خطبة عن (الْهَوَى)
أغسطس 11, 2024خطبة عن (لاَ تَغْضَبْ)
أغسطس 13, 2024الخطبة الأولى (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (152) البقرة
إخوة الإسلام
ذِّكْر الله تعالى حَيَاةُ القَلْوبِ وَالارواحِ، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بذكره وشكره، ووعد بأفضل الجزاء لمن ذكره وشكره، وهو الثناء عليه في الملإ الأعلى، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ)، وفي صحيح مسلم: (عن أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». وفي صحيح البخاري: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»،
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِذكره بِالقَلْبِ قَبْلَ اللِّسَانِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) الأعراف:205، فذكر الله تعالى هو المنزلة الكبرى التي يتزود منها العارفون، وهو السبب الواصل بينهم وبين علام الغيوب، به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، فذكر الله هو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، فذِّكْر الله يدع القلب الحزين ضاحكـًا مسرورًا، وكلما ازداد المؤمن الذاكر في ذكره استغراقـًا، ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقـًا، فالذكر به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسنة، وتتقشع الظلمة عن الأبصار، وذكر الله هو باب الله الأعظم بينه وبين عبده، قال الحسن البصري: (تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق).
أيها المسلمون
وفي بيان معنى قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (152) البقرة، قال ابن عباس: (اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي)، وقال سعيد بن جبير: (اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء)، وقال آخرون: (اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي، فيما آمركم به، وفيما أنهاكم عنه, أذكرْكم برحمتي إياكم، ومغفرَتي لكم، فالله تعالى ذاكرُ من ذكره, وزَائدُ من شكره, ومعذِّبُ من كفَره)،
وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بذكره وشكره، ووعد عَلَى ذلك مَزِيدا من الخَيْر، قَالَ تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إِبْرَاهِيمَ:7]، وَفي مسند الْإِمَام أَحْمَد: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ)
وقوله تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي) أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب, إقرارا بالنعم, واعترافا, وباللسان, ذكرا وثناء, وبالجوارح, طاعة لله وانقيادا لأمره, واجتنابا لنهيه, فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، فقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية, فيه بيان أنها أكبر النعم, ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده، فقال تعالى: {وَلَا تَكْفُرُونِ} المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النعم وجحدها, وعدم القيام بها، فاشكروا لي بالطاعة ، ولا تكفروني بالمعصية، فإن من أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره. وذكر الله تعالى يكون بالقلب أو باللسان، وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان معا، وذكر القلب أفضل من ذكر اللسان، وأفضل الذكر كتاب الله وكلامه، ثم ما ورد عن رسوله صلى الله عليه وسلم،
أيها المسلمون
ولذكر الله تعالى فوائد وفضائل متعددة: فمن فوائد ذكر الله تعالى وفضائله: أنه يطرد الشيطان، ويقمعه ويكسره، ويرضى الرحمن عز وجل، ويزيل الهم والغم والحزن، ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.. ومن فوائد ذكر الله: أنه يقوي القلب والبدن، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويكسو الذاكر المهابة، والحلاوة والنضرة، ويورثه المحبة، والذكر يورث المراقبة، حتى يدخل العبد في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ويورثه الإنابة والقرب، فعلى قدر ذكر العبد لربه، يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته، يكون بعده عنه،
ومن فوائد ذكر الله وفضائله: أنه يورث حياة القلب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء)، ويورث جلاء القلب من صداه، فصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار، وهو يحط الخطايا ويذهبها، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»، وذِكْر اللهِ عَزَّ وجَلَّ أَحَبُّ شَيءٍ إِلى اللهِ، ومَنْ فَعَلَ مَا أَحَبَّ اللهُ، فَازَ فِي الدَّارَيْنِ، وسَعِدَ فِي الحَياتَيْنِ، فَفي المعجم للطبراني: (عَن أُمِّ أَنسٍ – رَضيَ اللهُ عَنها – أَنَّهَا قَالَتْ: (يَا رَسولَ اللهِ أَوصِنِي، قَالَ: اهجُرِي المَعَاصِي فَإِنَّها أَفضَلُ الهِجْرَةِ، وَحَافِظِي عَلَى الفَرَائِضِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الجِهَادِ، وَأَكْـثِرِي مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَإنَّكِ لاَ تَأتِينَ اللهَ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيْـهِ مِنْ ذِكْرِهِ)، لذا، فقد حثت السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ المُسلِمَ أَنْ يَتَّخِذَ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى رَفِيقًا لَهُ فِي كل تَحَرُّكِهِ وَسُكُونِهِ، وَقِيَامِهِ وَنَومِهِ، وَخُرُوجِهِ وَدُخُولِهِ، وَفِي كُلِّ مُفْرَدَاتِ حَيَاتِهِ، فَرَسُولُنَا الكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَكَانَ يَنْصَحُ أَصْحَابَهُ بِذِكْرِ اللهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ لَهُ فِي مَجْـلِسٍ وَاحِدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ – أَيْ أَستَمْسِكُ – بِهِ؟ قَالَ: (لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ)،
ومن فوائد ذكر الله وفضائله: أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة، ففي صحيح مسلم: (عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». وذكر الله سبب لانشغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والقول الباطل، فمن عَوَّد لسانه على ذكر الله، صانه عن الباطل واللغو، وذكر الله غراس الجنة، ففي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ». وفيه أيضا: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ. غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ»،
ومن فوائد ذكر الله: أن أجره عظيم، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»،
وذكر الله شفاء لقسوة القلوب، قال رجل للحسن: (يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذِبْهُ بالذكر)، وذكر الله يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح وفاز، قال تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (41): (43) الاحزاب، ويباهي الله تعالى بالذاكرين ملائكته، ففي صحيح مسلم: (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ «مَا أَجْلَسَكُمْ». قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلاَمِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ». قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِى بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ».
ومن فوائد ذكر الله وفضائله: أن المداومة عليه تنوب عن بعض الطاعات، وتقوم مقامها، ففي الصحيحين واللفظ لمسلم: (أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ «وَمَا ذَاكَ». قَالُوا يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ مَرَّةً». قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ». وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: “لأن أسبح الله تعالى تسبيحات، أحب إلي من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل”،
ومن فضائل الذكر وفوائده: أن الذكر يعطي الذاكر قوة في قلبه، وفي بدنه حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، ففي الصحيحين: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا، فَأَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِلَيْنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ لأَقُومَ فَقَالَ «عَلَى مَكَانِكُمَا». فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ «أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»، فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه تغنيه عن خادم،
وذكر الله علامة على حياة القلب: فكل قلب لا يذكر الله تعالى فهو قلب ميت، فقد روى البخاري: (عَنْ أَبِي مُوسَى – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ»، وكثرة ذكر الله أمان من النفاق، فالمنافقون قليلوا الذكر لله عز وجل، ودوام الذكر فيه تكثير لشهود العبد يوم القيامة، وقال معاذ بن جبل: (ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله)،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فذكر الله تعالى صدقة بلا مال، وجهاد بلا قتال، ومرابطة بلا انتقال، وهو أسهل ما يقال، وأيسر ما يعمل، وأجمل ما يفعل، وأخف ما يحمل. وذكر الله أثقل شيء في الميزان، وأحب شيء للرحمن، وأجمل سعي للإنسان. وذكر الله تعالى يجمع على العبد ما تفرق من أمور الدين، ففي سنن البيهقي: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلاَنِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ :«مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ». وَقَالَ الآخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَىَّ فَأَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ قَالَ: « لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ». فذكر الله هو باب المحبة الأعظم، وسبيلها الأقوم، وصراطها الأمثل، وطريقها الأقصر، فأهل الإيمان: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران :191). فمن أحب شيئا أكثر من ذكره، فمن أراد أن يعرف قدر الله في قلبه فلينظر كيف ذكره له. وذكر الله حصن لصاحبه من الشيطان، ففي سنن الترمذي: (وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ»، وذكر الله زكاة للنفوس، وطهارة للصدور، واطمئنان للقلوب، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28).
ومن أراد أن يذكره الله في السماء، فليكثر من ذكره في الأرض، ومن أراد أن يثقل الله موازينه، فعليه بذكر الله، ففي وصية نوح لابنه : (آمُرُكَ بِلا إلهَ إلا اللهُ؛ فإنَّ السماواتِ السبعَ، والأَرْضِينَ السبعَ لوْ وُضِعْنَ في كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لا إلهَ إلا اللهُ في كفةٍ، لرجحتْ بهنَّ لا إلهَ إلا اللهُ، ولوْ أنَّ السماواتِ السبعَ والأرضينَ السبعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً لَفَصَمَتْهُنَّ لا إلهَ إلا اللهُ) (رواه أحمد وصححه الألباني). وفي صحيح البخاري: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ»، وفي سنن الترمذي: (قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ». قَالُوا بَلَى. قَالَ «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»
أيها المسلمون
وقد حذر الله ورسوله من الغفلة عن ذكر الله تعالى، لأنها سبب في قساوة القلب، فالْقَلْب الغَافِلَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ يَقْسُو حتَّى يُصْبِحَ كَالْحِجَارَةِ أوْ أَشَدَّ قَسْوَةً، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْـفِ هَذِهِ القُلُوبِ: ” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ” البقرة: 74،
وعِنْدَمَا يَقْسُو قَلْبُ الإِنْسَانِ لا يَتَأثَّرُ بِشَيءٍ وَلا يَرِقُّ لِشَيْءٍ بَلْ نَجِدُهُ ضَيِّقَ الصَّدْرِ، يَتَضَجَّرُ مِنْ لا شَيءَ وَيَشْعُرُ بِالْقَلَقِ وَالضِّيْقِ بِالنَّاسِ، وَلا يُبَالِي بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ نَكَبَاتٍ وَمَصَائِبَ،
وَمِنْ مَظَاهِرِ غَفْلَةِ القَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ الشَّغَفُ بِمَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَواتِهَا، وَإتْيَانُ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَعَدَمُ الإسْرَاعِ بِالْتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ، وعَدَمُ القِيَامِ بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالنَّافِعَةِ، وَالتَّكَاسُـلُ عَنِ القِيَامِ بِالوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ، فقَسَاوَةَ القُلُوبِ مَرَضٌ خَطِيْرٌ، لا يَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى الفَرْدِ فَحَسْبُ ،بَلْ إِنَّهُ يَنْخَرُ كِيَانَ المُجْـتَمَعَاتِ الإسْلامِيَّةِ، وَيُهَدِّدُهَا بِمَخَاطِرَ عَظِيمَةٍ، وعَواقِبَ وَخِيْمَةٍ.
الدعاء