خطبة حول حديث (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)
يوليو 1, 2023خطبة عن صلاة التطوع وحديث (صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ)
يوليو 4, 2023الخطبة الأولى ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (23) ،(24) الاسراء
إخوة الإسلام
هذه الآيات الكريمة من كتاب الله العزيز تدلنا على مقام الأبوين، وأن الأمر بالإحسان إليهما جاء مقروناً بالدعوة إلى التوحيد، وقوله تعالى: (وَقَضَى ) تدل على أن الأمر انتهى ، ولا قدرة للعبد على تغيير هذا الأمر، فقضاء الله تعالى نافذ ،وحكمه باق لا يرد ،ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه، وجاءت الآية بكلمة (رَبُّكَ) والتي تدل على التربية والرعاية ،وهذا أنسب لسياق الآية ،وللبر بالوالدين ،الذين يربّون أبناءهم ويرعونهم، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) : فالإحسان للوالدين هو مقابل لإحسانهما لك، ومهما أحسنّا إليهما ،فلا يمكن أن نوفّيهما حقهما علينا أبدا، وقوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) ،
ففي الآيات أمر إلهي بإلزام الابن باستيعاب أبويه طوال حياتهما ،وخاصة عند الكبر ،لا أن نتخلى عنهما ،ونضعهما في ملاجئ ودور الرعاية كما يفعل البعض ،أما كلمة (أُفٍّ) فهي ليست كلمة ،وإنما هي حركة تُفعل ،وتُقال للدلالة على الاعتراض على طلب الأبوين ، وقد قال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) :” لو وجد القرآن أدنى من كلمة أف لقالها”، وقوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) ، بمعنى أن الله تعالى يأمر الإنسان أن يحافظ على كرامة أبويه ،الذين أمر تعالى بالإحسان والبرّ إليهما ،ولا أقلّ من القول الكريم لهما، وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) فمن دلائل وجود الرحمة كون الإنسان ذليلاً أمام أبويه، وفي الصحيحين : (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو – رضى الله عنهما – يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ « أَحَيٌّ وَالِدَاكَ » . قَالَ نَعَمْ . قَالَ « فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ »، فالجنّة التي هي أعلى ما يتمناه المرء موجودة عند أدنى ما يكون في الأم وهو قدميها، وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) فمن المعلوم أن الطائر يرفع جناحه ويُرفْرِف به، إنْ أراد أن يطير، ويخفضه إنْ أراد أن يحنوَ على صغاره، ويحتضنهم ويغذيهم ، وهذه صورة مُحسَّة لنا، يدعونا الحق سبحانه وتعالى أن نقتدي بها، وأن نعامل الوالدين هذه المعاملة، فنحنو عليهم، ونخفض لهم الجناح، كنايةً عن الطاعة والحنان والتواضع لهما، وكثيراً ما يُعطينا الشرع الحكيم أمثلة ونماذج للرأفة والرحمة في الطيور، ويجعلها قدوة لنا بني البشر، والذي يرى الطائر يحتضن صغاره تحت جناحه، ويزقّهم الغذاء يرى عجباً، فالصغار لا يقدرون على مضغ الطعام وتكسيره، وليس لديهم اللعاب الذي يساعدهم على بلع الطعام ،فيقوم الوالدان بهذه المهمة ،ثم يناولانهم غذاءهم جاهزاً يسهل بَلْعه، (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) فالملاحظ أن الآية تركز على مرحلة الطفولة ،(كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) ففي هذه المرحلة يعاني الأبوين كثيراً من أجل سعادة الأطفال،
فالآيات تذكرك أن أمُّك حملتْك في أحشائِها تسعةَ أشْهُر، وهنًا على وهن، حملتْك كرهًا ووضعتْك كرهًا، تَجوع لتشبع أنت، وتسْهر لتنام، وتتْعب لتستَريح، كم سهِرت لأجْلِك اللَّيالي! وكم تَجرَّعت الآلام ليتحقَّق لك ما تتمنَّاه! فأمُّك رحيمة بك شفيقة حميمة عليك، فقد كان بطنُها لك وعاء، وحِجْرُها لك حواء، وثديها لك سقاء، وكم تعاني من المتاعِب عند الفصال والفِطام والتَّربية والتَّنشئة! ، فلا تنسَ لَها معروفَها، ولا تُنْكِر جَميلَها وبرَّها وإحسانَها، اخفِضْ لَها جناح الذُّلِّ من الرَّحْمة، واحذَر الجفاء والقسوة؛ ،وأبوك فرح بوجودك واستبشر، يسعى ويجد ويكْدح ويكد، وينشئ وينفق، ويربِّي ويشفق، يُطْعِمك وأنت مولود، ويَعولك وأنت يافع، إذا لقِيك هشَّ وبشَّ، وإذا حضر أقْعدك على حِجْرِه وصدْرِه، وإذا خرَج تعلَّقت به، وإذا غِبْتَ سأل عنك، وكم بذَل من جهدٍ لتعليمك وتنشِئتك وتغْذِيتك وترْبيتك!، وهكذا بذل الوالدان لك كلَّ حنان وشفقة، فاسْعَ لِرضا الوالدَين تنل رِضا الله، ففي رضاهما رضا الباري
فيا من تريد بر الأبناء ،ويا من تريد راحة البال ،وطمأنينة النفس ،وهدوء الحال وبركة العمر ،وزيادة المال ،والراحة الأسرية والزوجية ،ويا من تريد رحمة الله تعالى ،ارحم والديك ، وتذكر عطفهما عليك ،يا من تريد جنة عرضها السموات والأرض عليك ببر والديك ، والإحسان إليهما ،وإكرامهما ،والعناية بهما ،فكما نظفاك من وسخك وأنت صغير ،وتعبا لأجلك ، فواجب عليك أن ترد الإحسان إليهما ، وسوف تجد أثر ذلك في حياتك كلها ، خيراً وبركة وأعظم أجراً ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ” مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ” [ رواه البخاري ] .
أيها المسلمون
ومما جاء في فضل الوالدين وبرهما في السنة المطهرة ، وعند السلف الصالح : ففي الصحيحين : (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ – رضى الله عنه – سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ . قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ » . قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ « الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » . فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي) ، وفي سنن الترمذي : (قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ ». وفيه : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ ».وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَجْزِى وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ ». وَفِى رِوَايَةِ ابْنِ أَبِى شَيْبَةَ « وَلَدٌ وَالِدَهُ ».، ومما جاء عن السلف الصالح أن رجلا قتل امرأة فجاء إلى ابن عباس يسأله: “هل له مِن توبة؟ فقال له: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله -عز وجل-، وتقرب إليه ما استطعت. فسئل ابن عباس: لمَ سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله -عز وجل- مِن بر الوالدة”. وقالت عائشة -رضي الله عنها-: “كان رجلان مِن أصحاب رسول الله أبر مَن كان في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان؛ أما عثمان فإنه قال: ما قدرت أتأمل وجه أمي منذ أسلمت. وأما حارثة فكان يطعمها بيده ولم يستفهمها كلامًا قط تأمره به حتى يسأل مَن عندها بعد أن يخرج: ماذا قالت أمي؟!”. وكان حجر بن عدي يلتمس فراش أمه بيده فيتهم غلظ يده فينقلب عليه على ظهره، فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها. وكان ظبيان بن علي مِن أبر الناس بأمه فباتت ليلة وفي صدرها شيء عليه، فقام على رجليه قائمًا يكره أن يوقظها، ويكره أن يقعد حتى إذا ضعف، جاء غلامان مِن غلمانه فما زال معتمدًا عليهما حتى استيقظت مِن قِبَل نفسها! وكان محمد بن سيرين لا يكلِّم أمه بلسانه كلمة تخشعًا لها. وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه: “ضعي قدمك عليه”. قال بشر الحافي: “الولد يقرب مِن أمه بحيث يسمع أمه أفضل مِن الذي يضرب بسيفه في سبيل الله، والنظر إليها أفضل مِن كل شيء”. وقال محمد بن محيريز: “مَن مشى بيْن يدي أبيه فقد عقه إلا أن يمشي فيميط الأذى عن طريقه، ومَن دعا أباه باسمه أو بكنيته فقد عقه إلا أن يقول يا أبتِ”. قال ابن الجوزي: “الويل كل الويل لعاق والديه، والخزي كل الخزي لمَن ماتا غضبانين عليه، أفٍ له، هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه، أتبع الآن تفريطك في حقهما أنينًا وزفيرًا”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) ، فيه يحثّ الإسلام على الدعاء للوالدين وطلب المغفرة والرحمة لهما، وذلك لأنَّ هذا الدعاء نافع لهما بإذن الله أحياء كانوا أو أمواتاً، وهو أيضاً سبب في رفع منزلتهما عند الله سبحانه وتعالى، ففي مسند أحمد وغيره : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ يَارَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ فَيَقُولُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ » ،وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ».ومن الأدعية للوالدين كما جاء في القرآن الكريم ، قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (41) إبراهيم ، وقوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) نوح 28،وقال الله تعالى : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (15) الاحقاف ، ومن الأدعية المأثورة عن الصالحين : ( اللهم اجعلهما من الذاكرين لك، الشاكرين لك، الطائعين لك، المنيبين لك. اللهم اغفر لوالدي وارحمهما كما ربياني صغيرًا، اللهم يا باسط اليدين بالعطايا ،ابسط على والدتي من فضلك العظيم وجودك الواسع ما تشرح به صدرها لعبادتك وطاعتك والأنس بك والعمل بما يرضيك ، وبارك لها في عمرها بركة تهنئها بها في معيشتها وتلبسها بها ثوب العافية في قلبها وروحها وعقلها وجسدها واغنها من فضلك وأعنها في حلها وترحالها وذهابها وإيابها واطل في عمرها مع العافية في صحتها ودينها ، اللهم اجعلهما من الذاكرين لك ، الشاكرين لك ،الطائعين لك ، المنيبين لك. اللهم واجعل أوسع رزقهما عند كبر سنهما وانقطاع عمرهما.
الدعاء