خطبة عن (الصحابي: حذيفة بن اليمان)
يوليو 20, 2016خطبة عن (الصحابي : زيد بن حارثة)
يوليو 20, 2016الخطبة الأولى (الصحابي: خالد بن الوليد)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، وروى مسلم في صحيحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِى مَا يُوعَدُونَ ».
إخوة الاسلام
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هم – أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً ،وأحسنهم خلقاً، واليوم إن شاء الله نريد أن نقترب من أولئك الرجال الأبرار ،لنستقبل فيهم أروع نماذج البشرية ، ولنرى في سيرتهم اسمى ما عرفت البشرية من عظمة ونبل ورشاد ،نقترب منهم لنرى إيمانهم ، وثباتهم ، وبطولاتهم ، وولاءهم لله ورسوله لنرى البذل الذي بذلوا ، والهول الذي احتملوا ، والفوز الذي أحرزوا ، نرى الدور الجليل الذي نهضوا به لتحرير البشرية كلها من وثنية الضمير ،وضياع المصير ،حقا ، إنهم فتية آمنوا بربهم ، فزادهم الله هدى ، واليوم إن شاء الله موعدنا مع صحابي جليل إنه الصحابي : ( خالد بن الوليد ) ( سيف الله المسلول) ،أما عن نسبه وكنيته ومولده : فهو أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة، ينتهي نسبه إلى مرة بن كعب بن لؤي الجد السابع للنبي وأبي بكر الصديق . وأمه هي لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، كان مظفرًا خطيبًا فصيحًا، يشبه عمر بن الخطاب. أما أبوه فهو عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في قريش، وكان معروفًا بالحكمة والعقل. وكان “الوليد” خصمًا عنيدًا للإسلام والمسلمين، وكان شديد النكاية بالرسول، حتى إذا مضى عن الدنيا خلف وراءه الحقد في نفوس أبنائه. وفي هذا الجو المترف المحفوف بالنعيم نشأ خالد بن الوليد، وتعلم الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، ولكنه أبدى نبوغًا ومهارة في الفروسية منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه. كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ. وكان خالد بن الوليد كغيره من أبناء قريش معاديًا للإسلام، ناقمًا على النبي العدنان والمسلمين الذين آمنوا به وناصروه، بل كان شديد العداوة لهم، شديد التحامل عليهم، ومن ثَمَّ فقد كان حريصًا على محاربة الإسلام والمسلمين، وكان في طليعة المحاربين لهم في كل المعارك التي خاضها الكفار والمشركون ضد المسلمين، وكان له دور بارز في إحراز النصر للمشركين على المسلمين في غزوة أُحد.
أيها المسلمون
أما عن قصة إسلام الصحابي الجليل ، والفارس المقدام خالد بن الوليد رضي الله عنه ،ففي عمرة القضاء قال النبي صلى الله عليه وسلم للوليد بن الوليد أخيه: “لو جاء خالد بن الوليد لقدّمناه”. فكتب “الوليد” إلى “خالد” يرغِّبه في الإسلام، ويخبره بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فكان ذلك سبب إسلامه وهجرته. وقد سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام خالد بن الوليد، وقال له حينما أقبل عليه: “الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألاَّ يسلمك إلا إلى خير”. وقد أسلم خالد بن الوليد في (صفر 8هـ/ يونيو 629م)، أي قبل فتح مكة بستة أشهر فقط، وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين. وكان يلقب بسيف الله المسلول ، قال له رجل من أعدائه : فبم سميّت بسيف الله”؟ فقال خالد: إن الله بعث فينا نبيه, فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا إلى الإسلام, وهدانا برسوله فبايعناه..فدعا لي الرسول, وقال لي: أنت سيف من سيوف الله, فهكذا سميّت.. سيف الله”. ولنصغ إليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وعن رحلته من مكة إلى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين: “.. وددت لو أجد من أصاحب, فلقيت عثمان بن طلحة, فذكرت له الذي أريد فأسرع الإجابة, وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل إذا عمرو بن العاص, فقال مرحبا يا قوم, قلنا: وبك.. قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه, وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم. فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان.. فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق, فأسلمت وشهدت شهادة الحق.. فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير.. وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله.. فقال: إن الإسلام يجبّ ما كان قبله.. قلت: يا رسول الله على ذلك.. فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك.. وتقدّم عمرو بن العاص, وعثمان بن طلحة, فأسلما وبايعا رسول الله”… أرأيتم قوله للرسول:” استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله”.. إن الذي يضع هذه العبارة بصره, وبصيرته, سيهتدي إلى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الإسلام.. وكانت أولى حلقات الصراع بين خالد والمشركين -بعد التحول العظيم الذي طرأ على حياة خالد بن الوليد وفكره وعقيدته- في (جمادى الأولى 8هـ/ سبتمبر 629م) حينما أرسل النبي سرية الأمراء إلى “مؤتة” للقصاص من قتلة “الحارث بن عمير رسولِهِ إلى صاحب بُصْرَى. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الجيش زيد بن حارثة، ومن بعده جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جميعًا ، فلما التقى المسلمون بجموع الروم، استشهد القادة الثلاثة الذين عيَّنهم النبي ، وأصبح المسلمون بلا قائد، وكاد عقدهم ينفرط وهم في أوج المعركة، وأصبح موقفهم حرجًا، فاختاروا خالد بن الوليد قائدًا عليهم. واستطاع خالد بن الوليد بحنكته ومهارته أن يعيد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن أعاد تنظيم صفوفهم، وقد أبلى خالد بن الوليد في تلك المعركة بلاءً حسنًا؛ فقد اندفع إلى صفوف العدو يُعمِل فيهم سيفه قتلاً وجرحًا حتى تكسرت في يده تسعة أسياف، حتى إذا ما أظلم الليل غيَّر خالد بن الوليد نظام جيشه، فجعل مقدمته مؤخرته، ووضع من بالمؤخرة في المقدمة، وكذلك فعل بالميمنة والميسرة، وأمرهم أن يحدثوا جلبةً وضجيجًا، ويثيروا الغبار حتى يتوهم جيش الروم أن المدد قد جاءهم بليلٍ، ولهذا لما طلع النهار لم يجرؤ الروم على مطاردة المسلمين؛ مما سهّل على خالد بن الوليد مهمة الانسحاب بأمان، وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فتحًا من الله على يد خالد بن الوليد. فقد أخبر النبي أصحابه باستشهاد الأمراء الثلاثة، وأخبرهم أن خالد بن الوليد أخذ اللواء من بعدهم، وقال عنه: “اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره”. فسمِّي خالد بن الوليد “سيف الله” منذ ذلك اليوم. وحينما خرج النبي في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار لفتح مكة في 10 رمضان 8هـ الموافق 3 يناير 630م، جعل النبي خالد بن الوليد على أحد جيوش المسلمين الأربعة، وأمره بالدخول من “اللِّيط” في أسفل مكة، فكان خالد بن الوليد هو أول من دخل من أمراء النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن اشتبك مع المشركين الذين تصدوا له ، وحاولوا منعه من دخول البيت الحرام، فقتل منهم ثلاثة عشر مشركًا، واستشهد ثلاثة من المسلمين، ودخل المسلمون مكة -بعد ذلك- دون قتال. وبعد فتح مكة أرسل النبي خالد بن الوليد في ثلاثين فارسًا من المسلمين إلى “بطن نخلة” لهدم “العزى” أكبر أصنام قريش وأعظمها لديها. ثم أرسله -بعد ذلك- في نحو ثلاثمائة وخمسين رجلاً إلى “بني جذيمة” يدعوهم إلى الإسلام، ولكن خالد بن الوليد -بما عُرف عنه من البأس والحماس- قتل منهم عددًا كبيرًا، برغم إعلانهم الدخول في الإسلام؛ ظنًّا منه أنهم إنما أعلنوا إسلامهم لدرء القتل عن أنفسهم، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما فعله خالد بن الوليد وقال: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”، وأرسل عليَّ بن أبي طالب لدفع دية قتلى بني جذيمة. ولقد أخطأ خالد بن الوليد في ذلك متأوِّلاً، وليس عن قصد أو تعمد. وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه سيفا على أعداء الله ، فقد ظل خالد بن الوليد يحظى بثقة النبي؛ لذا فقد ولاه إمارة عدد كبير من السرايا، وجعله على مقدمة جيش المسلمين في العديد من جولاتهم ضد الكفار والمشركين؛ ففي “غزوة حنين” كان خالد بن الوليد على مقدمة خيل “بني سليم” في نحو مائة فارس، خرجوا لقتال قبيلة “هوازن” في شوال 8هـ/ فبراير630م، وقد أبلى فيها خالد بن الوليد بلاءً حسنًا، وقاتل بشجاعة، وثبت في المعركة بعد أن فرَّ من كان معه من بني سليم، وظل يقاتل ببسالة وبطولة حتى أثخنته الجراح البليغة، فلما علم النبي بما أصابه، سأل عن رَحْلِه ليعوده. ولكن هذه الجراح البليغة لم تمنع خالدًا أن يكون على رأس جيش المسلمين حينما خرج إلى الطائف لحرب “ثقيف” و”هوازن”. ثم بعثه النبي -بعد ذلك- إلى “بني المصطلق” سنة 9هـ/ 630م؛ ليقف على حقيقة أمرهم، بعدما بلغه أنهم ارتدوا عن الإسلام، فأتاهم خالد بن الوليد ليلاً، وبعث عيونه إليهم، فعلم أنهم على إسلامهم، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بخبرهم. وفي (رجب 9هـ/ أكتوبر 630م) أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا في أربعمائة وعشرين فارسًا إلى “أكيدر بن عبد الملك” صاحب “دومة الجندل”، فاستطاع خالد بن الوليد أسر “أكيدر”، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فصالحه على فتح “دومة الجندل”، وأن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا بذلك. وفي (جمادى الأولى 1هـ/ أغسطس 631م) بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران في نحو أربعمائة من المسلمين، ليخيِّرهم بين الإسلام أو القتال، فأسلم كثير منهم، وأقام خالد فيهم ستة أشهر يعلِّمهم الإسلام وكتاب الله وسُنَّة نبيه، ثم أرسل إلى النبي يخبره بإسلامهم، فكتب إليه النبي r يستقدمه مع وفد منهم.
أيها المسلمون
وظل خالد بن الوليد على عهده ، فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم شارك خالد بن الوليد في قتال المرتدين في عهد أبي بكر الصديق ، فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم -بعد وفاة النبي- للانقضاض على هذا الدين؛ فمنهم من ادَّعى النبوة، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة، ومنهم من ارتدَّ عن الإسلام، وقد وقع اضطراب كبير، واشتعلت الفتنة التي أحمى أوارها وزكّى نيرانها كثير من أعداء الإسلام. وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها، فحينما وجّهه أبو بكر لقتال طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد تنبَّأ في حياة النبي حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي والتفاف كثير من القبائل حوله، واستطاع خالد أن يُلحِق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة، فرَّ “طليحة” على إثرها إلى الشام، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. وبعد فرار طليحة راح خالد يتتبع فلول المرتدين، فأعمل فيهم سيفه حتى عاد كثير منهم إلى الإسلام. وكان خالد بن الوليد هو من قضى على فتنة وجيش مسيلمة الكذاب ، فكان أبو بكر قد أرسل عكرمة بن أبي جهل لقتال مسيلمة، ولكنه هزم، فأرسل له أبو بكر شرحبيل بن حسنة ، وزادت المصيبة ثقلاً على المسلمين عندما هزموا مرةً ثانية؛ مما رفع من الروح المعنوية لأتباع “مُسَيْلمة الكذَّاب”، وتعاظمت ثقتهم بالنصر، فلم يَرَ أبو بكرٍ بُدًّا من إرسال سيف الله المسلول خالد بن الوليد إليهم. ومن البطاح إلى “اليمامة” خرج خالد بن الوليد لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبِّئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا. والتقى الجمعان بـ”عقرباء”، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، قاد مسيلمة قواته التي تزيد على الأربعين ألف مقاتل لمجابهة خالد الذي لم تكن قواته تزيد على ثلاثة عشر ألف مجاهد في سبيل الله، ودارت رحى معركة عنيفة، وازدادت أعداد القتلى، وثبت “مسيلمة” رغم كثرة أعداد القتلى من جيشه، وأدرك خالد بن الوليد أنها لا تركد إلا بقتله، فبرز خالد حتى إذا كان أمام الصفوف دعا إلى المبارزة، فجعل لا يبارز أحدًا إلا أرداه قتيلاً، حتى دنا من “مسيلمة” فأرهقه وأدبر، ونادى مسيلمة في قومه: الحديقةَ الحديقةَ؛ فدخلوا (حديقة الموت) وأغلقوها عليهم، وأحاط المسلمون بهم، فصرخ البراء بن مالك قائلاً: يا معشر المسلمين، احملوني على الجدار اقتحم عليهم. فحملوه، وقاتلهم على الباب حتى تمكن من فتحه للمسلمين، فدخلوا، واقتتلوا قتالاً شديدًا، وأتى وحشيّ بن حرب فهجم على مسيلمة بحربته، وضربه رجل من الأنصار بسيفه، فقُتل. وهكذا انتهت المعركة بهزيمة “بني حنيفة” ومقتل “مسيلمة”، وقد استشهد في تلك الحرب عدد كبير من المسلمين بلغ أكثر من ثلاثمائة وستين من المهاجرين والأنصار، وبثَّ خالد بعد المعركة مباشرةً خيوله تطارد فلول المشركين، وتلتقط من ليس في الحصون.
أيها المسلمون
أما عن فتوحات خالد بن الوليد في العراق : فمع بدايات عام (12هـ/ 633م) بعد أن قضى أبو بكر الصديق على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام، توجه الصّدّيق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام. كان المثنى بن حارثة يقاتل في العراق عندما كانت جيوش المسلمين تحارب المرتدين، وما إن انتهت حروب المرتدين بقيادة خالد بن الوليد ، حتى أصدر الصديق أوامره لخالد بن الوليد وعياض بن غنم -رضي الله عنهما- بالتوجه إلى العراق، فتوجه خالد إلى العراق، واستطاع أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس في “الأُبُلَّة” و”المذار” و”الولجة” و”أُلَّيْس”، وواصل خالد تقدمه نحو “الحيرة” ففتحها بعد أن صالحه أهلها على الجزية، واستمر خالد بن الوليد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى “الأنبار” ليفتحها، ولكن أهلها تحصنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم، ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة. فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد بن الوليد وجنوده، طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين. في الوقت نفسه كانت الأمور على مسرح عمليات الشام تتطور بصورة خطيرة، فقد جمع الروم قوات ضخمة لمحاربة الفاتحين المسلمين، ولم يكن من بدٍّ من إرسال سيف الله المسلول إلى هناك. وأما عن فتوحاته والطريق إلى الشام فقد رأى أبو بكر الصديق أن يتجه بفتوحاته إلى الشام، إذ كان خالد بن الوليد قائده الذي يرمي به الأعداء في أي موضع، حتى قال عنه: “والله لأنسيَنَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد”. ولم يخيِّب خالد بن الوليد ظن أبي بكر الصديق فيه، فقد استطاع أن يصل إلى الشام بسرعة بعد أن سلك طريقًا مختصرًا، مجتازًا المفاوز المهلكة غير المطروقة، متخذًا “رافع بن عمير الطائي” دليلاً له؛ ليكون في نجدة أمراء أبي بكر في الشام، فيفاجئ الروم قبل أن يستعدوا له. وما إن وصل خالد بن الوليد إلى الشام حتى عمد إلى تجميع جيوش المسلمين تحت راية واحدة؛ ليتمكنوا من مواجهة عدوهم والتصدي له، وكانت أول مهمة تتطلب الحل هي “تقسيم القوات”، فقد كان خالد بن الوليد يؤمن بنوعية المقاتل، وقدرة هذه النوعية على تحقيق التعادل ضد التفوق الكمي الذي ينفرد به أعداء المسلمين، وكان خالد بن الوليد يعرف أيضًا أن أمامه في الشام معارك حاسمة، فسار إليهم حتى وصل إلى قوات أبي عبيدة بن الجراح في (بُصرى)، وبدأ بخطبة جيش المسلمين قائلاً: “إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم؛ فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبية على تساند وانتشار؛ فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته”. وقد تمكَّن خالد بن الوليد أن يلحق بالروم هزائم عديدة، حتى استطاع أن يقضي على شوكتهم تمامًا، وصارت بلاد الشام بلدًا إسلاميًّا. ومن فضائله ومواقفه التي لا تنسى ، مواقف خالد بن الوليد بين القيادة والجندية ، فليس المهم من يرفع الراية ، ولكن المهم أن ترفع الراية ، وليس من المهم أن يكون قائدا للجيوش الاسلامية ، ولكن المهم أن تنتصر الجيوش الاسلامية ، فلم ينتهِ دور خالد بن الوليد في الفتوحات الإسلامية بعزل عمر له وتولية أبي عبيدة بن الجراح أميرًا للجيش، وإنما ظل خالد بن الوليد يقاتل في صفوف المسلمين، فارسًا من فرسان الحرب، وبطلاً من أبطال المعارك الأفذاذ المعدودين. وكان لخالد بن الوليد دورًا بارزًا في فتح دمشق وحمص وقِنَّسْرِين، ولم يفتّ في عضده أن يكون واحدًا من جنود المسلمين، ولم يوهن في عزمه أن يصير جنديًّا بعد أن كان قائدًا وأميرًا؛ فقد كانت غايته الكبرى الجهاد في سبيل الله، ينشده من أي موقع وفي أي مكان. ولعل فن الحرب لم يعرف قائدًا تتمثل في أعماله كل مواصفات القيادي الناجح مثل خالد بن الوليد، فقد برع في خوض المعارك، وتصميم الانتصارات، ووضع الاستراتيجيات العسكرية التي تجلب له النصر بأيسر الطرق، فمنذ جاهليته وفي عملياته الأولى، برز تفوقه في استراتيجية “الهجوم غير المباشر”، وذلك في موقعة أُحد، عندما هجم على مؤخرة جيش المسلمين، بعد أن استغل غياب الرماة. ويمكن بعد ذلك استعراض كل أعمال خالد بن الوليد ، حيث تظهر عمليات خالد على شكل مسيرات طويلة للوصول إلى مؤخرات قوات العدو أو مجنباته، وقد عبَّر خالد عن هذه الاستراتيجية عند حديثه مع دليله رافع بن عميرة، إذ قال له: “كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم، فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين؟” وقد اضطر خالد في موقعتين حاسمتين مجابهة أعدائه، كانت الأولى في حروب الردة في “موقعة اليمامة”، والأخرى في “موقعة اليرموك”، ولكن مع ذلك فقد بقي هدف خالد الدائم البحث عن وسيلة لضرب مؤخرة العدو. كما امتاز خالد بن الوليد بحرصه على الانطلاق من قاعدة قوية ومأمونة، كذلك حرص خالد بن الوليد على بناء المجتمع الجديد بارزًا في فتوحاته، فهو لا يتعامل من منطلق كونه قائدًا عسكريًّا فحسب، وإنما هو ينشر دعوة الله، ويبلغ رسالة الإسلام إلى شعوب الأرض التي يفتحها، فلما وقف في “الحيرة” في مجتمع النصارى العرب، كان حريصًا على اجتذابهم والإحسان إليهم وتأليف قلوبهم، وكان يقول لهم: “لكم ما لنا، وعليكم ما علينا”. وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة, يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره…من أجل هذا, كان صارما, تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا.. وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك, وبعد أن أخذ جيشه مواقعه, دعا نساء المسلمين, ولأول مرّة سلّمهن السيوف, وأمرهن, بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن: ” من يولّي هاربا فاقتلنه”.. وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه.. وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز إليه خالد ليقول له بضع كلمات ..وبرز إليه خالد, حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين.. وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا” ” قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجوع والجهد.. فان شئتم, أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير, وكسوة, وطعاما, وترجعون إلى بلادكم, وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها”. وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه, وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب.. وقرر أن يردّ عليه بجواب مناسب, فقال له: ” انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم, فجئنا لذلك”.. ولوى البطل زمام جواده عائدا إلى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..” الله أكبر” ” هبّي رياح الجنة”.. كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة. ودار قتال ليس لضراوته نظير.. وأقبل الروم في فيالق كالجبال..وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون.. ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم.. فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:” إني قد عزمت على الشهادة, فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه” فيجيب أبو عبيدة:” نعم قل له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا”. ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا إلى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه, ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا.. وهذا عكرمة بن أبي جهل..أجل ابن أبي جهل.. ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا: ” لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الإسلام, أفأفرّ من أعداء الله اليوم”؟؟ ثم يصيح:” من يبايع على الموت”.. فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين, ثم ينطلقون معا إلى قلب المعركة لا باحثين عن النصر, بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم, فيستشهدون.. وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة, وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم, فلما قدم الماء إلى أولهم, أشار إلى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر, وظمؤه أشد.. فلما قدّم إليه الماء , أشار بدوره لجاره. فلا انتقل إليه أشار بدوره لجاره.. وهكذا, حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وإيثارا.. أجل .. لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها. ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة, تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده, ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي, وخالد يصيح في المائة الذين معه: ” والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم. واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم”. مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!ولكن أي عجب، أليس ملأ قلوبهم إيمان بالله العلي الكبير..؟؟وإيمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟وإيمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا, وهدى ونبلا؟ وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه, هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا, بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد, يحلب بيده شياه الأيامى, ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟ وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر, والصلف, والبغي, والعدوان, وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟ أليس ذلك, كذلك..؟ إذن, هبي رياح النصر…هبّي قويّة عزيزة, ظافرة, قاهرة… لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم, مما حمل أحدهم, واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال. وحين يلتقيان, يوجه القائد الرومي حديثه إلى خالد قائلا: ” يا خالد, أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب.. هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك إيّاه, فلا تسلّه على أحد إلا هزمته”؟؟
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الصحابي: خالد بن الوليد)
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وكان خالد بن الوليد يغار على دين الله ، ففي الصحيحين : (بَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ – رضى الله عنه – إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِى أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا ، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ . قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « أَلاَ تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ ، يَأْتِينِى خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً » . قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اتَّقِ اللَّهَ . قَالَ « وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ » . قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ « لاَ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى » . فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِى قَلْبِهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ » قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ « إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ » . وَأَظُنُّهُ قَالَ « لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ » . وفي رواية ( قال: ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ فقال: “إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”.
أيها المسلمون
ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: “لقد طلبت القتل فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل أرجى من لا إله إلا الله وأنا متتَرِّس بها”. ثم قال: “إذا أنا مت فانظروا سلاحي وفرسي، فاجعلوه عُدَّة في سبيل الله”. وقد تُوفِّي خالد بحمص في (18 من رمضان 21هـ/ 20 من أغسطس 642م). إن روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وأبدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة.. وأنه ليقول:” ما ليلة يهدى إليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين, أصبح بهم المشركين ،من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده, وتحت بريق سيفه… هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم, وقهر أصحاب الردّة, وسوّى بالتراب عرش فارس والروم, وقطع الأرض وثبا, في العراق خطوة خطوة, حتى فتحها للإسلام, وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للإسلام…أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه.. هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:” لقد شهدت كذا, وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم..ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء”.. كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن, إلا مثل هذا الرجل, وحين كان يستقبل لحظات الرحيل, شرع يملي وصيّته.. أتدرون إلى من أوصى..؟ إلى عمر بن الخطاب ذاته.. أتدرون ما تركته..؟ فرسه وسلاحه.. ثم ماذا؟؟ لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون.. ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ, سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق. وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه.. شيء واحد كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته”.. سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:” إن فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتفاءل بها وأستنصر”. وأخيرا خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
أنت خير من ألف ألف من القو م إذا ما كبــت وجوه الرجال
أشجـــاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد..؟ فأنــــت أجود من سي ل غامر يسيــل بين الجبال
وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:” صدقت.. والله إن كان لكذلك”. وثوى البطل في مرقده .. ووقف أصحابه في خشوع, والدنيا من حولهم هاجعة, خاشعة, صامتة.. لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها, وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها, يقودها عبيره وأريجه .. وإذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية, وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها, يهدّ عروش فارس والروم, ويشفي وساوس الوثنية والبغي, ويزيح من طريق الإسلام كل قوى التقهقر والشرك… وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط, ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع.. ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار.. لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله.. ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد.. وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه.. إيه يا بطل كل نصر.. ويا فجر كل ليلة.. لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك: ” عند الصباح يحمد القوم السرى”.. حتى ذهبت عنك مثلا.. وهأنذا, قد أتممت مسراك..فلصباحك الحمد أبا سليمان.. ولذكراك المجد, والعطر, والخلد, يا خالد..ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك: ” رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير مما كان فيه ،ولقد عاش حميدا ،ومات سعيد .
الدعاء