خطبة عن أضرار الجدال ، وحديث ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ )
أكتوبر 29, 2022خطبة عن الحديث القدسي (فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ)
نوفمبر 5, 2022الخطبة الأولى ( إِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ بِهِ ،وَإِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) {النحل:116}، وقال الله تعالى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } ص 86، وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] . وروى الامام الترمذي في سننه بسند صححه : (عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ قَاصًّا يَقُصُّ يَقُولُ إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الأَرْضِ الدُّخَانُ فَيَأْخُذُ بِمَسَامِعِ الْكُفَّارِ وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ قَالَ فَغَضِبَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ إِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ بِهِ قَالَ مَنْصُورٌ فَلْيُخْبِرْ بِهِ وَإِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ عِلْمِ الرَّجُلِ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ». ص 86
إخوة الإسلام
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى ما قال هذا الصحابي الجليل ، والذي تربى في مدرسة النبوة ، إذ يقول : (إِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ بِهِ ، وَإِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ ،فَإِنَّ مِنْ عِلْمِ الرَّجُلِ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ : أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ ،فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ :(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص 86، فتكلف الشيء ، ومحاولة معرفته ، وإظهار الإنسان بمظهر العالم ،وهو ليس كذلك ،هذا ليس من صفات المؤمنين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من المتكلفين ،أو القائلين على الله بغير علم ، ولذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فماذا كانت إجابته ؟ ، ففي الصحيح واللفظ لمسلم : قال جبريل (عليه السلام ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». قال الإمام النووي في شرحه للحديث : ( فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه بل يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه )، وفي البخاري (عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : (كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ) ، والمعنى : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلف الإنسان ما لا علم له به ، ويحاول أن يظهر ، فالذي يقول لا أعلم ،وهو لا يعلم ،هو العالم حقيقة ، وهو الذي علم قدر نفسه ،وعلم منزلته ،وأنه جاهل فيما سئل عنه ، والإنسان إذا قال لما لا يعلم (الله أعلم) ولم يفت به ،يثق الناس به ،ويعلمون أن ما أفتى به فهو عن علم ،وما لم يعلمه يمسك عنه ،وأيضا إذا قال الإنسان لما لا يعلم (الله أعلم) ، عود نفسه الرضوخ للحق ،وعدم التصدر للفتوى ،قال شيخ الإسلام (رحمه الله) في كتابه الفتوى الحموية : ( كانوا يقولون : ما أفسد الدنيا والدين إلا أربعة : (نصف متكلم ، نصف فقيه، نصف لغوي ،نصف طبيب )، أما المتكلم : فإنه أفسد الأديان والعقائد ،لأن أهل الكلام الذين نالوا من الكلام شيئا ،ولم يصلوا إلى غايته ،اغتروا به ،وأما أهل الكلام الذين وصلوا إلى غايته ،فقد عرفوا حقيقته ،ورجعوا إلى الحق ، ونصف فقيه : يفسد البلدان ،لأنه يقضي بغير الحق ،فيفسد البلدان ،فيعطي حق هذا لهذا ،وهذا لهذا ،ونصف نحوي : لأنه يفسد اللسان ،لأنه يظن أنه أدرك قواعد اللغة العربية فيلحن ،فيفسد اللسان ،ونصف طبيب :فيفسد الأبدان ،لأنه لا يعرف ،فربما يصف دواء يكون داء ،وربما لا يصف الدواء فيهلك المريض) ، وقال الامام علي رضي الله عنه: ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول (الله أعلم).
أيها المسلمون
وعلى المسلم إذا أراد أن يستفتي عن شيء : أن يختار في استفتائه الأعلم والأورع، والأمثل فالأمثل، ومن يظنه أقرب إلى إصابة الحق من غيره، ولكن ، قد يقع هذا السائل فيمن يظنه كذلك وليس كذلك، فيسأل متعالمًا جاهلًا ،يفتيه بغير علم فيضله، وهي جراءة غير قليلة في هذا الزمان، وليس المستغرب وقوعه من العامة حين يفتي بعضهم بعضًا بغير علم، ولكن المستغرب المستنكر وقوعها من المتعلمين، فتجد فيهم جراءة عجيبة، حيث يحللون ويحرمون، ويجملون في الشريعة ويفصلون، فيضلون ويُضلون ، ولا يدري هؤلاء أن من التقوى ،ومن العقل ،أن يقول الرجل لما لا يعلم لا أعلم، أو يقول للسائل: اسأل غيري ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن الشيء الذي لم ينزل عليه فيه وحي فلا يجيب؛ بل ينتظر حتى ينزل عليه الوحي، فيجيب الله عز وجل عما سئل عنه نبيه بقوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ} ثم يأتي الجواب وأمثالها من الآيات الكريمة. ولذا قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. فهذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملًا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة! فالتثبت من كل خبر ،ومن كل ظاهرة ،ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم. والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية، التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسئولًا عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد، إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخص أو أمر أو حادثة. {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته؛ من قول يقال ورواية تروى، من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية، وفي صحيح البخاري : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِىَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ »
أيها المسلمون
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل، فلا يقول اللسان كلمة ،ولا يروي حادثة ،ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الإنسان أمرًا ، إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها، قال صاحب المنار: « قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] أي: ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه، الذي دان به عباده، ما لا تعلمون علم اليقين أن الله شرعه لهم، من عقائد وأوراد وأعمال تعبدية وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، وتحريم ما الأصل فيه الإباحة، ولا يثبت شيء من ذلك بالرأي والاجتهاد من قياس واستحسان; لأنهما ظن لا علم، فالقول على الله بغير علم اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهو شرك صريح، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد وتحريف الشرائع، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. أليس من القول على الله بغير علم زعم من قال: أن لله وسطاء بينه وبين خلقه، لا يفعل سبحانه شيئًا بدون وساطتهم، فحَوَّلوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟ ، أليس من القول على الله بغير علم ما اختلقوه من الحيل لهدم ركن الزكاة وهو من أعظم أركان الإسلام؟ ، أليس من القول على الله بغير علم ما زادوه في العبادة وأحكام الحلال والحرام عما ورد في الكتاب والسنة المبينة له، .والقول على الله يتضمن القول عليه في أحكامه، وفي ذاته، وصفاته؛ من قال عليه ما لا يعلم بأنه حلَّل، أو حرَّم، أو أوجب، فقد قال على الله بلا علم؛ ومن أثبت له شيئًا، من أسماء أو صفات، لم يثبته الله لنفسه فقد قال على الله بلا علم، ومن نفى شيئًا من أسمائه وصفاته فقد قال على الله بلا علم، ومن صرف شيئًا عن ظاهره، من نصوص الكتاب والسنة، بلا دليل فقد قال على الله بلا علم .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ بِهِ ،وَإِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن أعلم الأمة بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يتورعون في الفتيا، ويتدافعونها فيما بينهم حتى تعود إلى الأول، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت مائة وعشرين من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه». وسئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية فقال: «أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجنة: «وأبردها على كبدي»، ثلاث مرات، قالوا: يا أمير المؤمنين، وما ذاك؟ قال: «أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم» .وعن علي رضي الله عنه قال: «خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضًا من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد». وصح عن ابن مسعود وابن عباس: «من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون». وقال ابن شبرمة : سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال: «رب ذات وبر لا تنقاد ولا تنساق; ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم». وقال أبو حصين الأسدي: «إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر». وقال ابن سيرين: «لَأن يموت الرجل جاهلًا خير له من أن يقول ما لا يعلم». وقال القاسم: «من إكرام الرجل نفسه ألا يقول إلا ما أحاط به علمه»، وقال: «يا أهل العراق، والله، لا نعلم كثيرًا مما تسألوننا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلًا، إلا أن يعلم ما فرض الله عليه، خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم».
الدعاء