خطبة عن (من مظاهر قدرة الله: خلق السماء)
أغسطس 29, 2022خطبة عن ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )
أغسطس 31, 2022الخطبة الأولى ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (2)، (3) الانسان
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع آية كريمة من كتاب الله العزيز ،نتلوها ،ونتدبرها ، ونرتشف من رحيقها المختوم، مع قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (3) الانسان، يقول السعدي في تفسيره: أرسل الله تعالى إلى الانسان الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه الطريق الموصلة إلى الله، ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله. ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه منها، وأخبره بما له إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية، فردها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك. وجاء في تفسير الوسيط لطنطاوي: والمقصود من الآية الكريمة: قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم ،ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات، ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره، ويقولون – كما حكى القرآن عن المشركين: (لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ) الانعام (148).
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الفريقين من البشر، بعد أن أقام الله عليه الحجة والبرهان، وهداهم السبيل، وبصرهم الطريق، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « .. وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا». وفي مسند أحمد بسند ضعيف: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»، وفيه بسند حسن: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ – يَعْنِي – مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ بِيَدِهِ رَايَتَانِ رَايَةٌ بَيْدِ مَلَكٍ وَرَايَةٌ بَيْدِ شَيْطَانٍ فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اتَّبَعَهُ الْمَلَكُ بِرَايَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ»، وفيه أيضا بسند حسن: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ «أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ». قَالَ َمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ قَالَ « أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِى لاَ يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلاَ يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَالصَّلاَةُ قُرْبَانٌ – أَوْ قَالَ بُرْهَانٌ – يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا»
أيها المسلمون
فالله تعالى بين للإنسان سبيل الحق والباطل ،والهدى والضلالة، وعرَّفه طريقَ الخير والشر؛ إما مؤمنًا سعيدًا، وإما كافرًا شقيًّا، والله تعالى من شأنه كرمًا أن عرَّف الإنسان سبيل هدايته ولم يتركه هملًا، يتكفف طريقًا هنا أو هناك، فربما ضلَّ به الطريق، ولا يصل إلى هدى، وكان من واجب ذلكم بداية تقديم شكر لله تعالى على أن هداه السبيل، وكفَى الإنسان عناءَ البحثٍ عن السبيل الهداية. وذلكم نابعٌ من كونه سبحانه خالقه ،وهو وحده الذي يعلم ما يصلحه، فدلَّه عليه ،وأمره به رحمةً به، وهذه منة لو يحسب العاقل حسابها لخرَّ ساجدًا شكرًا لمولاه أبدًا، فالله تعالى يعلم ما بداخل الإنسان من ميل إلى الشرود، ومن هوى إلى المخالفة، فجميل أيما جمال أن يهدي الله تعالى عبدًا من عبيده؛ وذلك لأن من آثار الهدى صلاح البال، وأمن القلوب؛ كما قال سبحانه: ﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ [محمد: 5]، والْهِدَايَةُ دَلَالَةٌ بِلُطْفٍ، وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، والسبيل هو الصراط المستقيم بلا عوج؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]. ومن عجيب قوم أن يهديهم ربهم فيعرضوا، وليتهم يعرضون وحسب، ولكنهم آثروا الغواية على الرشاد؛ كما في: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [فصلت: 17]، وذلكم منبئ عما تكنه دواخل بعض النفوس البشرية من شر، وكاشف عما يكتنفها من نكد هو ثمرة غيها ونتاج ضلالها. أما النفوس الطيبة، فإنها راضية مسرورة مزكاة، تريد الخير، فتنشره ليفوح منها طيب زكي ،وعطر شجي ،ليبلغ شذاه الآفاق، لتتنسم رحيقه الأجيال جيلًا من بعد جيل؛ كما قال سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9، 10].
أيها المسلمون
والإنسان أمام نِعم الله تعالى يقف موقفين لا ثالث لهما؛ إمَّا الشكر وإمَّا الكفر والجحود، وقد قال الله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (7) إبراهيم؛ والقرآن العظيم قصَّ علينا قصص الشكر لله على نعمه والكفر بها؛ سواء على مستوى الأمم أو الأفراد، وبيَّن ذلك قوله سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 15، 16]. فانظروا إلى هذه النعم التي أنعم الله بها على سبأ وأهلها، نِعم عظيمة، يعيشون في جنة على الأرض، ولم يطلب الله عز وجل منهم سوى شكره؛ وذلك بتوحيده وعبادته وطاعته. ولكنهم؛ أعرضوا عن منهج الله تعالى، فماذا فعل الله بهم؟ بدَّلهم بجنَّتيهم جنَّتين ذواتي أُكل خمط، أي: طعم مر، وهُدِّم السَّدُّ وتفرَّق أهلها، وأصبحوا يُضرب بهم المثل، فيقال: “تفرقوا أيدي سبأ” ،فبالشكر تدوم النعم، وبالكفر والجحود تزول النعم، وتتبدَّل الأحوال، وهذه سنة الله الجارية على خلقه في الأمم والجماعات، أنَّ الأمة الصالحة المُطبِّقة لشرع الله، والمداومة على طاعة الله ،يستقر بها الحال، وتعيش في سعة من الرزق، ورغد من العيش، ووفرة من الأمن، فإذا ما فرَّطت في عقيدتها وحاربت ربَّها بالمعاصي ، وجاهرت بها، فالخوف عليهم من أنْ يُبدل حالهم، ويتغيَّر وضعهم، ويُعاقبهم الله سبحانه بزوال نعمته عنهم. ويضرب الله لنا مثلاً آخَرَ في القرآن، قائلاً سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونعم اللهِ تعالى إنْ لمْ تُشكر كانت بين أمرين لا ثالثَ لهما: فإمّا أنْ تُسلبَ في الحال، وإمّا أن تبقى للاستدراج، ليغترَّ الظالمون بها، ويزدادوا ظلماً وجوراً؛ وكِلا الأمرين نتيجتَهُ واحدة في المآل، ليصدقُ قوله تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} المؤمنون (55) ،(56). قال ابن كثير رحمه الله: “أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا! ،لقد أخطئوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاءً”.
وتقلبَ النعمِ بين يَديّ المجتمعاتِ المترفة: كتقلبِ كرةٍ جليديةٍ من شاهقٍ، بَدأت صغيرةً وما زالت تَكبُرُ حتى يكون الاصطدامُ ثم الزوالُ والاضمحلال! ، فالذي يتبخترُ بنعمةِ قد وُضِعَتْ بين يديه لينسِبَها إلى نفسهِ بطريقةٍ ضمنيةٍ، وإنْ لم يقل ذلك بلسانه: فليَنْتَظِرْ تحولُ تلك النعمة من يدهِ إلى يد غيره. فاستبدال الشكر بالكفر نذيرُ خطرِ لاستدراجْ قومٍ من حالٍ إلى حال، ومن شأنٍ إلى شأن، والتاريخُ شاهدُ عيانٍ لأممٍ كانت يوماً تَنظرُ لغيرها بنظرةِ العطفِ والرحمة، لتنقلبَ تلكَ النظراتِ من الرآئي إلى المرئي {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فصلت (46) .
الدعاء