الخطبة الأولى ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إخوة الإسلام
إن المتدبر لهذه الآيات المباركات من كتاب ربنا ،يتبين له عظم قدرة الله سبحانه وتعالى المطلقة ،فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ،وقد جاء في تفسيرها في (الوسيط لطنطاوي) قال :يا زكريا مع كون امرأتك عاقرا ،وأنت قد بلغت من الكبر عتيا ،ولكن ذلك لا يحول بيننا وبين تنفيذ إرادتنا في منحك هذا الغلام ،فإن قدرتنا لا يعجزها شيء ،ولا تخضع لما جرت به العادات .وهذا الأمر وهو إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي :يسير سهل .ثم ذكر له – سبحانه – ما هو أعجب مما سأل عنه فقال : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) .أي :لا تعجب يا زكريا من أن يأتيك غلام وأنت وزوجك بتلك الحالة ،فإني أنا الله الذى أوجدتك من العدم ،ومن أوجدك من العدم ،فهو قادر على أن يرزقك بهذا الغلام المذكور .فالآية الكريمة قد ساقت بطريق منطقي برهاني ، ما يدل على كمال قدرة الله – تعالى – وما يزيد في اطمئنان قلب زكريا – عليه السلام ،
وجاء هذا الخِطَاب مِنَ اللهِ تعالى للسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) ،عِنْدَمَا قَالَتْ لِسَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيَّاً﴾؟ فَجَاءَ الجَوَابُ: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرَاً مَقْضِيَّاً﴾.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾. هُوَ كَقَوْلِهِ تعالى في مَسْأَلَةِ البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾. فَكَلِمَةُ (هَيِّنٍ وَأَهْوَنَ) بِالنِّسْبَةِ للهِ تَبَارَكَ وتعالى لَا تُؤْخَذُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، لِأَنَّ كَلِمَةَ هَيِّنٍ وَأَهْوَنَ، تَقْتَضِي صَعْبَاً وَأَصْعَبَ، وَهَذِهِ مِنْ صِفَاتِ المَخْلُوقِينَ ؛أَمَّا بِالنِّسْبَةِ للهِ تعالى فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَيْهِ وَأَمْرٌ أَهْوَنُ، لِأَنَّ اللهَ تعالى قال : ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يس (82) .فَمَهْمَا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ عَظِيمَاً أَو حَقِيرَاً إِنَّمَا يَكُونُ بِكَلِمَةِ كُنْ ،فَاللهُ سبحانه وتعالى لَهُ القُدْرَةُ المُطْلَقَةُ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ مَهْمَا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ عَظِيمَاً أَو حَقِيرَاً. وَلَكِنْ عِنْدَمَا خَاطَبَ الخَلْقَ خَاطَبَهُمْ حَسَبَ مَنْطِقِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِذَا كُنْتُ خَلَقْتُكُمْ مِنْ عَدَمٍ فَإِعَادَتُكُمْ أَمْرٌ هَيِّنٌ.
أيها المسلمون
وهذا الرب العظيم الكريم، لا ييأس عبده قط من سؤاله، والتملل بين يديه، والإلحاح في نوال كرمه، ودوام التضرع والتذلل لعظمته، وإن طال أمد الإجابة ،وتأخر لحكمة يعلمه سبحانه، فلا يظن العبد بربه إلا الظن الحسن، فعطاؤه رحمة، ومنعه عين الحكمة.
أما من طال عليه الأمد، وتسلل إليه اليأس، وساورته الشكوك، وحامت حوله الهواجس، وظن بالله الظنونا، فليراجع إيمانه، وليجدد إسلامه وانقياده، وليكثر من التأمل في أسماء الملك، وصفات عظمته وجلاله وجماله وكماله ، قال الله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
أيها المسلمون
فهل سألت نفسك يومًا: كم من الأماني أجيبت لعبدالله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ ،ستدهشك الإجابات والعطايا والمنح، عندما تبحث عنها في كتابه العزيز ،وفي قوله تعالى :﴿ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
فتذكر دائما قوله تعالى :﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ ،وارجع بالذاكرة قليلاً، ستجد أن الله تعالى قد حقق لك الكثير من أمانيك وأحلامك، وإن لم تكن جميعها، تلك التي كنت ترى يومًا أنها عصية على التحقق، بل ربما تجد سيلاً من الأماني أدركتها وأنت في غفلة عنها. فانثر أحلامك وأمانيك ومطالبك مهما بدا لك أنها عظيمة عند من لا يعجزه شيء، عند من أمره وقراره وتنفيذه بين حرفين لا أكثر (كن) ،ستدهشك العطايا والهبات، فمن أجرى نواميس الكون وسننه ،هو من يملك قرار تعديلها وإيقافها، لتحقيق أماني عبد من عباده إذا لزم الأمر. فبقدر ما يعظم طلبك من الله ،بقدر ما يكون هين التحقق عنده. وكن على يقين تام أن المسافة بين الدعاء والإجابة هي ذاتها المسافة بين المفردتين في قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ هذا هو المفتاح، وهذا هو الدافع ،فمع استقرار هذه الحقيقة في النفوس ،يأتي الأمل والطمع والطلب والانطرح على باب الجواد ،نعم ،إنه مفتاح اليقين لقرع الأبواب، بل هي الثقة الدافعة لوضع الطلبات ،والإلحاح لنيل الأماني والرغبات، هكذا الأمر، وتلك هي الحقيقة بأوجز عبارة، وأوضح بيان ،فلا يأس إذن من سؤاله ،والعاجز من عجز عن الدعاء، فسله دوما ،وعود نفسك يا الله يا الله ،تملل بين يديه، وألح عليه، ودوام التضرع والتذلل لعظمته، وإن طال أمد الإجابة وتأخر فلحكمة يعلمها هو سبحانه ، فعلينا ألا نفكر في صعوبة مطلبنا، بل في قوة الرب الذي ندعوه ،وتذكر :” هُوَ عَليَّ هَيِّن ” تمتِم بها إن ماتَ لك أمل ،فكل العقبات تذوب وتتلاشى وتضمحل بعد قراءة هذه الآية ،فما كان عليك عسيرا ،فهو على الله يسير، ولن يعجزه أن يعطيك أمانيك ،فأبشر بالخير الكثير ،لا تعلّق قلبك بالأسباب ،وتغفل عن المسبِّب فقد يجعل من المستحيل ممكنا ،ومن الممكن مستحيلا فلا تيأس ،فالله تعالى لا راد لفضله ،ولا ممسك لرحمته.
الدعاء