خطبة حول قوله تعالى ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ )
فبراير 27, 2021خطبة حول ( المشاهد والمرائي التي رآها الرسول في رحلة الإسراء والمعراج ودلالاتها)
مارس 2, 2021الخطبة الأولى (يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالاً وَوَلَدًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ ». قَالُوا لاَ. قَالَ « فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ ». قَالُوا لاَ. قَالَ « فَوَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا – قَالَ – فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ. وَيُثْنِى بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ فَيَقُولُ هَا هُنَا إِذًا – قَالَ – ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ. وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْهَدُ عَلَىَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِى يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ ». وفي سنن الترمذي بسند صححه : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالاً وَوَلَدًا وَسَخَّرْتُ لَكَ الأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ يَوْمَكَ هَذَا قَالَ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ لَهُ الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ».
إخوة الإسلام
لقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نُحاسِب أنفسنا في هذه الحياة الدنيا ، وأن نُراجِعها، وأن نتفقَّد أحوالها، وننظر ماذا عملت من خير في دنياها، وما تزودت به من تقوى الله عز وجل لأُخراها، وألَّا نكون من الغافلين الذين نَسوا لقاء الله، فأنساهم أنفسهم، فتركوا لها الحبل على الغارب؛ حتى فسقوا عن أمر الله، وخرجوا على طاعته، فكانوا من أصحاب السعير، وذلك هو الخسران المبين؛ قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18 – 19]. وروى الترمذي في سننه بسند حسنه : (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ » فالعاقل الفطن هو الذي يُحاسب نفسه، ويقدِّم من العمل الصالح ما ينفعها بعد موتها، والعاجز الضعيف هو الذي يتركها تتخبط في غفلاتها وترتع في شهواتها، ويتمنى أن ينجيَها الله من عذابه، وهيهات؛ فالله تعالى يقول: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123، 124]. وقد أُثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : “حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يوم تُعرَضون لا تخفى منكم خافية”، فكلُّ عَبدٍ سيُعرَض على اللهِ عزَّ وجلَّ يوم القيامة ، وسيُقرِّرُه ، ويَسأَلُه على نِعَمِه الَّتي أنعَم عليه بها في الدُّنيا؛ وما فعَل فيها؟ وهل أدَّى شُكرَها ؟ ، ولم يَنْسَ حقَّ اللهِ فيها؟! وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ ) قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا ؟ ( قَالَ إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ ) حسنه الألباني في” صحيح الترمذي ” .وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ” أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته ” وقال ابن القيم رحمه الله : ” قال قتادة : ” إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه ،والنعيم المسئول عنه نوعان : نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأل عن شكره ، ونوع يأخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه ” وقال أيضا :” كل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا ؟ فإذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا ؟ فالأول سؤال عن سبب استخراجه ، والثاني عن محل صرفه ”
إخوة الإسلام
وأوَّل المحاسبة أن يُقارن العبد بين نِعَم الله عز وجل عليه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وبين تفريطه في جنب الله، وجُحوده لنِعَمِه، وعصيانه لأمره، وعدم قيامه بشكره.فيظهر له حينئذٍ الفرقُ الهائل بين ما أنعم الله به عليه، وبين ما قابَلَ به هذه النِّعم من جحود ونكران، وغفلة وعصيان، فيعلم أي جناية جناها في حق نفسه، وأي ظلم أوقعه بها، ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 33]. وهذا يَحمله – إن أراد الله له الهداية – على أن يقف لنفسه بالمرصاد، ويراجعها مراجعة دقيقة، ويُلزمها الجادة، وأن تعرف قدرها، وأنه لا نجاة لها إلا بالعبودية الخالصة لله رب العالمين، ويُكثر من أن يقول ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ) رواه البخاري ،وهناك أشياء مما يسأل العبد عنها قد نصت عليها نصوص الكتاب والسنة ، ومنها : أولا : سوف يسأل العبد عن عمله في الدنيا، كما قال تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93]، وقال أبو العالية : “يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعن ماذا أجابوا المرسلين”، وقال ابن عيينة: “عن عملك وعن مالك”، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم؛ ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟!” ثانيا : ويسأل العبد عن صلاته ومدى إتقانه لها، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاَةُ قَالَ يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلاَئِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ انْظُرُوا فِي صَلاَةِ عَبْدِى أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ أَتِمُّوا لِعَبْدِى فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ » رواه أبو داود وغيره. ثالثا : ويسأل العبد عن حياته، وعن جسده، وعن علمه، وعن ماله، فقد روى الترمذي: (عَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ » رابعا : سوف يسأل العبد ماذا كان يسمع في الدنيا؟ وماذا كان يبصر؟ وماذا كان يقول؟ قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. خامسا : سوف يسأل العبد عن رعيته، هل أدى الأمانة فيهم؟ ،ففي الصحيحين واللفظ للبخاري : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ فِى أَهْلِهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ » . قَالَ فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ » ، فواجب على كل من استرعاه الله رعية أن يؤدي الأمانة فيها؛ حتى يكون جوابه حاضراً يوم القيامة. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد أجوبة لهذه المسائل ، سادسا : سوف يسأل العباد عن هذه النعم التي يرتعون فيها، كما يسألون عن إسرافهم في أكلهم ولباسهم ومراكبهم وعمرانهم، وفيم سخروا هذه النعم؟ وهل أدوا حق المنعم سبحانه وتعالى؟! قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]. قال الحسن البصري رحمه الله: “من النعيم: الغداء والعشاء” .وفي سنن الترمذي : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قَالَ الزُّبَيْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَىُّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُمَا الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ. قَالَ « أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ » ، وفيه أيضا : أن (أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ » ،وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ « مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ». قَالاَ الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « وَأَنَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِى أَخْرَجَكُمَا قُومُوا ». فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلاً. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَيْنَ فُلاَنٌ ». قَالَتْ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ. إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّى – قَالَ – فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا مِنْ هَذِهِ. وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ ». فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ ». وروى الإمام أحمد في مسنده : (عَنْ أَبِى عَسِيبٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلاً فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي إِلَيْهِ فَخَرَجْتُ ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطاً لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ « أَطْعِمْنَا بُسْراً ». فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ فَقَالَ « لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَئِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « نَعَمْ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ أَوْ جُحْرٍ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ ». والإنسان في هذه الدنيا يحب كثرة المال والمتاع مع أنها سبب لطول الحساب، كما أن قلة المال والمتاع سبب لسرعة الحساب، وهذا ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: كما في مسند أحمد : (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقُلُّ لِلْحِسَابِ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالاً وَوَلَدًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والأسئلة يوم القيامة سوف تكون عن كل شيء صدر من العبد في الدنيا، صغيراً كان أم كبيراً، جليلاً كان أم حقيراً إلا أن يتغمد الله العبد برحمته. ومثال سؤال العبد عن الأمر العظيم: سؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل بلغ رسالة ربه؟ وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ومثال سؤاله عما يراه صغيراً حقيراً: سؤاله عن عصفور قتله بلا حاجة. وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل يوم القيامة، قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: حقها أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها” رواه الحاكم في المستدرك ،وكان من هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى الخوف من الحساب لدقته، وكثرة ما يسأل عنه العبد فيه؛ ولذا كانت محاسبتهم لأنفسهم شديدة اتقاء الحساب يوم القيامة. فلم تكن النعم التي فتحت عليهم طامساً على قلوبهم أن تغفل عن الحساب، أو تنسي يوم المعاد، قال أبو عثمان النهدي: “لما فُتحت جوخي دخل المسلمون يمشون والطعام فيها أمثال الجبال، وقال رجل لسلمان: ألا ترى ما فتح الله علينا، قال سلمان: وما يعجبك مما ترى؟ إلى جنب كل حب مما ترى حساب” وقال أبو ذر رضي الله عنه: “ذو الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم” وقال يحيى بن معاذ: “الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، وهو يسألك عن جناح البعوضة”.
أيها المسلمون
ومن الموحدين من يقر بذنوبه يوم القيامة، فيقر بها فيغفر الله تعالى له، فلا يعذب كما دل على ذلك حديث صفوان بن محرز المازني ، ففي صحيح البخاري : (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ ، فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ . حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ . فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ » ، ومن الناس من يناقش ويسأل، وذلك الذي يعذب بذنوبه ، كما دل على ذلك الحديث ففي الصحيحين : (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ ». فَقُلْتُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ،فَقَالَ « لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ ». فالعاقل من يقيس وجل الناس وقلقهم من أسئلة حساب هذه الأيام على الوجل الأعظم والقلق الأكبر الذي سيحصل يوم القيامة، ومن فعل ذلك قاده للجد والاجتهاد في العبادة والمسارعة في الخيرات، واغتنام العمر قبل فواته،
الدعاء