خطبة عن( من أسباب وعوامل النجاح والفشل في الإسلام )
يناير 26, 2021خطبة عن عذاب أهل النار ، وحديث ( إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ)
يناير 30, 2021الخطبة الأولى ( يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (41) ،(42) هود
إخوة الإسلام
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): إنها عبارة نبوية ،وردت في هذه الآية القرآنية ، على لسان نبي الله نوح عليه السلام، قالها حينما خاطب ابنه في أشد اللحظات ،وأحلك الأوقات، يدعوه فيها إلى النجاة من عذاب الله ،وسخطه وغضبه ،والنجاة من أعظم طوفان مرَّ على هذه البسيطة، فأغرق كل من على هذه الأرض ، ولم ينج إلا أصحاب السفينة من أتباع الرسل، (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) فالعبارة مع قلة مفرداتها ،إلا أنها تحمل عمقاً ودلالة عظيمة، تكشف عن عمق الحب الأبوي من هذا النبي المجاهد الصابر تجاه ولده ،وما قد يلحق به،
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، لتكن لنا شعاراً في هذه الأيام العصيبة ،والفتن المظلمة ،ولتكون لنا معينا للوقوف ضد هذا الطوفان المدمر ،والاعصار المخرب الذي يعصف بمن حولنا، وأنا أنادي الآن على كل صاحب عقلٍ، بما نادى به نوح عليه السلام: ﴿ارْكَبْ مَعَنَا﴾ قبل فوات الأوان، فلن ينفعك غرب أو شرق، والواقع يشهد أنّ المستقبل للإسلام، فلا تعاند، واعتبر مما جرى للطغاة السابقين والأمم الظالمة ،فلستَ أقوى منهم؛ فأين هم الآن؟. ﴿ارْكَبْ مَعَنَا﴾ فقد جاءتك فرصة للتوبة فانتهزها، وعُدْ لدينك، ودع عنك وعود الشيطان ،فعما قريب ينكشف الغطاء، وترى نفسك في العراء، بلا أنيس ولا جليس. ﴿ارْكَبْ مَعَنَا﴾ سفينة الإسلام ولو كنت وحدك، ولا تنظر لأخلاق المفرطين، ولا حجج اللاهين الواهمين ،فما هي إلا ساعات قليلة، ونقف جميعا بين يدي الله رب العالمين، ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس:34-37].
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) واحذر سبيل الذين لا يؤمنون, وتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن, واركب سفينة النجاة مع المؤمنين الذين اتقوا والذين هم محسنون, فبذلك تنجو من الهلاك. واعلم أن النجاة ليست هي مجرد الهروب من الموت ،ولكن أن تموت وقد قبلك الله, ورضي عنك ،وقد جاء في صحيح البخاري : (قَالَتْ عَائِشَةُ – رضي الله عنها – قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ ،فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ » .قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ .قَالَ «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ،ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . ففي الحديث بيان بأن من تمسك بهدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نجا وإن مات كما مات غيره بالزلازل أو الفيضانات أو غيرها, لكنه في الحقيقة هو راكب السفينة الموصلة إلى رضوان الله, بل إن الله ينجي المؤمنين من نزول عذابه ونقمته إن هم صدقوا الله ما عاهدهم عليه, فهل من عودة صادقة إلى الله -جل وعلا- حتى يرفع عنا هذه الغمة ،وهل من عودة إلى شريعة الإسلام وأحكامه لتدفع عنا الخزي والعنت؟
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) فسفينة نوح عليه السلام هي مثل على توافر سبيل النجاة لمن أراد النجاة وصدق في النية ،وكيف لا تكون السفينة سفينة النجاة وهي تجري باسم الله وترسي باسم الله، والأمر كله لله، والملك كله لله، والحمد كله لله، والمسلم يدرك اليوم أن الخطر محدق بالمسلمين ،ويتهددهم رجالاً ونساءً، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، دياراً وأقطاراً، فالخطر أوضح من أن يتجاهله إلا غافل أو لاه، غاب في لهو الدنيا ولعبها، وزخرفها وزينتها.
وقد يغيب عن بال بعض المسلمين اليوم أمران: الأول: أنه قد لا يدرك المسلم مدى دنوِّ الخطر منه، من شخصه وأهله الأقربين، وقد يظنُّ بعض المسلمين أن الخطر بعيد منه قريب من غيره، وأنه لذلك في منجى منه، ويقع المسلم بذلك فيما وقع فيه ابن نوح: ﴿ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾، وما ارعوى ابن نوح حتى عندما ذكَّره أبوه النبيّ الرسول بحقيقة الخطر الذي لا نجاة منه إلا بسفينة النجاة التي أمر الله بإعدادها، والتي جعلها الله السبيل الوحيد للنجاة: ﴿ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ هود (43) ،
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): فعندما ينطلق المؤمنون إلى سبيل النجاة ،أو إلى بابها، ويطرقونه ليفتحه الله لهم بصدقهم ووفائهم، فإنَّ الكافرين يظلّون في عماءتهم وضلالهم ، غارقين في أوحال الدنيا، فينفصل المؤمنون عنهم فكراً ونهجاً ،وموقفاً وممارسةً، ويحول بين الفريقين حائل يدفع كل فريق إلى مصيره: فريق المؤمنين إلى النجاة ،وفريق الكافرين إلى الغرق: ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ هود (43) ،ففي هذا التعبير صورة فنيّة معجزة لتبيّن انقطاع النداء بين الأب النبيّ الرسول وابنه المصرّ على الكفر، وانقطاع الرجاء في نجاة من يصرُّ على الكفر. إنها الصورة المعبِّرة عن النموذج المتكرِّر، حين تحين لحظة المفاصلة بين الإيمان والكفر ،وإذا لم تحدث هذه المفاصلة في لحظتها المناسبة، فلن ينفتح باب النجاة، وتُسَدُّ سبيلها، ويأخذ الله الجميع بعذاب أليم.
أيها المسلمون
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): فسفينة الله هي سفينة النجاة، وليست سفينة الهوى، أو الطاغوت ،أو الشركاء ،أو التعصب المذموم وعبادة الأشخاص والأحزاب، فحياة المؤمن كلُّها صراعٌ بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فإنْ هو استجاب للشيطان والهوى، تردَّى إلى المهالِك والخسران، وإنْ هو استجاب لداعي الحق والهدى، ارتَقَى إلى أعلى الدرجات، ولقد قيَّض الله للمؤمن قوارب للنجاة منَ المهالك، إن هو استجاب إليها أقلَّتْه إلى شاطئ الأمان، وأنْجتْه منَ الضَّياع والهلاك ومن هذه القوارب التي أعَدَّها الله لعبادِه المتقِين: أولا: قارب معرفة الله: وهو قارب النجاة من كلِّ ضلالة وانحراف، فالذي يعرف الله تعالى، يعرف الطريق إلى كل خير، ويجتنب أسباب الوُقُوع في الشَّرِّ.. ومن قوارب النجاة : قارب عبادة الله: فهو قارب النجاة من الغرَق في بحر الضلالات، وسبيل النجاة من الآفات والانحرافات ، فالعبادة وإحسانها، والدوام عليها، والإكثار منها – تُنَظِّم الصِّلَة بالله، وتُحسنها، وتديمها، والموصول بالله يبقى على مددٍ من الله، وعون منه وعناية، ومن قوارب النجاة ،الموصلة إلى الله : قارب حب الله ورسوله: وهو قارب النجاة من الغرَق في بحار حبِّ الدنيا، والتعلُّق بحطامها، واللهث وراء مُتَعِها وشهواتها، فالذي تعلَّق قلبُه بالله، لا يطغى عليه حب ما عداه، ولقد كان من أدعية الرسول – صلى الله عليه وسلم –كما في سنن الترمذي : (عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ »، ومن قوارب النجاة ،الموصلة إلى الله : قارب الخوف من الله: وهو قارب النجاة من الغرق في بحار الذنوب والمعاصي والآثام ،فالذي يخاف الله تعالى يتقي سخطه، ويخشى عذابه، ويتحاشَى محارمه
أيها المسلمون
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): فإن عقاب الله للمجرمين المفسدين في الأرض حقٌّ، وواقع لا محالة في ذلك مهما طال الأمر، وإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلتْه، ولا ينزل العقاب بقوم مجرمين دون قوم، ولكن الله يأخذ كل إنسان بذنبه، كل قوم بعملهم، فيغفر لمن يشاء ،ويعذَّب من يشاء، يعذَّب من أبى النصيحة ،وأصرَّ على الفتنة والكفر، وتمادى في ضلاله ، حتى حَقَّت عليه كلمة الله، قال الله تعالى :﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]. وقال سبحانه وتعالى:﴿ فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]. وفي صحيح البخاري 🙁عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ : ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) هود (102)
أيها المسلمون
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): فحارب المفسدين قبل أن يغرقوك بماء مكرهم وسفه طيشهم، واجعل من الإصلاح منهجاً تلقى الله تعالى به ،قبل أن تفضي إلى ما قدمت ،فلا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) واحفظ ما استرعاك الله به من أموال الناس وحقوقهم، فهي دَين في عنقك إلى يوم الدين، وافتح بابك للضعيف والمستضعف وانظر في مظلمته اليوم قبل أن ينظر إليك بنظرة لا تقوى عليها، يوم لا ترد المظالم ولا تؤخَّر.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): واعلم أن الله قد شرع باب التوبة لتجب ما قبلها، فاحفظ نفسك وانجُ بأهلك ،يفتح الله عليك من فضلة وكرمه، ولا تحتجّ لنفسك بأخطاء المسلمين ، فليست أخطاء غيرك بمنقذة لك أمام الله عز وجل؛ فإن لم تعمل لنفسك بنفسك، فلن تنفعك أعمال الآخرين ،ولن تضرك معاصيهم، ما دمت على جادة الصواب، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة:105]. فأنت وما تعمل إن خيرا فلنفسك، وإن شرًا فعليها، ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصِّلت:46].
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): إنه نداء من أبٍ رحيم يعتصر قلبه ألمًا على ابنه العاق ،ونداء داعية عطوف لمدعوٍّ يريد أن يُلقي بنفسِه إلى التهلكة ،وصرخة من شيخ يَعي مآلات الأمور ،ويعلم كيف يكون الخلاص ،وصرخة من قائد مُحنَّك لشاب طاش عقله ،وظنَّ أن قوته ستبلغه مُراده.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): إنه هتاف العقل والحكمة ،للعشوائية والتخبط والغرور ،وهتاف مَن عرَكَتْه الحياة ،وعرَف دروبها وحِيَلها ومكرها بأهلها، وهتاف تودُّد من مُعلم لا يريد إلا الخير والنجاة والرفعة لتلاميذه، وهو نصيحة في الله ،لا يريد قائلُها إلَّا الأجرَ والثواب من الله تعالى وحده، ونصيحة من ذاق حلاوة الإيمان ،لمن انغمس في وَحل الشهوات. ونصيحة مَن تحرِّكه القوة الروحية لِمن لاذ إلى قوة مادية زائلة.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): فيه إعلان على الملأ ،لتوضيح أن مظلَّة الدعوة تسع الجميع ولا تستثني أحدًا، وإعلان من القائد نفسه ،لتوضيح أن الدعوة ليست مقصورة على سِنٍّ ولا مكانة، وهذا النداء ما زال يدوي في جنبات الكون ،منذ أن أطلقه نبي الله نوح عليه السلام إلى يومنا هذا، وإلى أن يرِث الله تعالى الأرضَ ومَن عليها، وكأنه يلاحق كلَّ فاسِد، وكل فاجر، وكل مُتجبر، وكل عنيد، وكل طائش، وكل عاصٍ، وكل ظالم؛ لكي ينجو بنفسه قبل فوات الأوان، ولكي يركب سفينةَ النَّجاة قبل قدوم الطوفان، فالسفينة واحدة وإن تغيَّر ربَّانها. وهذا النداء الذي لم يتوقَّف إلى يومنا هذا، فهناك مَن يريد أن يُوقفه، وهناك من يريد أن يكتمه ،وهناك من يصم أذنيه لكي لا يسمعه، وهناك من يُغمِض عينيه لكي لا يرى صاحبَه، بل هناك من يريد أن يفتك بصاحبه، وهذا النداء هو فيصل بين طريقين، وبين منهجين، فعلى كل مَن يهتف بهذا الهتاف أن يُعِد نفسه لمعركة طويلة، يَقودها ،ويخطِّط لها ،ويؤجج نارها كلُّ طواغيت الأرض، وكل مَن ركن إليهم، وصفق لهم، وسار على دربهم.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): هذا النداء يُقيم الحجَّة على كلِّ من يسمعه، بأن الله تعالى قد أرسل الرسل ،وجعل العلماء ورثَةَ الأنبياء، فمن اجابهم فله الخير والسلامة، والأمن والأمان، ومن أعرض ونأى بجانبه، فما له إلَّا الهلاك ،والخسران المبين، وهذا النداء يُعلمنا أن الأرحام لا تُغْني عن صاحبها شيئًا ،طالما اختار لنفسه طريقَ الضلال، وهذا النداء إنما جاء بصيغة المفرد؛ لكي يُحمِّل كلَّ إنسان المسؤولية الفردية عن نفسه؛ فالإنسان يُولد فردًا، ويُكلَّف فردًا، ويموت فردًا، ويُبعث فردًا، ويُحاسب فردًا، وهذا النداء هو إقرار بعدم قبول (الطبقة الرمادية)؛ فإما أن تكون مع الحقِّ وأهله، وإما أن تكون على الحق وأهله؛ فلا قبول بتلون ممقوت، ولا مُداهنة خبيثة، ولا مداراة ماكرة، طمعًا في السلامة، وتقية من المشقَّة، وهروبًا من تحمُّل تَبعة الاستجابة لنداء الحق.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): إن الاستجابة لهذا النِّداء تعني أنك قد وُلدتَ من جديد، وأن الله تعالى سيُبدل سيئاتك حسنات، وأن من كان يبغضك بالأمس في الله، يحبك اليوم في الله، وينتظر منك أن تبادله نفس الشعور، والاستجابة لهذا النِّداء لا تعني أنك ستنخلع من ملذَّات الدنيا ،وستَحرِم نفسك من نعيمها، بل ستنعم بكلِّ شيء ،في حدود ما أحَلَّه الله تعالى لك، فستجد نعيمًا، وستجد راحة وطمأنينة، وستجد سعادة يحسُدك عليها ملوكُ الدنيا، والاستجابة لهذا النداء تعني الانصباغ بصبغة أهل الحق، التي هي صِبغة الله تعالى ، التي ارتضاها لخلقه؛ ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138] ، والاستجابة لهذا النداء تعني أنك ستتحمل مسؤولية هذه الاستجابة ،صابرًا مُحتسبًا، وأنك ستدفع جزءًا من الضريبة التي يدفعها الدُّعاة إلى الله تعالى على يد الباطل وأهله، والاستجابة لهذا النداء تعني أنك ستقف في صفِّ الهاتفين بدعوة الله، تهتف بلغتهم، ولا تشذ عن غايتهم التي كلَّفهم الله تعالى بها ،واضحة ساطعة، دون هوًى ،أو مَغنم ،سِوى رضا الله تعالى وبلوغ جنَّته. والاستجابة لهذا النِّداء تعني أنك على يقينٍ بصحَّة هذا الطريق، ووضوح فكرته، ونُبل غايته، فلن تدَّخر وسعًا في العمل لهذا الطَّريق، ولنشر هذا المنهج ،بأخلاق المؤمنين ،دون إفراط أو تفريط، والاستجابة لهذا النِّداء تعني أنَّك على يقين بأن هذا الطريق وحده هو الذي يوصل إلى الله تعالى ،وبلوغ رضاه وجنَّته، وأن غيره لا يوصل إلَّا إلى الهلاك والحسرة والندامة، فالحقُّ طريقه واحد، واضح، مُستقيم؛ إنَّما الباطل طرقه كثيرة، ملتوية، متشعبة.
أيها المسلمون
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ): فهنيئًا لمن بلَغَه النِّداء فلم يتردَّد، وهنيئًا لمن اختار صحبة الصالحين على صحبة الطالحين، وهنيئًا لمن هتف في صفوف المصلحين ،ولم يهتف في صفوف المفسدين، وهنيئًا لمن استعذب مشقَّة الطريق؛ طمعًا فيما عند الله تعالى ،والذي هو خير وأبقى.
الدعاء