تَزيِدُ عَلَى شُهْرَةِ الأَنْبِيَاءِ وَالخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَئِمَّةِ العُلَمَاءِ، فَكَيِفَ فَاتَهُمْ فَضِيلَةُ الخُمُولِ؟ فَاعْلَمْ: أَنَّ المَذْمُومَ طَلَبُ الشُّهْرَةِ، فَأَمَّا وُجُودُهَا مِنْ جِهَةِ اللهِ سُبحانَهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ مِنَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، نَعَمْ، فِيْهِ فِتْنَةٌ عَلَى الضُّعَفَاءِ دُوْنَ الأَقْوِيَاءِ، وَهُمْ كَالْغَرِيقِ الضَّعِيفِ إِذَا كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْغَرْقَى؛ فَالأَوْلَى بِهِ أَنْ لَا يَعْرِفَه أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهمْ يَتَعَلَّقُونَ بِهِ فَيَضْعُف عَنْهُم، فَيَهْلِكَ مَعَهُمْ، وَأَمَّا القَوِيُّ فَالأَوْلَى أَنْ يَعْرِفَهُ الغَرْقَى؛ لِيَتَعَلَّقُوا بِهِ، فَيُنَجِّيهم، وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ] ، وقال العلَّامة الخادمي : [ولِذا كانت الشُهرةُ آفةً – يعني في الدين والدنيا-:- أمَّا الدِّيْن: فلكونه منبعًا لنحو العُجْبِ، والاعتمادِ على العمل والرِّياءِ وآلةً لجمع الدنيا، وقيل: إنَّ الشهرةَ فيه إنما تكونُ بإِحداثِ بِدعةٍ عظيمةٍ فيه خفاءً. – وأما الدنيا: فلكونه منبعًا لنحو الظُّلمِ والكِبرِ والإِعراضِ عن الطَّاعاتِ والتَّعمُّقِ في الأَغراضِ الدنيويَّة] وعلى ذلك: فطلب الإنسان الشهرة لنفسه مذمومٌ كما يُكرَهُ ما يؤدِّي إلى الطَّلب، وإن لم يَطْلُب؛ كلبسهِ لباس الشهرة؛ أي: ما يَشتهِر به عند النَّاس ويُشار إليه بالأَصابِع؛ فقد رُوي -مرفوعًا- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشهرتين. فقيل: يا رسول الله، وما الشهرتان؟ قال: «رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا، وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا، وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا، وَلَكِنْ سَدَادٌ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادٌ» أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فِى دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي سنن أبي داود (عن ابن عمر رضي الله عنهما -مرفوعًا- أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ قال: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يقول الشيخ البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع”: [(وَيُكْرَهُ لُبْسُ مَا فِيهِ شُهْرَةٌ) أَيْ: مَا يَشْتَهِرُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ وَيُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى حَمْلِهِمْ عَلَى غِيبَتِهِ، فَيُشَارِكُهُمْ فِي إثْمِ الْغِيبَةِ. (وَيَدْخُلُ فِيهِ) أَيْ: فِي ثَوْبِ الشُّهْرَةِ (خِلَافُ) زِيّهِ (الْمُعْتَادِ؛ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَقْلُوبًا، أَوْ مُحَوَّلًا، كَجُبَّةٍ أَوْ قَبَاءَ) مُحَوَّلٍ (كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالسَّخَافَةِ). وَكَانَ الْحَسَنُ رضي الله عنه يَقُولُ : “إنَّ قَوْمًا جَعَلُوا خُشُوعَهُمْ فِي اللِّبَاسِ، وَشَهَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِلِبَاسِ الصُّوفِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَا يَلْبَسُ مِنْ الصُّوفِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمُطَرَّفِ بِمُطَرَّفِهِ”. (وَيُكْرَهُ) لُبْسُ (خِلَافِ زِيِّ) أَهْلِ (بَلَدِهِ وَ) لُبْسُ (مُزْرٍ بِهِ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشُّهْرَةِ (فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الِارْتِفَاعَ وَإِظْهَارَ التَّوَاضُعِ حَرُمَ؛ لِأَنَّهُ رِيَاءٌ)] ومن ضوابِطها – أي الشهرة-: التخلق بأحسن الأخلاق؛ لأنه قدوة، ولا يجوز له التَّدنِّي إلى مستوى العوام؛ حتى لا يفتن الناسَ في دينهم. وَحَدُّهَا المذموم: أن تطلب لغير الله، فتكون لطلب الجاه والسمعة؛ فقد روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ» أخرجه مسلم ، والأَوْلَى أن لا تُطْلَبَ الشهرة أصلًا، بل يكون مطلوبًا لها، لا طالبًا؛ وهذا لا ينافي قول الحق بضوابطه ولو أدى إلى الشُّهرَة، بشرط أن لا يَقْصِدَ الشهرة، أو طلب الجاه، أو السمعة؛ فالشُّهرة هنا عارضة له، وليست مقصودة ولا مطلوبة ولا متشوفًا لها.
الدعاء