خطبة عن قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً )
أغسطس 6, 2022خطبة عن الوفاء بالعقود وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
أغسطس 13, 2022الخطبة الأولى ( الأَمَلُ، وَالأَجَلُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (3) الحجر ، وروى البخاري في صحيحه : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – خُطُوطًا فَقَالَ « هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ » ، وروى الترمذي في سننه وحسنه : (روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ وَمَا هَذِهِ ». وَرَمَى بِحَصَاتَيْنِ. قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « هَذَاكَ الأَمَلُ وَهَذَاكَ الأَجَلُ ». ، وفي مسند أحمد : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَرَزَ بَيْنَ يَدَيْهِ غَرْزاً ثُمَّ غَرَزَ إِلَى جَنْبِهِ آخَرَ ثُمَّ غَرَزَ الثَّالِثَ فَأَبْعَدَهُ ثُمَّ قَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ وَهَذَا أَمَلُهُ يَتَعَاطَى الأَمَلَ يَخْتَلِجُهُ دُونَ ذَلِكَ ».
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم -إن شاء الله- عن (الأَمَل وَالأَجَل) ، فالأمل هو حادي العمل، ولا ينشط المرء للعمل إلا ولديه آمال وطموحات وأهداف يسعى إلى تحقيقها ، وهذا ما يميز الإنسان عن سائر الأجناس، فاذا فقد الإنسان الأمل بالكلية ، فلا يستطع العيش ، فلا يتصور أبداً أن يوجد إنسان سوي الخلقة ، يعيش في هذه الحياة الدنيا بدون أمل يتطلع اليه ، ويسعى لتحقيقه، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داوود : « سَمُّوا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ) ، فقوله صلى الله عليه وسلم (وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ ) وذلك لأن (حَارِثٌ وَهَمَّامٌ ) هو الوصف الموافق لطبيعة الإنسان، فكل إنسان لا يخلو من كسب وهم، وأماني وآمال ، وهذه الأماني والآمال لا تنتهي ما دام المرء على قيد الحياة ، ولكن اذا استرسل العبد في آماله ، واستسلم لأحلامه ، نسي الآخرة ، وأحب البقاء والخلود في الدنيا ، وكره الموت ، وكره لقاء الله ، وكره كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين تحقيق تلك الآمال ، لذلك جاءت النصوص الشرعية ، وكلام السلف ،وعلماء السلوك ، جاءت كلها محذرة من طول الأمل ، ونسيان الأجل ، والركون إلى الدنيا، وقد قال الله عز وجل مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام في شأن الكافرين: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (3) الحجر، والمعنى : دعهم يشتغلوا بدنياهم ، ويتوقعوا طول الأعمال ، وتلههم الآمال والأماني عن الاستعداد للقاء الله ، والإيمان والعمل الصالح لما بعد الموت ، فسوف يعلمون يوم القيامة سوء صنيعهم ، واذا باغتهم الأجل وعاينوا الجزاء على أعمالهم ،
أيها المسلمون
وفي هذه الأحاديث التي أوردتها ، وتلوتها على مسامعكم في أول الخطبة : فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم من خلال هذا المثل والتمثيل أن يبين حقيقة مهمة ، يغفل الناس عنها ، ألا وهي أن آمال الإنسان لا تنتهي ، ولا تقف عند حد ، وأن أجله أقرب إليه من أمله ، وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم الرسم التوضيحي لإيصال هذا المعنى ، وهو من الوسائل التعليمية المهمة ، ومن المسلمات لدى التربويين : أنه كلما زاد عدد الحواس التي تشترك في الموقف التعليمي، زادت فرص الادراك والفهم ، كما أن المتعلم يحتفظ بأثر التعليم فترة أطول ، فرسم الرسول صلى الله عليه وسلم مربعا في الأرض يمثل أجل الانسان الذي يحيط به من كل جانب ، ولا يستطيع ان يخرج عنه أو يتجاوزه أو يقدم فيه أو يؤخر، ثم رسم في وسط هذا المربع خطا طويلا قد خرج خارج المربع وابتعد عنه ، وهذا الخط يمثل آمال الإنسان العريضة البعيدة ، والتي تغفل الأجل ولا تحسب له أي حساب ، فهو يؤمل ويؤمل ، وأجله أقرب اليه من كل تلك الآمال ، ثم رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الذي في وسط المربع ، وهذه الخطوط تمثل الآفات والعاهات التي يتعرض لها الإنسان حال حياته ، فإن سلم من واحدة لم يسلم من الأخرى ، وان سلم من الجميع ولم تصبه آفة، باغته الأجل فجأة ،وعبر صلى الله عليه وسلم عن هذه الآفات بالنهش ،وهو لدغ ذوات السم للمبالغة في الاصابة بهذه الآفات ، وتألم الإنسان بها ، وهكذا الأعراض في الدنيا ، إن تجاوز هذا العرض لدغه العرض الآخر، والمقصود من الحديث التعجب من حال الإنسان ، وكيف أن الأجل لا يفوته ، بل هو محيط به من جميع جوانبه، وهو معرض قبل ذلك للآفات والأخطار التي تهدد حياته ،وتكدر عيشه ، ومع ذلك يؤمل أملاً قد جاوز أجله ، ومن خلال هذا التمثيل في الحديث ، يتضح لنا أنه ينبغي على المسلم ان يكون قصير الأمل ، مستعدا لحلول الأجل ، وأن يكثر من ذكر الموت على الدوام ، فإن ذلك هو الذي يدفع الانسان الى الاجتهاد في العمل الصالح ، وانتهاز فرصة الحياة ، قبل أن تطوي صحائف الأعمال ،
أيها المسلمون
فكثيراً ما يغرينا طول الأمل، ويلهينا العمل، وترانا نغفل عن دنو الأجل، الذي يقترب منا يوماً بعد يوم، دون أن نشعر، فتُلهينا الحياة بشهواتها ، وما بها من فتنٍ وأموال. وفي معترك الحياة، يخطفنا الموت فجأة ، وبدون استعداد له، وبدون أية مقدمات، فهل ترانا نستعد ليوم يشيب من هوله الولدان ، فطول الأمل : هو استمرار المرء في حرصه على الدنيا وشهواتها وزينتها، والانكباب عليها، والتعلق بها، مع كثرة إعراضه ونسيانه للآخرة، وعدم الاستعداد لها على الوجه المطلوب ،فقد نعيش بأملنا لعشرين سنة قادمة، نخطّط ونرتب، نقرر ونجهّز، والأجل أقرب منا من كل هذا، فكم من شخصٍ كان يتمنى ويتأمل، ويروي أحلامه، ويعيش أيامه في ترقب دائم، لكن الأجل باغته، قبل أن يحقق آماله ، فلتجمع أُخي شتات نفسك المبعثرة من هذه الحياة، ولتخطّط لأخراك قبل دنياك، فلا تغرك المظاهر والملذات، واستعد للقاء الله ،ولا تؤجل ذلك للغد، فما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً ، ولا تدري متى وأين تموت ،
من الطبيعي أن يكون هناك أهداف وطموحات دنيوية لدى كل منا، ولكن من الخطأ الفادح التعلق بها ،وبذل أقصى الطاقات للوصول إليها، والاهتمام بها، وإهمال الآخرة تماماً، ولتجنب ذلك، فلنعي ونتأمل قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (162) ،(163) الانعام ، والمعنى: أن حياتي بكل ما فيها، ونومي وصلاتي، وعبادتي، وأكلي وشربي، وذهابي وإيابي، وكل أعمالي، هي لله وحده ، ربي ورب العالمين جميعاً، جعلت أمرها وتعبها ووقتها لله وحده، وهذا ما أمرني به تعالى ، فإياك ونسيان مهمتك الأساسية هاهنا، فإنما أنت خليفة من الله، لست مخلداَ، لك مهام وواجبات، عليك القيام بها على أكمل وجه، وسيأتي يومٌ وترحل وتغيب، ولا يبقى غير ذكرك وأعمالك، فماذا ستجني منها؟ ، يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ينقش على خاتمه عبارة: (كفى بالموت واعظاً)، وهذا عمر أمير المؤمنين، من المبشرين في الجنة، قد تنبه وجعل من الموت ذكراً دائماً له، حتى لا يغفل وتجره الدنيا، فما حالنا نحن من الموت، وماذا أعددنا له؟
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الأَمَلُ، وَالأَجَلُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
الأمل من فِعل الإنسان توفيقا من الرحمن، والأجل كله بقبضة الملك العلاَّم، الأمل حبل ممدود ليس له حدود، والأجل حبل محدود خيوطه بيد ربنا المعبود، الأمل يدفع إلى العمل، والأجل يقطع العمل، الأمل يجعل أضعف الناس يتحدى الأزمات ، ويغالب الصعاب، والأجل يجعل أقوى الناس أسيرا لما قدّر في الكتاب، الأمل عند المؤمن يمتد من الدنيا إلى الآخرة، وعند غير المؤمن أمل في إصلاح دنياه فقط، قال الله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)، أما الأجل فثابت للصالح والطالح، والبَر والفاجر، الأمل يتنوع إلى أمل في شفاء بعد مرض، ونجاح بعد فشل، وهداية بعد غواية، وحرية بعد كبت، وعزة بعد ذل، وغنى بعد فقر، وصحة بعد مرض، واجتماع بعد فرقة، وعودة بعد غيبة، وسعادة بعد شقاء، وزواج بعد عزوبة، وإنجاب بعد عقم، وتوبة بعد معصية ، فلنستصحب دائما الأمل أن اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من اليوم ، ما دمنا على طريق الإيمان: قال الله تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة:257)، وليكن العمل مشفوعا بالأمل قبل أن يباغتنا الأجل فيكون الندم، وينقطع الأمل في إصلاح الخلل. ولذلك أوصى النبي أصحابه بدوام ذكر الموت وعدم الغفلة عن الآخرة ، ففي صحيح البخاري : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِمَنْكِبِي فَقَالَ « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) .هذه هي الوقفة التربوية التي قدمها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حتى تبادر إلى استغلال أعمارها بالعمل النافع المفيد، ولا تستولي عليها الغفلة التي تفسد على الإنسان عمله الهادف، فيخسر الدنيا والآخرة.
الدعاء