خطبة حول حديث ( حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ )
نوفمبر 20, 2021خطبة عن ( الشعور بالملل والضيق والسآمة والضجر: أسبابه وعلاجه )
نوفمبر 27, 2021الخطبة الأولى ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي بسند حسنه : (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ »
إخوة الإسلام
لقد أثْنَى اللهُ تعالى على الكاظِمينَ الغيظَ ، والعافِين عِن النَّاسِ، وأحبَّهم بإحسانِهم، فقال الله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134)آل عمران ،وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» رواه البخاري ، وفي هذا الحَديثِ المتقدم يُبيِّن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لنا فيه فضْلَ مَن يكْظِم غيظَه ، فيقول صلى الله عليه وسلم :(مَنْ كَظَمَ غَيْظًا) أيْ: احتملَ الغضبَ في نفسِه وأمسَك عليه ولَم يُخرِجْه، ولم يُظْهِره بقولٍ أو فعلٍ، مع قُدْرته على إيقاعه بعدوِّه ،قال الإمام ابن عطيَّة: “كَظم الغَيْظ: ردُّه في الجَوْف إذا كاد أن يخرج مِن كَثْرَته، فضبطه ومَنَعَه”، وقال أيضًا: “الغَيْظ: أصل الغَضَب، وكثيرًا ما يتلازمان، ولذلك فسَّر بعض النَّاس الغَيْظ بالغَضَب، وليس تحرير الأمر كذلك، بل الغَيْظ: فعل النَّفس، لا يظهر على الجوارح. والغَضَبُ: حالٌ لها معه ظهورٌ في الجوارح، وفعلٌ ما ولا بدَّ، (وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ) أيْ: وهو قادِرٌ على أن يَنتَصِر لنفسِه، وإمضاءِ غضبِه، (دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أيْ: تباهَى اللهُ به يومَ القيامةِ، وشهَرَه بيْن النَّاسِ بأنَّه صاحِبُ هذه الخَصْلَةِ العظيمةِ؛ وذلك لأنَّه قهَر النفسَ الأمَّارةَ بالسُّوءِ، وتغلَّب عليها، وتجرَّع مرارَةَ الصَّبرِ في ذاتِ الله، (حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ) أي: حتَّى يُدْخِلَه الجَنَّة، ويَأخُذَ ما أَعْجبَه مِن نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ، وفي هذا مِن الرِّفْعة والمَكانَة ما لا يعلمُه إلا اللهُ .
أيها المسلمون
الشيطان دائمًا ما يحرص على إثارة المنازعات والخصومات بين الناس ، فيثير غيظ بني آدم وغضبهم؛ لأن ذلك يُسَهِّل سيطرته عليهم، ويدفعهم بذلك إلى شرورٍ غير متوقعة، وإبليس يعرف ذلك عن آدم عليه السلام وذريته منذ بداية الخليقة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ، عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لاَ يَتَمَالَكُ» رواه مسلم؛ ومعنى «لاَ يَتَمَالَكُ» أي: ليس لديه القدرة على أن يملك نفسه عند الغيظ والغضب، أو لا يملك نفسه، ويحبِسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه -كما ذكر ذلك الإمام النووي-، ومن هنا كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمنع كيد الشيطان ،بكظم الغيظ وعدم إنفاذه، والترغيب في ذلك بالمنزلة العالية يوم القيامة. وقد عظَّم الله جل وعلا أجر الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس؛ فقال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134]. وقال الله تعالى : (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (34) :(36) فصلت ،وقال الله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (126) :(128) النحل ، وهناك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي توضح عظمة كظم الغيظ ، ففي سنن ابن ماجه : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ». فكظم الشخص غيظه عند ظلمه من آخر يجعله الأقوى ويغلب الشيطان وشيطان صاحبه ،
أيها المسلمون
ماذا يفعل المسلم اذا تعرض للغضب واشتاط غضبا ؟ ، هنا لابد أن ينفذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَنَا « إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ ». رواه أبو داود ، وفي الصحيحين : (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَرَجُلاَنِ يَسْتَبَّانِ ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ، لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ . ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ » . فَقَالُوا لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ » . فَقَالَ وَهَلْ بِي جُنُونٌ)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكظم غيظه ، ويعفو عن المسيء إليه ، ففي الصحيحين : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وللسلف الصالح والصحابة رضوان الله عليهم كثير من الأثار الواردة عنهم فى كظمهم للغيظ وعدم رد الاساءة للمسيء ، فقد جاء غلام لأبي ذرّ رضي الله عنه وقد كسر رجل شاة له فقال له: من كسر رجل هذه؟ قال: أنا فعلته عمدا لأغيظك فتضربني فتأثم ، فقال: لأغيظنّ من حرّضك على غيظي، فأعتقه) ،كما ورد أن رجلا شتم عديّ بن حاتم وهو ساكت، فلمّا فرغ من مقالته قال: إن كان بقي عندك شيء فقل قبل أن يأتي شباب الحيّ، فإنّهم إن سمعوك تقول هذا لسيّدهم لم يرضوا ” ، وورد أن رجلا قال لوهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-: « إنّ فلانا شتمك، فقال: ما وجد الشّيطان بريدا غيرك ” . وذكر الامام ابن كثير في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن رجلاً كلمه يومًا حتى أغضبه، فهم به عمر، ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا؟ قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك. ومما يروى في هذا الصدد، أنه كان للمأمون -الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد خادم، وهو صاحب وضوئه، فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده، فاغتاظ المأمون عليه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال المأمون: قد كظمت غيظي عنك، قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال: قد عفوت عنك، قال: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهب، فأنت حر.
الدعاء