خطبة حول حديث ( الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ )
نوفمبر 20, 2021خطبة حول حديث ( حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ )
نوفمبر 20, 2021الخطبة الأولى ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (105) يونس
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله ، نتلوها ، ونتدبرها ، ونفهم معانيها ، ونعمل بما فيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، ومما جاء في تفسير قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (105) يونس ، يقول الطبري : المعنى : أقم نفسك على دين الإسلام ،(حنيفًا) مستقيمًا عليه، غير معوَجّ عنه إلى يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ، ولا عبادة وثن ، ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهةَ والأندادَ ، فتكون من الهالكين. قال السعدى : أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله، وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه، وفي الوسيط لطنطاوي :المعنى : أن الله – سبحانه – أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة في الدين . والثبات عليه ، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال . وقال الآلوسي : ” إقامة الوجه للدين ، كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته – تعالى – ، والإِعراض عما سواه ، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء ، يقيم وجهه في مقابلته ، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا ، إذ لو التفت بطلت المقابلة ، فلذا كنى به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين ، فالمراد بالوجه الذات أي : ” اصرف ذاتك وكليتك للدين . واستقم على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله – تعالى – وحده واثبت على ذلك ، ولا تكونن من الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى .وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله : لماذا قال الله سبحانه وتعالى : اقم وجهك للدين حنيفا ، ولم يقل اقم وجهك للدين مستقيما ؟ فقال : لأن “حنيفا” معناها أنه عندما تعوج عن المعوج السائد ،هكذا تكون استقمت .. ما معنى هذا الكلام ؟ : يعني : أن في كلمة “حنيفا” إشارة توحي أن كل الناس معوجين، وأن الإعوجاج هو السائد، وهو المعروف، وأصبح كأنه هو الأصل! .. فعليك أن تخالفهم ، وأن تستقيم ولو كنت وحدك .. وأنه لو اجتمع كل الناس على فعل ما، فهذا لا يكسب هذا الفعل شرعية ! ، وهذا لا يعني أن هذا الفعل “صحيح” ، فسيدنا إبراهيم (عليه السلام ) كما في صحيح مسلم : (فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ فَقَالَ لَهَا إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِى وَغَيْرَكِ) ،فتخيل أن الأرض كلها مشركون! كلهم مشركون ماعدا سيدنا إبراهيم فقط وزوجته مسلميْن! هل هناك غربة أشد من هذا ، وفي صحيح مسلم : يقول صلى الله عليه وسلم عن رب العزة : « وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِىَ بِكَ) ،فتخيل أن الأرض رجعت بعد سيدنا إبراهيم وموسى وعيسى رجعت تكتسي بالشرك والفساد والفجور (العِوَج) إلا من رحم ربي ،وهم بقايا من أهل الكتاب ممن كانوا على “الحنيفية” . فبعث الله سيدنا محمد لإصلاح هذا الإعوجاج العام .. فعندما تعوج عن هذا الإعوجاج العام تهتدي للإستقامة .. ومن استقام وصل .. لأن أقرب طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم . ونجد أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: (خالفوا المشركين) ففي الصحيحين :« خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى ».ويقول :(خالفوا اليهود والنصارى) ففي صحيح ابن حبان : (خالفوا اليهود والنصارى فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا في نعالهم)، ويقول :(خالفوا المجوس ) ففي صحيح مسلم : « جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ ». وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تصف “الأكثرية” بالجهل والجحود والكفران ، ومنها : قال الله تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الاعراف (187) ، وقال الله تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} هود (17) ، وقال الله تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} البقرة (243) ،وقال الله تعالى : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} الاسراء (89) ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بشرنا بغربة تعود فقال صلى الله عليه وسلم : « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ». [صحيح مسلم] ، ولعلك تتساءل؛ ما الهدف من هذا الطرح ؟! .. الهدف منه أن تعرف: 1- هدفك 2- الطريق الموصل إليه 3- المصير والنهاية والنتيجة ؛ فلا تلتفت! .. وأن تكون عينك على هدفك ،وأن تثبِّت قدمَك على الطريق ، فلا يؤخرك الإلتفات لمن حولك، فمنهم من حاد ، ومنهم من سقط؟! .. فلا تتأثر بقلة السالكين ، ولا خيانة الخائنين ،ولا نفاق المنافقين ،ولا سقوط الساقطين ، ولا ردة المرتدين
أيها المسلمون
الاستقامة على الدين : هي سلوك الصراط المستقيم ، والدين القيم ، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها ، الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها ، الظاهرة والباطنة . المؤمن مطالب بالاستقامة الدائمة ، ولذلك يسألها ربه في كل ركعة من صلاته : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الفاتحة (6) ،(7) ، ولما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يقصر في فعل المأمور ، أو اجتناب المحظور ، وهذا خروج عن الاستقامة ، أرشده الشرع إلى ما يعيده لطريق الاستقامة ، فقال تعالى مشيراً إلى ذلك : { أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} فصلت (6) ،فأشار إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها ، وأن ذلك التقصير يجبر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة. وقل صلى الله عليه وسلم: « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ » رواه الترمذي
فما أحوجنا للاستقامة خاصة بعد اهتزاز ثوابت الاستقامة عند البعض , فمنا من يحتاج إلى استقامة ومنا من يحتاج إلى تجديد الاستقامة ومتابعة النفس من زيغها وتهاونها وتساهلها ، ومن زعم أنه استقام على شرع الله تعالى ،وظاهره يخالف ذلك ،وربما تراه يشير إلى صدره ويقول : ( التقوى هاهنا ) فزعمه باطل ،و دعواه كاذبة، فاستقامة القلب تنقاد إليها الجوارح , فهي امتحانه ودليله ،فمن استقام ظاهره ولم يستقم قلبه فاستقامته مخرومة , فليست هي الاستقامة التي يريدها الله تعالى، فمن عمر قلبه بفتن الشهوات ،وساء عمله ، فقد حمل قلبا مسودَّاً ،أو قلبا قليل التعلق بربه ومهابته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والتقرب إليه بالعبادات القلبية فأنى لقلبه استقامة؟ وغالبا ما يُظهر ما في القلب اللسان فتجده معبِّرا عما فيه , فمن ساء قوله فكان كذابا أو مغتابا أو نماما أو فاحشا بذيئا ونحو ذلك من آفات اللسان فأي لسان استقام معه؟ ، ولذا فإن الاستقامة تكون بالقلب واللسان والجوارح.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول ابن القيم رحمه الله : ” والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنِّيَّات، وقال بعضهم: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة، فالاستقامة للحال بمنزلة الروح من البدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : أعظم الكرامة لزوم الاستقامة”، ويقول ابن رجب : ” أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد… فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه ، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده ،فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبِّر عنه”.
أيها المسلمون
ومن جاهد نفسه على الاستقامة مستعينا بالله تبارك وتعالى، فبإذن الله تبارك وتعالى فهو بالغ تمام الاستقامة أو مقارب، ولهذا جاء في صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ »، فجعل صلى الله عليه وسلم البشارة لمن سدد أو قارب، والمسدد هو الذي أصاب الاستقامة في تمام حقيقتها وأبهى صورها وأتم حللها، والمقارب هو الذي يجاهد نفسه على بلوغ تمام الاستقامة ولما يكملها، وهو قريب من الكمال، فلا يزال مجاهدًا نفسه على ذلك، فعلينا أن نجاهد أنفسنا على السداد، وهو كمال الاستقامة، ومن لم يبلغ السداد فعليه بالمقاربة، وليحذر أشد الحذر من الانحراف عن طريق الاستقامة، والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
الدعاء