خطبة عن (القصاص يوم القصاص)
مايو 4, 2023خطبة حول الشهادة وحديث (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ)
مايو 6, 2023الخطبة الأولى (نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (84): (86) يونس
إخوة الإسلام
قول نبي الله موسى وقومه في الآيات المباركات: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ): فهذه دعوة مباركة، وهي تعني: (خلصنا برحمة منك وإحسان من أعدائنا، ولا تسلطهم علينا فيفتنونا)، وتخصيص التوسل برحمته سبحانه وتعالى؛ لأنّ رحمته بها يحصل المطلوب، ويزول المكروه، وفي هذا دليل على اهتمامهم بأمر دينهم، فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من مصائب الدين؛ لأنها أشد المصائب والمهالك، ففي سنن الترمذي: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ لأَصْحَابِهِ « اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا».
وفي قوله تعالى: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ): ففي هذا الدعاء مقصد عظيم، وفيه شأنٍ مهمّ وخطيرٍ، في كيفية تعامل المؤمن مع الكافرين والظالمين، عند الفتن، والتسلّط عليهم ،وأن ملجأهم الأول هو اللَّه جلّ وعلا في التوكل والإنابة إليه، والالتجاء إليه بالدعاء، والتضرّع ،فاللَّه تعالى يكفي كل ما يهمّ العبد، ويخافه، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق (3)، أي: (كافيه)، وكثيراً ما يقرن اللَّه تعالى بين العبادة والتوكل لتلازمهما، وأنهما لا ينفكان، قال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) هود (123)، قال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه: (التوكل على اللَّه تعالى نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد، وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته، ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه، ويرضاه من الإيمان، واليقين، والجهاد، والدعوة إليه. وفي النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا اللَّه تبارك وتعالى، فمتى توكّل عليه العبد في النوع الثاني، حقّ توكله كفاه، والنوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه)،
وفي قوله تعالى: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ): فيه بيان: بأن النجاة من الظلم والظالمين فضل كبير، ومكرمة ومنة من الله تعالى على عباده، فينبغي على العبد أن يستشعر قيمة هذه النعمة، وأن يكون دائم اللجوء إلى الله تعالى، كثير الدعاء أن ينجيه الله تعالى من الظالمين، وألا يجعل للظالمين سلطانا عليه، وقد وردت آيات متعددة في كتاب الله تعالى فيها طلب النجاة من الظلم والظالمين، ومنها، قوله تعالى: {رَبِّ نجني مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} القصص (21) ،وقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) وقول الله تعالى: { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون : 93،94)، وقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون:28).
أيها المسلمون
وسؤال اللَّه تعالى النجاة كان أيضا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الَّلهُمّ أَصْلِحْ لِيْ سَمْعِي وَبَصَرِيْ، وَاجْعَلْهُمَا الوَارِثَيْنِ مِنّي، وَانصُرنِي عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَأَرِنِي مِنْهُ ثَأْرِي) (رواه البخاري في الأدب المفرد). وفي صحيح مسلم: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ». فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ). وفي مسند أحمد: (عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ قَالَ «نَعَمْ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا». قَالَ فَضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالرِّيحِ).
وسؤال اللَّه النجاة من الظالمين، كما هو دأب الأنبياء والمرسلين، كان له نصيب من أدعية المؤمنين، كما قصَّ اللَّه علينا خبر المؤمنة آسية زوج فرعون حين قالت: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم:11)، فسألت النجاة من فرعون الطاغية الظالم، الذي زعم أنه رب الناس، ثمّ عمّمت سؤال النجاة من كلّ من يتّصف بهذه الصفة الشنيعة التي حرّمها ذو الجلال والإكرام على نفسه، وعلى عباده.
أيها المسلمون
ودعاء المسلم ربه بالنجاة ليس مقصورا على نجاته من القوم الظالمين فحسب، بل إنه يدعو ربه أن ينجيه من عذاب القبر، وأن ينجيه من الفتن، ومن عذاب جهنم، والنجاة يوم القيامة، قال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر: 61). وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ». وفي صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ولما كانت النجاة مطلبا شرعيا، فقد بادر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن وسائل النجاة وسبلها، ففي سنن الترمذي: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ قَالَ «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ»، وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْجَالِسِ وَالْجَالِسُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ». قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ «مَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَعْمِدْ إِلَى سَيْفِهِ فَلْيَضْرِبْ بِحَدِّهِ صَخْرَةً ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ»، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ).
فالذِّكْر مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ مَخَاوِفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْمُنْجِيَاتِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَمَخَاوِفِهَا، وطوق النجاة في الدنيا والآخرة تقوى الله، قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق2-3)، وقال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) {4} الطلاق، وقال تعالى: (ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) {5} الطلاق، فتقوى الله هي طوق النجاة، والذي نجّى الله به الكثير والكثير من الناس، فمن ارتداه نجا، ومن تركه هلك، ومن اتكأ عليه سنده, ومن ابتعد عنه أوقعه، فليتذكر الناس هذا الطوق فيرتدونه ويحسنون استخدامه، ومن يعلم أولاده صناعة التقوى: يعلمهم المخارج من الضيق، ويعطيهم رزقاً لا ينفد، ويعلمهم رؤية الحق بصورته الناصعة، وصفحته البيضاء.
الدعاء