خطبة عن ( أعمال يحبها الله تعالى )
نوفمبر 12, 2022خطبة عن ( أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزلَةً )
نوفمبر 12, 2022الخطبة الأولى ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء ، وقال الله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (76) يوسف
إخوة الإسلام
كلما تقدم العلم ، وتطورت الاكتشافات الكونية ، أدرك العلماء ضعفهم وعجزهم أمام عظمة الكون، وأدركوا جهلهم بأسراره وعجائبه، ومهما تطور العلم وتقدم ، لكن مع هذا سيبقى علم العلماء محدوداً وقليلاً، وهذا ما أكده القرآن في قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]. وهاهم علماء الغرب اليوم يعترفون بأن علمهم محدود ، وأنهم لا يزالون يجهلون الكثير من أسرار الكون، واعتراف العلماء بقلة معلوماتهم عن الكون ،رغم التطور الهائل الذي شهده العصر الحديث، فهذا يعني أن الله تبارك وتعالى –خالق الكون- لا يسمح لأحد من خلقه أن يحيط بشيء من العلم إلا بإذنه، ولذلك قال الله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255]. ويقول سبحانه تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [الكهف: 51], فمهما حاول البشر ، فلن يعرفوا من أسرار الكون إلا بما يسمح به الله تبارك وتعالى لهم ، فالحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا الله، وهذه الحقيقة موجودة في كتاب الله فهو كتاب الحقائق، ونحن عندما نتدبر آيات القرآن من الناحية الكونية إنما نحاول فهم هذه الآيات ولا يعني أن فهمنا هذا صحيح مئة بالمئة! إنما هو من قبيل الاجتهاد فإن أصبنا فلنا أجران وإن أخطأنا فلنا أجر إن شاء الله، مادام الإخلاص هو منهجنا في البحث ، ونقول إن العلماء لن يصلوا إلى الحقيقة إلا إذا اطلعوا على القرآن ،واتبعوا منهجه، فالقرآن يخبرنا عن الحقائق ، ويضع لنا الأساس العلمي للبحث، بينما نجد العلماء اليوم يتخبطون في أبحاثهم، من دون هدف ، ومن دون قاعدة، أما القرآن فيحدد لنا الهدف ويبين لنا الطريق، يقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت: 20]. فهذه الآية تتألف من أربعة أجزاء: 1- (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) توجيه إلهي لنا لكي نسير في الأرض ونبحث ونكتشف، ولكن ماذا نكتشف؟ الإجابة نجدها في الجزء الثاني من الآية. 2- (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) حدد لنا طريقة البحث، أي أن نبحث في أسرار بداية الخلق ونشوء الكون، ولكن لماذا نبحث وما هو الهدف؟ الإجابة في الجزء الثالث من الآية. 3- (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ) هنا نجد الهدف من هذا البحث ألا وهو إدراك أن الله تعالى كما بدأ خلق الكون قادر على إعادة الخلق من جديد! 4- (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وهذا هدف ثانٍ ألا وهو أن ندرك قدرة الله على كل شيء، فهو قادر على خلق الكون، وقادر على إعادة خلق البشر، وقادر على محاسبتهم، فلا تحزن أيها الإنسان، لأن الله سيعطيك حقك في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون
يقول الله تعالى : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء ، ولكن من المؤسف والمحزن أنه نتج عن هذا التفوق العلمي في الغرب مشكلتان أساسيتان : الأولى : أن هذا التفوق العلمي في الغرب أدى الانفصام بين العلم والأخلاق إلى استخدام هذا العلم فيما يُهلِك الإنسان والبشرية والحياة؛ كالأسلحة الفتاكة، والتصرف الجنوني في الخلايا والجينات لتغيير خلق الله، فنتج عن ذلك أمراض غريبة: كجنون البقر، وأنفلونزا الطيور، وأنفلونزا الخنازير؛ تنذر بالمزيد مما يهدد النوع البشري والكون كله، أما المشكلة الثانية التي نتجت عن التفوق العلمي في الغرب فهي أن الغرب بلغ حدًّا متقدمًا من الغرور والغطرسة، صرح معه أن الإنسان قد: “قتل الله! وحل محله”؛ أي: أصبح قادرًا على صنع المعجزات بنفسه، فلم يعد في حاجة إلى فكرة: الإله، والدين، والعقائد السماوية ، فالغرب ينطبق عليه قول الله – تعالى -: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق: 6]، فهو شديد الافتخار والاغترار بإنجازاته، منذ عصر النهضة ، فالمشكلة تكمن في غرور الغربيين بذلك، حتى أنساهم خالقهم وحدود آدميتهم، ومال بهم إلى الاستخفاف: بالله، والدين، والغيب، لاعتقادهم أن العلم الذي يمتلكون ناصيته يُغنِيهم عن كل ذلك؛ لأنه – في نظرهم – يُجِيب عن كل الأسئلة، ويحل جميع المشكلات، فلا يترك موضعًا لدين ولا وحي ولا نبوة، وذلك هو الاستغناء الممقوت الذي لا يُفسِد العلاقة بالله فحسب، بل يلقي بظلاله على البشرية في هذه الحياة. نعم فالغرب أبدع في الماديات، ولكنه أفلس في الروحيات، وعظَّم من شأن العقل، وأهمل القلب، واعتنى بجسم الإنسان: طبيًّا، ورياضيًّا، ومعيشيًّا، وجماليًّا إلى حد الإسراف، وأهال التراب على الروح، بل ازدراها، وقلَّل من شأنها، ووضعها في خانة الأوهام، فجلب الشقاء لنفسه، وكان قدوة سيئة للبلدان والشعوب، وقد أضحت بلاد الازدهار هي مَرْتَع الانتحار، وانتشرت هناك العيادات النفسية، وتكاثرت بشكل عجيب، عساها تُخلص الإنسان من نفسه بعد سيطرة الأمراض النفسية، والقلق، والاضطرابات، والانهيارات العصبية عليه، رغم علمه، وثرائه، ورغد عيشه ، قال الأستاذ سيد قطب – رحمه الله -: “العلم – بغير إيمان – فتنة، فتنة تعمي وتطغي، ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور؛ إذ يحسب صاحبه أنه يتحكَّم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها، وهي موجودة في هذا الكون، ولا سلطان له عليها، بل لا إحاطة له بها، بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة، وبذلك ينتفخ، فيأخذ أكثر من حقيقته، ويستخفه علمه وينسى جهله، ولو قاس ما يجهل إلى ما يعلم، وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره – لحد من كبريائه، وخفَّف من فرحه الذي يستخفه” ، تلك هي المشكلة، إنه الغرور الذي أنشأه العلم المحدود – رغم اتساع دائرته – لدى الإنسان في الغرب، فدفعه إلى الاستغناء عن الله – تعالى – وإعلان موته، ورفض هَدْي السماء، حتى في المجالات التي لم يحل فيها هذا العلم أية مشكلة، وعلى رأسها مجال الإنسان ذاته: عواطفه وأفكاره، ورُوحه، وحياته الأسرية والاجتماعية والسياسية، ويكفي للاستدلال على إخفاق العلم “الغربي” هنا، حالة البشر في أمريكا وأوروبا، وما هم عليه من حيوانية، وانعدام معاني العفة والعِرْض، وسعْيهم الملهوف خلف طمأنينة نفسية لم يوفرها الإنتاج الضخم، ولا المعرفة التي يتباهَون بها، إنها لعنة التمرد على الله – تعالى – ومعاكسة الفطرة السوية، إنه الإخلاد إلى الأرض الذي أشار إليه القرآن الكريم: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175 – 176]. هكذا شأن هذا الغرب الذي أبدع في البحث والإنتاج المتنوع، واخترع ورأى من خلال الدرس والبحث والتفكير آيات الله في الآفاق، لكن ذلك أبعده عن منهج الله ودينه، بدل أن يقرِّبه منه، فانسلخ عن الدلائل البيِّنات التي أبصرها في الآفاق والأنفس، وانحرف عن الفطرة التي انطلق منه، ولصق بالأرض بدل أن يرتفع إلى هَدْي السماء، ففقَد راحة البال، وسكون النفس، وسعادة الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، فما فائدة هذا العلم الذي يسبر أغوار الكون، ويتعرف على سننه، ويُسخره للبشر، لكنه يقودهم إلى الكفر والجحود، ويجرئهم على الدين، ويقطع صلتهم بالسماء؛ لأنه “لا يؤمن إلا بما تدركه الحواس” كما يزعم؟! ، فعلم الغرب علم يأخذ بالألباب باكتشافاته، واختراعاته، ومعارفه، ولكنه يدعو إلى الانحراف عن الفطرة، والنكوص عن الآيات التي يضع يده عليها كلَّ يوم، وفي كل المجالات ، بل ينسلخ منها؛ ليلتصق بالأرض، ويتَّبع هواه، ويصر على ذلك، رغم ما يراه من تبعات وخيمة تملأ الأرجاء، التي جلب لها الرخاء المادي، ووفَّر لها الحياة الميسرة المزدهرة، فقد وجد الناس في الغرب جميع المتع، ورفلوا في أعطاف النعيم الحسي، لكنهم فاقدون لراحة البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، فطلبوا ذلك في العيادات النفسية المنتشرة عندهم انتشارًا واسعًا، فلم تُغنِ عنهم شيئًا؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وجلهم يشتكي: الكآبة، والانعزال، والشعور بالعدمية، رغم أنهم أباحوا لأنفسهم كل شيء، وما عادوا يعرفون محرمًا ولا مكروهًا، ولا ضوابط أخلاقية؛ لأن العلم الذي يُدْلُون به زَعَم لهم أنه يحل جميع المشكلات، ويجيب عن كل الأسئلة، وهم يتأكدون يومًا بعد يوم أن هذا مجرد دعوى عريضة يثبت الواقع تهافتها.
أيها المسلمون
وقوله تعالى : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء ، فهذه الآية قد نزلت منذ أكثر من 14 قرنا من الزمان في وقت كان العلم بالفعل قليل, فلم يكن بمقدور أحد أن يعترض علي أن علمه و علم أهل زمانه كلهم قليل, و بمُضي الزمان حتى وصلنا إلي زماننا الحالي الذي اتسع فيه العلم و تشعبت فروعه, و تراكمت أبحاثه في كل المجالات التي خطرت و التي لم تخطر علي البال, فجاب الإنسان معظم الأرض دراسةً و تعميراً, و دخل في أعماقها و غاص في بحارها, و انطلق في الفضاء و صار يأتي بالعلم من علي بعد مليارات السنوات الضوئية, فتراكمت المعارف بشكل مذهل يفوق قدرات العقل البشري علي التصور, فكان لابد من سؤال هام, هل مازال العلم قليلاً في زماننا حتى يخاطبنا الله بقوله تعالى :” وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء ، يقول ابن كثير في تفسيره لهذا الآية الكريمة (أي وما اطلعتم عليه من علم إلا على القليل فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى والمعنى أن علمكم في علم الله قليل). وفى قصة موسى عليه السلام والخضر عليه السلام ، روى البخاري في صحيحه : (..قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « وَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِى الْبَحْرِ نَقْرَةً ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِى وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ ..) ، فهذا الخضر الذي قال الله عنه (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف: 65] ،وهو الذي أعلمه الله وأطلعه على أمور غيبية عجيبة لا يستطيع الإِنسَان أن يعرفها ولا يصل إليها عَلَى الإطلاق، وكل ما عنده من العلم مما أعطاه الله من علمه لا يتجاوز ما أخذ ذلك الطائر الصغير من هذا البحر العظيم الكبير، حتى تقف العقول البشرية أمام القُرْآن والسنة ذليلة عاجزة خاضعة، ويستسلم الإِنسَان بقلبه وعقله وجوارحه لربه تَعَالَى.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء، فمن الملفت للنظر أن الله تعالى خاطب عموم البشر فقال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ )، و لم يخاطب الفرد فيقول (وما أوتيت من العلم) مع أنها قد تكون صحيحة في كل زمان إلي قيام الساعة, لأن علم أي إنسان بمفرده مهما بلغ قليل إلي علوم الآخرين, و لا يساوي حتى ما يشربه عصفور من النهر!, ويكفي أن تنظر إلي مكتبة بيتك لتتحقق من قولي, فلو كنت تملك غرفة مليئة بالكتب فسوف تشعر أمامها بالعجز العلمي, فكل هذا علم أنت لا تعرف منه إلا القليل, وليس أمامك في العمر الكثير لتعرفه ومهما طال الأجل فهو قصير, ومكتبتك هذه مكتبة صغيرة إذا قورنت بالمكتبات العامة, ولذا فمهما عرفت من أي علم فهو ضئيل. ولما سئل العالم الإنجليزي الكبير نيوتن عن مدى علمه فقال (مثل ظلطة ملونة على شاطئ المحيط). ولما سئل العالم الألماني أينشتاين قال (إن علمه لا يعدو أن يكون طابع بريد ألصقوه في مسلة فرعونية), ولما سئل الفيلسوف الفارسي السعدي قال (لا تنظر إلى الشمس يكفي أنك تعيش على القليل من نورها.. فما بالك بنور الله!). فما بالك أيها الإنسان لو جمعت علوم الأولين والآخرين, وقال لك رب العالمين : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء ،فالله سبحانه وتعالى يعطى من العلم من يشاء، بالقدر الذي يشاء، في الوقت الذي يشاء، ومن الإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة : أن العلم الهائل الذي تم تحصيله إلى اليوم ،كان غائبا عن الناس سابقا ، وأن العلم كلما ازداد ،كلما كان ذلك اعترافا بالنقص في العلم البشرى قبل اكتشافه, وأن هذا النقص سيستمر إلى قيام الساعة, والعلم كلما تقدم ،أثبت لأهله بأن الجهل في زيادة مستمرة ،بدرجة تفوق العلم الذي وصلوا إليه, فكل معلومة نكتسبها تطرح علي العقول العديد من الأسئلة التي تحتاج إلي بحوث علمية تستغرق سنوات ، وربما وصلنا إلي إجابة ، وربما لم نصل, فيكون الذي نحصله من العلوم باستمرار أقل مما هو مطروح من أسئلة تحتاج إلي أجوبة, ولهذا يقول جوي بول (معلوماتنا كقطر في دائرة، فكلما اتسع القطر يتسع المحيط أضعافاً، لعل الأجيال القادمة تستطيع أن تتقدم في أعمالها العلمية وتكتشف أسرارًا جديدة عن الكائنات، لكنه من المؤسف جدّاً فينبغي أن نقاوم غرورنا ونعترف بأننا لا نعلم شيئاً عن أسرار الخلقة وعن سر الوجود، فرموز الحياة والموت وفلسفة الخلق وأشياء كثيرة أخرى ألغاز قد لا يكشف عنها العلم في القريب العاجل).
أيها المسلمون
وقوله تعالى :(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) الاسراء ، فهذه الآية أتت في سياق الكلام عن الروح التي نحيا بها ، قال تعالى : “وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُيتم مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”, ومنذ عهد النبي صلي الله عليه وسلم ،ومعرفة كنه الروح وأسرارها أمل يراود الكثير من العلماء, ومع ذلك فقد ظلت حتى يومنا هذا غيب ،لا ندرك حقيقته بكل ما أوتينا من علم, ولا نعرف عنها إلا أثرها من الإحياء والإماتة. وإذا تركنا الروح وانطلقنا في عالم الجسد ،نجد الجهل الفاضح في كل الاتجاهات ،فكم من مرضٍ عجز الطب عن شفائه, وفهم كيفية حدوثه, وأمام القلب والعقل والنفس ،يقف العلم حائراً ،لم يصل إلي الشيء الكثير في مجال كشف وفهم الطريقة التي يؤدى بها كل منهم عمله، وكيف يحدث ربط بينهم ،بحيث يكون الإنسان وحدة متكاملة ،لا خلل فيها, فالأمور التي لم يتوصل الطب إلي إدراكها أكثر من تلك التي تم التوصل إليها حتى وقتنا هذا ، وإذا سألنا كيف تحول تراب الأرض إلي هذا الإنسان المبدع ،وما حوله من كائنات حية مسخرة لأجله, لوجدت جهلاً أكبر لا شفاء له إلا في وحي رب العالمين إلي رسله وأنبيائه الكرام ، وإذا سألنا عن إحصاء دقيق لكل الكائنات الحية التي تعيش علي الأرض ،وتحت التراب, وفي الجو والبحار والأنهار والمحيطات, ولو سألت عن كل كائن وتفصيل معيشته وكيف يرزقه رب العالمين, ولو سألت عن عدد قطرات المطر ،وحبات الرمال في الصحراء ،وأوراق الأشجار والأزهار ،وعن الأنفس متى تولد ومتى تموت, وما يحدث لها بين المولد والإماتة, وغيرها الكثير من الأسئلة التي لا تجد مُجيب, ولو وجدت مجيب لما أجابك إلا بالقليل, وصدق الله العظيم إذ يقول {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } الأنعام59.
وإذا تركنا الإنسان بأرضه ،وتوجهنا إلي فضاء كونه ،نري أبعاداً لا يحصيها العلم ،تثبت أنه كلما تقدم العلم وتطورت الاكتشافات الكونية أدرك العلماء ضعفهم وعجزهم أمام عظمة الكون، وأدركوا جهلهم بأسراره وعجائبه, فعلماء الكون يعترفون بأن علمهم محدود ،فما وصلوا إليه من تقدم لم يكشف أكثر من 5% من أسرار هذا الكون العجيب, فهناك كواكب ومجرات كثيرة لم يكتشفها الإنسان، ولم يصل العلم بعد إلي حواف الكون المنظور, فكيف بما وراءه من عوالم وأكوان, وسُكان لا يعلمهم إلا رب العالمين, والعلم لا يقدم لنا حول نشأة الكون ومن خلق الوجود ولماذا خُلق الكون وهل توجد كائنات حية أخرى؟ إلا العديد من الأسئلة التي لا تجد إجابات ،فاعتراف العلماء بقلة معلوماتهم عن الكون رغم التطور الهائل الذي شهده العصر الحديث، يعني أن الله تبارك وتعالى لا يسمح لأحد من خلقه أن يحيط بشيء من العلم إلا بإذنه، ولذلك قال تعالى (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) 255 البقرة, ومهما تطور العلم سيبقى علم العلماء محدوداً وقليلاً، فينبغي علي كل إنسان أن يعترف بجهله، وأن لا يكابر في دعوى العلم لأنه غاية الجهل كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (من ادعى من العلم غايته فقد أظهر من جهله نهايته), فالاعتراف بالجهل هو بداية طريق العلم, حتى تحصل على ما تجهله، وتدرك ما لم تعرفه ، وتذكر دوماً قول الله تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) 85 الإسراء, حتى تعرف الحجم الطبيعي لعلومنا أمام علم الله المحيط الشامل الذي قال عن نفسه : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } الطلاق12, وقال سبحانه وتعالى : {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} الجن28.
الدعاء