خطبة عن عذاب أهل النار ، وحديث ( إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ)
يناير 30, 2021خطبة عن حديث (اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ ،وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)
يناير 30, 2021الخطبة الأولى سنة الاستبدال : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (38) محمد
إخوة الإسلام
إن المتأمل والمتدبر لهذه الآية الكريمة ، يتبين له أن فيها إشارة ربانية لأولئك الذين تركوا بعض الأعمال الصالحة ، كالإنفاق في سبيل الله ، بأن الله غني عنهم ، وعن نفقاتهم, قال تعالى : (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ). وفي الآية أيضا تقرير وتهديد بالاستبدال الرباني ، لمن فرط في باب النفقة في سبيل الله تعالى, والقلب المؤمن يخشى من الدخول في أولئك القوم ، الذين عناهم الله بقوله : (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) ، وهذا الاستبدال دليل على أن الله لا يريدهم ، ولم يفوزوا برضوانه ومحبته ، حيث قال سبحانه : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). فأي ظلال نستوحيه من هذه الآية الكريمة من كتاب الله تعالى ؟! وأي تهديد يمس القلوب الخاشعة من هذا التهديد الرباني : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (38) محمد ، نعم إنها سنة الاستبدال التي قرَّرها الله عزَّ وجل في مواضع عدة من القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى : ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة/39]. وهذه السنة تتبلور جليَّة في سقوط الحكومات والقيادات ، وقيام الأخرى مقامها، وانحطاط الأمم والجماعات ،وحلول أخواتها محلها ، فإذا رأينا حكومة أو قيادة أو أمة أو جماعة استبدلت بأخرى، فمعنى هذا أنَّ الظاهرة قد خضعت لهذه السنة وتمخضت عنها ، فإذا عهد الله إلى أمة، أو جماعة برسالة، أو إلى حكومة أو قيادة بمسؤولية، فإن كانت تؤدي رسالتها، وتقوم بمسؤوليتها، أبقاها على منصبها، وأدام لها نعمتها التي خوَّلها، ووفَّر لها أسباب البقاء، وأفسح لها مجال العمل ، وإن تهاونت في الاضطلاع بها، أو قصَّرت في أدائها، أو أعرضت عنها وتولّت، أو ظلمت وطغت، استبدل بها أخرى صالحة للقيام بالمسؤولية ، نشيطة في أدائها، تختلف كلَّ الاختلاف عن سابقتها.
أيها المسلمون
ولسنة الاستبدال أمثلة كثيرة في الأمم والحكومات والقيادات قبل الإسلام وبعده ، وأسوق لكم بعضا منها : فقصة موسى وهارون- عليهما الصلاة والسلام- مع فرعون مثال لهذا الاستبدال، وقد ساقها الله تعالى في كثير من السور ، فقد كان فرعون أسرف وعلا في الأرض، وطغى وتألَّه فقال: ﴿أنا ربُّكم الأعلى﴾. وظلم بني إسرائيل أشدَّ الظلم، وسامهم سوءَ العذاب، فكان يستعبدهم ويُسخِّرهم لأعماله، ويُذبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم حفاظًا على ملكه وسلطته، وجاهه ومكانته؛ فبعث الله تعالى إليه موسى وهارون – عليهما الصلاة والسلام- بالبينات والمعجزات، فكذب بهما وبما جاءا به. فعاقبه الله تعالى على طغيانه واستكباره، وظلمه واضطهاده، و تولِّيه وتكذيبه عقابًا عظيمًا، حيث أخرجه من ملكه وسلطته، وأرضه وقُصوره، وجنَّاته وعيونه، وأغرقه في البحر وجعله آية لمن بعده. وخلَّص بني إسرائيل المستضعفين من ظلمه وجبروته وطغيانه وغطرسته، قال الله تعالى في محكم آياته : (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (3) :(6) القصص ، فأخرج الله تعالى فرعون وقومه مما كانوا فيه من مُلك عريض، وجنَّات وبساتين، وأنهار وعيون، ونِعَم ومتاع، وقصور ومبان خرجةً أخيرة لا عودة بعدها، وأورثها كلها – في قول- بني إسرائيل المظلومين المعذبين. قال الله تعالى : ﴿ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (57): (59) الشعراء، وقال الله تعالى : ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف/137].
ومن أمثلة سنة الاستبدال ، استبدال القيادة الدينية، فالله سبحانه وتعالى قد اختار بني إسرائيل من بين الأمم المعاصرة ، لحمل لواء التوحيد، وأنعم عليهم بنعم كثيرة، وجعل فيهم الكتاب والنبوَّة، وأعطاهم زمام القيادة الدينية للإنسانية. فتمسُّكُهم بعقيدة التوحيد والاحتفاظ بها سرُّ تفضيلهم على العالمين. فأصبحوا ممثِّلين لعقيدة التوحيد وحاملين لواءها، بينما كانت الأمم على وجه الأرض ضالة مشركة، ولاشكَّ أنَّ الاحتفاظ بعقيدة التوحيد في المجتمع الضَّالِّ والكافر صعب جدًّا، ولذلك نرى يعقوب عليه السلام يضطرب لدى موته عن المستقبل الدينيّ لأبنائه، فيريد أن يطمئنَّ عليهم قبل موته، فيدعو أبناءه ويسألهم عمن يعبدونه بعده، فأجابوه أنّهم يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئا، فاطمأنَّ واستراح ، قال الله تعالى : ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة/133]. ظلَّ بنو إسرائيل على عقيدة التوحيد، واضطلعوا بها، ودعوُا الناس إليها، فهذا يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام ينتهز الفرصة للدعوة إلى التوحيد في السجن، فيدعو السجناء ومن يلتقي به إلى التوحيد، ويُنوِّه باختيار الله بيته لهذا الشرف والكرامة، قال الله تعالى ،على لسان نبيه يوسف ( عليه السلام ) : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (38) :(40) يوسف ، حافَظَ بنو إسرائيل على عقيدتهم وخصائصهم وشخصيتهم رغم الظروف العصيبة، ولم يذُوبوا في الأمم الأخرى، فقد لَقُوا من فرعون وجنوده أشدَّ العذاب وأسوأ التنكيل، فذُبِّحَ أبناؤُهم واستُحيي نساؤُهم، فأيُّ بلاء أشدُّ من تذبيح الأبناء واستحياء النساء؟ لاشك أنه كان ذلك بلاءً عظيمًا، غير أنهم لم يطيعوه في دينه، ولم يذُوبوا في جماهيره المشركة، قال الله تعالى : ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة/49]. ولكنَّ بني اسرائيل مع مرور الزمان ،وسير الأيَّام ،تنكَّروا لمواريثهم، وتركوا رسالتهم، واغترُّوا باختيار الله إيَّاهم للكتاب والنبوة، فحسبوا أنَّهم أبناء الله وأحبَّاؤه، وأنَّهم لا يدخلون النَّار ،مهما قارفوا المنكرات والمعاصي، وأنَّهم شعب الله المختار، وأنَّ فضلهم على العالمين لكونهم جنسًا خاصًّا. فاستشرى فيهم الفساد الخلقي والاجتماعي، وتطرَّق إليهم العِوَج والزيغ، حتى إلى المبادئ التي تمَّ اختيارُهم لأجلها للقيادة الدينية، فخلطُوا التوحيد بالشرك، وذهلوا عن الآخرة، وارتكبوا المعاصي والمنكرات، وتركوا الأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر، وفقدوا خصائصهم التي امتازوا بها على الأمم المعاصرة ، فأمهلهم الله عزَّ وجل ، ليرعوُوا عن المنكرات والمعاصي، ويتولَّوا وظيفتهم التي كُلِّفوا بها، فبعث الله فيهم كثيرًا من الأنبياء ، ليذكِّروهم ما نسوه من الوظيفة التي أُسنِدت إليهم، ويُرشدوهم إلى المنهج الصحيح، غير أنَّهم ظلَّوا في اغترارهم، و لم يطيعوهم ، وأصبحوا كالطفل المدلَّل ، لا ينفع فيه تربية ، ولا تؤثر فيه عظة، بل قد بلغت بهم الجراءة أن كذَّبوا أنبياء الله وقتلوهم، قال الله تعالى : ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [المائدة/70]. استمرَّت الحال على ذلك حتى بُعِثَ إليهم آخر نبيٍّ، وهو عيسى عليه السلام، فكذَّبوه ورموه وأمه بأشنع التُّهم وأقبح الإفك، وتصدَّوا لقتله؛ فرفعه الله إليه، ونجَّاه من شرِّهم ، قال الله تعالى : ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة/87]. فعيسى عليه السلام آخر نبي إسرائيلي خُتِم به تاريخهم الديني ، وعُزِلوا عن منصب القيادة الدينية، ونُقلت إلى بني إسماعيل : العرب، وتمَّ تحويلُ القبلة من البيت المقدس إلى المسجد الحرام ، قال الله تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف/6].
إنَّ منصب القيادة الدينية هذا لَشرف عظيم وتكريم بالغ، وقد امتنَّ الله تعالى به علي العرب ، حيث قال الله تعالى : ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران 164]. وقال الله تعالى : ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء/10]. هكذا اصطفى الله سبحانه وتعالى العرب لحمل رسالته ، والاضطلاع بأمانته ، بفضل منه ورحمة، وطَرَدَ الأمة التي تنكَّبت عن حملها ،وفقدت صلاحيتها للقيام بها ،قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [الفاطر/32] وقال الله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة/4]. إن بني إسرائيل لما فقدوا أهلية الاستفادة من الرسالة السماوية، وتجرَّدوا عن الخصائص التي حُمِّلُوا لأجلها الأمانة الإلهية، فأصبحوا كالحمار يحمل الكتب لا يعرف ما عليه ، فضلا أن يفهم ما فيه، ويعمل به .فمن لا يعرف ما عنده من الكتاب ،ليس أهلًا أن يكون تلميذًا ،فضلا أن يكون أستاذًا لغيره.قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة/5].
أيها المسلمون
والسؤال : لماذا اختار الله سبحانه وتعالى العرب للرسالة الجديدة ؟، ولماذا نقل القيادة الدينية من أمة تولت زمامها قرونًا ،إلى أمة أمية بعيدة العهد بالنبوة؟ ، والاجابة : لقد أوضح الله سبحانه وتعالى لنا : أن الأمة الجديدة خيرُ الأمم على وجه الأرض ، من حيث خصائصها الفكرية والمعنوية، وأنَّها تُبلِّغ الناس الرسالة الإلهية، وتُؤدِّي إليهم الأمانة السماوية، وتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وأما الأمة السابقة ( بنو اسرائيل ) فمعظم أفرادها كانوا فاسقين، وأما بعضهم فكانوا مؤمنين، والعبرة بالكثرة في مصير الأمم ، لا ببعض الأفراد. فقال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران/110].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية سنة الاستبدال : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد جاء ذكر نبي الله موسى (عليه السلام) في القرآن الكريم نحو مئة وعشرين مرة، وجاء ذكر بني إسرائيل فيه مالم يذكر أمة من الأمم، ليبين الله لنا ، أنه لما منَّ الله عز وجل على بني اسرائيل بهذه المنة العظيمة، والنعمة الكبرى، ممثلا في : القيادة الدينية للإنسانية، كان من المنتظر أن يشكروا الله عليها، ويقوموا بما حُمِّلُوا من المسؤولية خير قيام. غير أنهم سرعان ما تسربت إليهم جراثيم السطوة وداء الثروة، وبدَّلوا نعمة الله، فنحَّاهم الله عن منصب القيادة. ولم يتمَّ هذا التبديل في سرعة عاجلة، وإنما وقعت في مراحل حتى جرت فيهم سنَّة الله: سنة الاستبدال التي لا تُردُّ، ولا تتغيَّر.فقد قال الله تعالى لهم عندما وُلُّوا القيادة والاستخلاف في الأرض: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف/129]. فلما نقل الله تعالى القيادة إلى الأمة الإسلامية قال لهم نفس القول الذي قاله لبني إسرائيل : ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس:13-14]
أيها المسلمون
وتبقى الحقيقة واضحة من وراء هذا الاستبدال ، وهي أن هذا الدين ماضٍ في طريقه ، ليحدث في الأرض ما شاء الله تعالى من أقدار، وأنه غالب ولا بد، يتشرف به وبنصره من شاء الله له الرفعة، ويخذل عنه وعن نصره من سقط من عين الله تعالى.. فعندما يسقط من يسقط ، ويتراجع من يتراجع ، يتولى الله تعالى الدفع بنبت آخر، ليبقى للحق مدافعوه، ويبقى الباطل في حال انزعاج دائم من كرّ الحق عليه.. هذه هي حقيقة الأمور حتى لو بدا لوهلة أن الباطل مطمئن ، قال الله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء من الآية:18]. وبالتالي فالأمان هو أن تقف في جانب الحق ،حتى لو بدا مهيضًا أو منكسرًا إلى حين، فكل هذه الموازين والتقلبات مؤقتة، والأمور تتغير، وما زالت أنهار الحياة جارية ، تتقلب أمواجها، والباطل خفيف وبيء، ومليء بالثقوب! ، فلا يخدعنك أحد أن الباطل مستقر، بل ابق مع الحقيقة التي أخبرك الله تعالى بها. واعلم يقينا أن التولي والإعراض، والفسق والعصيان، والاستكبار والطغيان يستدعي جريان سنَّة الله ونفوذها. فإن كانت أمة تتقي الله وتخشاه، وتمتثل أوامره ونواهيه، وتتحرَّى العدل، وتتجنَّب الظلم، فلا يسلُبها نعمه، ولا يُنحِّيه من المنصب الذي خوَّله إياها. فإذا فقدت أمة صلاحها وأهليتها للمسؤولية التي أسندت إليها، أو قارفت الذنوب والمعاصي، واستشرى فيها الفساد، وأصبحت خطرًا على المجتمع الإنساني نحَّاها من المنصب وأبعدها من المجال، وأعطى أمة أخرى مقاليد الحكم وأزمة القيادة.
إنها همسة تحذير لي ولكم : الزم باب العمل لله ، وابذل جهدك ومالك ووقتك في سبيل الله ، حتى لا تكون ممن عناهم الله بقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (38) محمد
الدعاء