خطبة عن (إيمان سحرة فرعون)
مايو 16, 2023خطبة عن (جهاد النفس)
مايو 18, 2023الخطبة الأولى (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (5) يونس
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم – إن شاء الله تعالى – مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، نتدبرها، ونتفهم معانيها، ونرتشف من رحيقها المختوم، فالمعنى المقصود: (أن الله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء، وجعل القمر نورًا، وقدَّر القمر منازل، فبالشمس تعرف الأيام، وبالقمر تعرف الشهور والأعوام، فما خلق الله تعالى الشمس والقمر إلا لحكمة عظيمة، ودلالة على كمال قدرته وعلمه). ويقول (السعدي) في تفسيره: (إن خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة، دال على كمال قدرة الله تعالى، وعلمه، وحياته، وقيوميته، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن، دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه. وما فيها من أنواع المنافع والمصالح ـ كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل ـ يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة. وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها. وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار، فبذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة، وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة)
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا): يقول العلماء: تنقسم مصادر الضوء علمياً عادة إلى نوعين: مصادر مباشرة: كالشمس والنجوم والمصباح والشمعة وغيرها، ومصادر غير مباشرة: كالقمر والكواكب. والأخيرة هي الأجسام التي تستمد نورها من مصدر آخر مثل الشمس ثم تعكسه علينا. أما الشمس والمصباح فهما يشتركان في خاصية واحدة، وهي أنهما يعتبران مصدرا مباشرا للضوء، ولذلك شبه الخالق الشمس بالمصباح الوهاج، ولم يشبه القمر في أي من الآيات بمصباح. كذلك سمى ما تصدره الشمس من أشعة ضوءا، أما القمر فلا يشترك معها في هذه الصفة، فالقمر مصدر غير مباشر للضوء، فهو يعكس ضوء الشمس إلينا، فنراه ونرى أشعته التي سماها العليم الحكيم نورا. فسبحان الذي أنزل القرآن من لدن حكيم خبير.
ومن الفوائد العلمية واللطائف الجلية: في قَوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ): أن هذه الآية أصلٌ في علمِ المواقيتِ والحسابِ، ومنازلِ القمرِ والتاريخِ. وقد سَمَّى الله سُبحانه الشَّمسَ سِراجًا وضياءً؛ لأنَّ فيها مع الإنارةِ والإشراقِ تَسخينًا وإحراقًا، فهي بالنَّارِ أشبَهُ، بخلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه ليس فيه مع الإنارةِ تَسخينٌ، فلِهذا قال: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا. وفي قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ): فقد خَصَّ القَمَرَ بذِكرِ تَقديرِ المَنازِلِ دونَ الشَّمسِ، وإن كانَت مُقَدَّرةَ المَنازِلِ؛ لظُهورِ ذلك للحِسِّ في القَمرِ، وظهورِ تَفاوُتِ نُورِه بالزِّيادةِ والنُّقصانِ في كلِّ مَنزِلٍ؛ ولذلك كان الحِسابُ القَمَريُّ أشهَرَ وأعرَفَ عند الأُمَمِ، وأبعَدَ مِن الغَلَطِ، وأصَحَّ للضَّبطِ مِن الحِسابِ الشَّمسيِّ، ويَشتَرِك فيه النَّاسُ دون الحِسابِ الشَّمسيِّ؛ ولهذا قال تعالى في القَمَرِ: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) ولم يقُل ذلك في الشَّمسِ؛ ولهذا كانت أشهُرُ الحَجِّ والصَّومِ، والأعيادُ ومواسِمُ الإسلامِ، إنَّما هي على حِسابِ القَمَرِ وسَيرِه ونُزولِه في مَنازِلِه، لا على حسابِ الشَّمسِ وسَيرِها؛ حِكمةً مِن اللهِ ورَحمةً وحِفظًا لدِينِه، لاشتراكِ النَّاسِ في هذا الحِسابِ، وتعَذُّرِ الغلَطِ والخطأِ فيه، فلا يدخُلُ في الدِّينِ مِن الاختلافِ والتَّخليطِ ما دخلَ في دينِ أهلِ الكتابِ. وفي الآية إشارةٌ إلى أنَّ مَعرفةَ ضَبطِ التَّاريخِ نِعمةٌ أنعَمَ الله بها على البَشَرِ. وفيها: الحَثُّ والتَّرغيبُ على التفَكُّرِ في مخلوقاتِ الله، والنَّظرِ فيها بعَينِ الاعتبارِ؛ فإنَّ بذلك تنفتِحُ البَصيرةُ، ويزدادُ الإيمانُ والعَقلُ، وتَقوَى القريحةُ، وفي إهمالِ ذلك تهاونٌ بما أمَرَ اللهُ به، وإغلاقٌ لزيادةِ الإيمانِ، وجمودٌ للذِّهنِ والقريحةِ. وفيها: تنويهٌ بفَضلِ العِلمِ، وكونِ الإسلامِ دِينًا عِلميًّا لا تقليديًّا؛
أيها المسلمون
إن حاجة الناس إلى معرفة السنين وحساب الزمن كثيرة، فبها: يعرفون أعمارهم، ويؤرخون لأحوالهم، ويؤقِّتون لمصالحهم، ويعرفون تاريخ من قبلهم، إلى غير ذلك، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) (12) الاسراء، والبشرية بفطرتها عرفت التاريخ واحتاجت إليه، منذ بدء الخليقة، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ»،
والسؤال: كيف عرف آدم كم من السنين يعيش؟، وكم يعيش داوود؟ إلا من عدد السنين، وكيف رجع عن وعده إلا بمعرفة الحساب، وجاء القرآن الكريم فأشاد بالتاريخ، وجعل لهذه الأمة تاريخا مستقلا تتميز به عن الأمم، وهو تاريخ ظهور الإسلام وانتشاره بين الأنام، وذلك بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} التوبة (108)، وهو ما فهمه عمر بن الخطاب والصحابة معه رضي الله عنهم، فجعل بدء الهجرة تاريخا للمسلمين، وربط هذا التاريخ بمنازل القمر، فيبدأ الشهر ببزوغ الهلال، وينتهي بالمحاق، ورتبت عليه مواسم العبادة: من حج وصيام. ولم ينكر القرآن منازل الشمس؛ لأنها وثيقة الصلة بأمور المعاش كالزراعة ومواسمها، وأحوال الطقس لارتباطها بالفصول الأربعة، التي تأتي في مواعيد ثابتة سنوياً، فجعلت هذه الفصول تقويما يسمى التقويم الشمسي، كما أن الصلوات مرتبطة بحركة الشمس آناء الليل وأطراف النهار.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إن اللهَ سبحانه وتعالى خلقَ الشمسَ والقمرَ، وجعل الليلَ والنهارَ، لحكمٍ عديدةٍ، ومنها: أن يعلمَ الناسُ من اختلافِهما وتعاقُبِهما وسيرِهما في منازلهما عددَ السنين والحساب، وتغيرَ الفصولِ والبروجِ، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً)، وقال تعالى :﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج) البقرة (189)، ولما كانت هذه الشريعةُ مبنيةً على اليسرِ والسُّهولةِ، كما قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) الحج (78)، جعلَ اللهُ الحسابَ الشرعيَّ، مبنيًّا على سيرِ القمرِ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّا أُمةٌ أمِّيَّةٌ، لا نكتبُ ولا نحسبُ، الشهرُ هكذا وهكذا»؛ يعني: مرة تسعةً وعشرين، ومرة ثلاثين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهرُ تسعٌ وعشرون ليلةً، فلا تصوموا حتى ترَوْه، فإن غُمَّ عليكم فأكمِلوا العدةَ ثلاثين)، فجعل اللهُ المرجعَ في الفطرِ والصيامِ إلى رؤيتِه. وقد كانت العربُ في جاهليتِها تؤرِّخ بأيامِها وأحداثِها الكبارِ، ووقائعِها العظامِ، واستمرَّ ذلك في حياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخلافةِ أبي بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه، وأوائلِ خلافةِ عمرَ الفاروقِ رضي الله عنه، ثم إنه مع اتساعِ الخلافةِ توافرت أسبابُ البحثِ عن تأريخٍ، يَعمل به المسلمون، يجتمعون عليه، واستقرَّ هذا التأريخُ الهجري في أمة الإسلامِ، منذ ذلك الحينِ إلى يومِنا هذا، وأصبح التأريخ بالهجرةِ النبويةِ الشريفةِ إلى المدينةِ، فلما دبَّ إلى الأمةِ داءُ الوهنِ والضعفِ، وأصابها العجزُ والكسلُ، وتسلط عليها أعداؤُها المستعمرون، وأذنابُهم المنافقون، فمزَّقوها شرَّ ممزقٍ، كان من جملةِ ما ذهب من معالِمِ شخصيتِها، وأعلامِ تميُّزِها التأريخُ العربيُّ الإسلاميُّ الهجريُّ، فاستبدل كثيرٌ من أبناءِ الأمةِ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ، فغدا التاريخُ الهجريُّ الإسلاميُّ مجهولاً مغموراً، وأصبحَ التاريخُ الإفرنجيُّ مشهوراً معروفاً. ومن مفاسدِ الاعتمادِ على التأريخِ الإفرنجي، وجعلِه هو الأصلَ في حياةِ الأمةِ وتعاملاتِها: ضياعُ كثيرٍ من الشعائرِ التعبُّديةِ، والمعالمِ الشرعيةِ، فلا يدري المسلمُ -على سبيل المثال- متى الأيامُ البيضُ، التي رغَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صيامِها؟ ولا يعرفُ ما هي الأشهرُ الحرمُ، التي أوجبَ اللهُ على المؤمنين احترامَها وتعظيمَها؟ ولا يعلم ما هي أشهرُ الحجِّ، التي يقعُ فيها الحج؟ وغير ذلك من العبادات.
ألا فعودوا إلى تاريخكم وحساب أيام دهركم بما شرعه الله لكم، فهو القائل سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (5) يونس .
الدعاء