خطبة حول قوله تعالى ( نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ )
أبريل 27, 2024خطبة عن (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
أبريل 28, 2024الخطبة الأولى (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه: (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا).
إخوة الإسلام
إن محاسبة النفس طريق المؤمنين، وسمة الموحدين، وعنوان الخاشعين، فالمؤمن متق لربه، ومحاسب لنفسه، ومستغفر من ذنبه، المؤمن يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير، وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء، ميالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، تواقة إلى اللهو، إلا من رحم ربي، فلا تترك النفس لهواها، لأنها داعية إلى الطغيان ،ومن أطاعها قادته إلى القبائح، ودعته إلى الرذائل، وخاضت به في المكارة.
وطول الأمل علاجه بأمرين: الأول: دوام محاسبة النفس. والثاني: لزوم ذكر الموت. فأما دوام محاسبة النفس فمعناه: أن يتصفح الإنسان عمله، وأن ينظر في أقواله وأفعاله، وجميع ما يصدر منه أولا بأول.. فإن وجد خيرا محمودا أمضاه، وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن وجده شرا مذموما استدركه، وتاب منه واستغفر، وانتهى عن مثله في المستقبل.
والأصل في هذه المحاسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: (هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى ذنبا تركه بالإقلاع، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر الله بذل جهده، واستعان بربه في تتميمه وتكميله، وإتقانه.. والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله، وغفلوا عن ذكره، والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون)
فأرباب البصائر علموا أن الله تعالى لعملهم بالمرصاد، وقد أحصاه عليهم كله، وعده عليهم عدا، وأنهم موقوفون بين يديه، يناقشون الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات واللفظات، فتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومؤاخذة النفس في أنفاسها وحركاتها، ومحاسبتها على خطراتها ولحظاتها ، وخطواتها ولفظاتها، وكل أعمالها، وهذا فعل الأكياس من الناس، أهل الفطنة، وأصحاب العقول، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» (رواه الترمذي وحسنه). كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أننا محاسبون على كل شيء فقال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ» (رواه الترمذي وصححه). وقد أقسم الله بالنفس اللوامة، أي التي تكثر لوم صاحبها على التفريط في فعل الخير، وتعاتبه على الوقوع في الشر. فقال تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة (2).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] ،وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا”. وقال رضي الله عنه: “حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن شغلته حياته، وألهته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة”. وقال الفضيل بن عياض لرجل: “كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفتَ معناها، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، مَن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومَن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومَن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا” (حلية الأولياء). ولا يمكن أن يكون هذا إلا بالمحاسبة،
أيها المسلمون
وقد ذكر الإمام ابن القيم (رحمه الله): (أن محاسبة النفس تكون كالتالي: أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه. ثانياً : ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه، بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية. ثالثاً : محاسبة النفس على الغفلة، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله. رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح، ككلام اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟، ولمن فعلته؟، وعلى أي وجه فعلته). وذكر آخرون أن محاسبة النفس نوعان: قبل العمل بعده. أما محاسبة النفس قبل العمل: فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن رحمه الله: (رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر). أما محاسبة النفس بعد العمل: فمحاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى، وأن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله، وأن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
ومن الملاحظ أن هناك أسبابا تعين الإنسان على محاسبة نفسه، ومنها: معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً. ومنها: معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل. ومنها: النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث. ومنها: صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم. ومنها: النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح. ومنها: زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم. ومنها: حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس. ومنها: قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات. ومنها: البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه. ومنها: ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير. ومنها: سوء الظن بالنفس، فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً.
أيها المسلمون
وللمحاسبة ثمرات كثيرة، وفوائد متعددة، ومنها: الوقوف على نعم الله، ومعرفة حق الله على عباده، والانتباه إلى تقصير النفس في أداء شكر الله على نعمه، ومعرفة علل النفس وعيوبها ،والسعي في معالجتها، وقطع طريق الغفلة الناتجة عن طول الأمل، وصيانة النفس عن الوقوع في الزلل، وسرعة التوبة عند الخطأ، ودوام الاستعداد للقاء الله تعالى، فيترتب على ذلك تيسير الحساب يوم المعاد، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن ترك لنفسه هواها، وسعى لها في تحقيق مناها، وتركها من غير مؤاخذة ولا محاسبة، دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته،
ومن فوائد محاسبة النفس: معرفة كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته بعباده في أنه لم يعجل عقوبتهم مع ما هم عليه من المعاصي والمخالفات. ومقت النفس والإزراء عليها، والتخلص من العجب ورؤية العمل. والاجتهاد في الطاعة وترك العصيان لتسهل عليه المحاسبة فيما بعد. ورد الحقوق إلى أهلها، وسل السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم ثمرات محاسبة النفس.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فهيا إخوتي حاسبوا أنفسكم قبل فوات الأوان، فعليكم بالطاعة والعودة إلى الله، قال الله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (99)، (100) المؤمنون، فعش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به؛ فاليوم عمل ولا حساب ،وغداً حساب ولا عمل، فمن زرع في هذه الدنيا واستعد، وأقبل إلى الله جل وعلا، وأفاق وانتبه، وعلم أن العمر قصير، وأن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، أقبل على الله، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (53): (61) الزمر. فالدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن تزود منها، فوهي سوق انتصب ثم انقض ربح فيه الرابحون وخسر فيه الخاسرون فاحذروا الدنيا، ولا تغرنكم كما غرت غيركم.
الدعاء