خطبة عن ( الشعور بالملل والضيق والسآمة والضجر: أسبابه وعلاجه )
نوفمبر 27, 2021خطبة عن الرِفْق بِالضَّعِيفِ،وحديث (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ نَشَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ)
ديسمبر 4, 2021الخطبة الأولى (مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه بسند صححه : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ ،وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ ، مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَإِ ، حَتَّى خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : « لاَ مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ». وفي رواية في سنن البيهقي ، أبي داود : (أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَتِ الأَنْصَارُ بِالأَجْرِ كُلِّهِ ، قَالَ :« لاَ مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ».
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله- ، مع هذا الهدي النبوي الكريم ، والذي يتبين لنا من خلاله فضائل ومناقب أهل المدينة من الأنصار ، وكرمهم وحسن استضافتهم لإخوانهم من المهاجرين ، وكذا ابتغاء المهاجرين والأنصار الأجر من الله تعالى ، وارشاد النبي صلى الله عليه وسلم لهم وللمؤمنين كافة بالدعاء لمن أسدى إليهم معروفا ، والثناء الحسن الجميل لكل من أحسن إليهم ، وأكرمهم . ففي هذا الحديثِ النبوي الكريم ، يَحكي لنا الصحابي الجليل : أنسُ بنُ مالكٍ ، (رضِيَ اللهُ عنه) ، فيقول : أنَّه ” لَمَّا قَدِم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم المدينةَ أتاه المهاجِرون، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما رأَيْنا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ”، أي: ما رأَينا قومًا أغنِياءَ أكثرَ إنفاقًا وإعطاءً للمالِ، “ولا أحسَنَ مُواساةً مِن قليلٍ”، أي: ولا رأَيْنا قومًا فُقراءَ أفضلَ مُواساةً لِفُقراءَ مِثلِهم، “مِن قومٍ نزَلْنا بينَ أظهُرِهم”، أي: مِن الأنصارِ الَّذين نزَلْنا في دِيارِهم ، وسكَنَّا وطَنَهم؛ “لقد كفَوْنا المُؤْنةَ”، أي: لقد تحَمَّلوا عنَّا العملَ والمشقَّةَ، “وأشرَكونا في المهنَأِ ” ، أي: وأشرَكونا في الخيرِ والنَّعيمِ والهناءَةِ، “حتَّى خِفْنا أن يَذهَبوا بالأجرِ كلِّه”، أي: حتَّى أشفَقْنا على أنفُسِنا مِن ذَهابِ الأجرِ كلِّه لهم؛ فقد أجزَلوا لنا العَطاءَ، وأحسَنوا لنا الْمواساةَ فكانوا خيرَ قومٍ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “لا”، أي: لا تَخافوا مِن فَواتِ الأجرِ ولُحوقِ الخيرِ والثَّوابِ، “ما دعَوْتم اللهَ لهم”، أي: شَريطةَ أن تَظَلُّوا تَدْعون لهم بالجَزاءِ الحسَنِ والخيرِ والبرَكةِ، “وأثنَيتُم بالأجرِ عليهم”، أي: وشَكَرتُم لهم فِعلَهم معَكم، وقيل: المعنى : أنَّ المهاجرين استَكْثَروا فِعْلَ الأنصارِ معَهم ،وأرادوا أن يُجازوهم ويُكافِئوهم ، فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: إذا أرَدتُم أنْ تُكافِئُوهم ،فادْعُوا لهم بالخيرِ والبَركةِ، واشكُروا لهم وأثنُوا عليهم؛ فإنَّ دُعاءَكُم يَقومُ بِحَسَناتِهم إلَيكُم، وثَوابَ حَسَناتِكم راجِعٌ علَيكم.
أيها المسلمون
لقد ضرب الصَّحابة (رضوان الله عليهم) أروع أمثلة الإيثَار وأجملها، ومَن يتأمَّل في قصص إيثارهم يحسب أن ذلك ضربًا مِن خيال، ومِن النَّماذج التي تروي لنا صورًا رائعة مِن الإيثَار ، ما رواه البخاري في صحيحه : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « مَنْ يَضُمُّ ، أَوْ يُضِيفُ هَذَا » . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا . فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ ، فَقَالَ أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَتْ مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي . فَقَالَ هَيِّئِي طَعَامَكِ ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً . فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا ، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ – أَوْ عَجِبَ – مِنْ فَعَالِكُمَا » فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر:9]. وفي صحيح البخاري : (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى ، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ ، وَأُزَوِّجُكَ . قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ . فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا ،..)
أيها المسلمون
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : :« لاَ مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ». توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وللمؤمنين بالدعاء لمن أحسن إليهم ، مكافأة له على حسن تعامله ، وكرم أخلاقه ، فمكافأة المحسن خلق فطري ينشأ من خلق الوفاء ؛ إذ أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ،والمؤمن المستقيم لا يكون شاكرا لله حتى يكون معترفا بالفضل لأهل الفضل ، (فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ». (صحيح سنن أبي داود) ، وفي رواية في مسند أحمد: « إِنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ » ، وبهذا نرى أن أخلاق المؤمن لا تكتمل بحسن علاقته بربه تعالى فحسب ، وإنما لابد أن يكون على نفس المستوى من الأخلاق في التعامل مع الناس ، فإذا كان للشكر صور وأشكال متعددة ، إلا أن الشكر اللساني أقل ما يقدمه المرء مكافأة لمن أحسن إليه ، ووفاء لمن وقف بجانبه ؛ لكيلا يتعلم أبناء الأمة الكفران والجحود ، ولئلا يتخلقوا بنكران الجميل ونسيان المعروف ، وحتى لا تموت المروءة في الناس، ولذلك جاء في مسند أحمد وصححه الألباني : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ » ، ومن صور المكافأة المقابلة بالمثل ، أو الدعاء لصاحب المعروف ، أو الثناء على فعله ، ففي سنن الترمذي : (عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ أُعْطِىَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَهُ كَانَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ » ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : « وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ ». يَقُولُ قَدْ كَفَرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ. وقد كان من خلق الرسول صلى الله عليه وسم أنه يقبل الهدية ويثيب عليها ، وذلك ضمن الاستطاعة، وحين اقترض رسول الله من عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي قبل غزوة حنين رد إليه القرض بعد الغزوة ، ففي مسند أحمد : (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْلَفَ مِنْهُ حِينَ غَزَا حُنَيْناً ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفاً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَضَاهُ إِيَّاهُ ثُمَّ قَالَ « بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ »، وكلمة الشكر وعبارة الحمد لا يخسر قائلها شيئا ،ولا تكلفه جهدا ، ولكنها تعود عليه بكسب ود المحسن إليه، وائتلاف قلبه ، وتحريضه على مزيد من الخير.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وهذا نبي الله موسى عليه السلام حين سقى للمرأتين ثم تولى إلى الظل ،لم يلبث كثيرا حتى لقي جزاء إحسانه من والد المرأتين ، قال الله تعالى : (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) (القصص :25)، وهذا عروة بن مسعود الثقفي – قبل أن يسلم- حين أغلظ له أبو بكر رضي الله عنه بكلمة قاسية في مفاوضات صلح الحديبية لم يزد في تعليقه على كلمة أبي بكر بأكثر من قوله : ،(قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ) . واعتبر إساءة أبي بكر (رضي الله عنه) له مغفورة بسابق إحسانه إليه.
أيها المسلمون
وفي هذا الحديث شاهد ودليل على أن الصَّحابةُ (رَضِي اللهُ عَنهم) كانوا حرِصين كلَّ الحِرْصِ على الفوزِ بالأجرِ ، والظَّفَرِ بالثَّوابِ الأخرويِّ، وكثيرًا ما كانوا يَأتون النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فيَسْألونه عن مَفاتيحِ الفوزِ بالصَّالحاتِ ، وأبوابِ الظَّفَرِ بالحسَناتِ، وكان صلى الله عليه وسلم يدلهم على أبوب الخير ، والظفر بالدرجات العالية ، وفي الحَديثِ: بيانُ لفَضلِ الأنصارِ ، وعَظيمِ مَنزِلَتِهم ومَكانتِهم. وفيه أيضا : بيانُ لحِرصِ المهاجِرين على مُكافَأةِ الأنصارِ ، ورَدِّ المعروفِ إليهم. وفيه : الحثُّ على الدُّعاءِ بالخيرِ والبرَكةِ، والثَّناءِ والشُّكرِ لأصحابِ المعروفِ والإحسانِ.
الدعاء