خطبة عن حديث (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ التُّقَى)
أبريل 30, 2024خطبة عن (اللَّهُ مَعَنَا)
مايو 1, 2024الخطبة الأولى (الأُسْوَةُ الحَسَنَةُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الانعام (90)، وقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الممتحنة (4 )، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) الاحزاب
إخوة الإسلام
الأُسْوَةُ الحَسَنَةُ: (هي وجود شخص أو داعي أو معلم يحتذى به في كل ما يقوم به من قبل أشخاص آخرين)، وقد ذكر الله تعالى الأسوة الحسنة في القرآن الكريم في مواضع عدة (كما في الآيات المتقدم ذكرها)، وذلك لبيان أهميتها، ووجوب العمل بها، فهي من أنجع وأفضل وسائل التربية، فالتربية بالقدوة والأسوة من أفضل الأساليب التربوية، وأكثرها انتشاراً قديماً وحديثاً، فالتأسي بالآخرين أسرع من طريقة التجربة والخطأ في الوصول إلى الهدف المطلوب، فلابد للإنسان من القدوة الصالحة في أمور معاشه وحياته الدنيوية، لكي يعيش حياة مثالية؛ فالإنسان الذي ليس له قدوة صالحة لن يهتدي إلى الصواب، ولن يكون على بصيرة من أمره، فمثله كمثل سفينة في خضم بحر محيط تمخر بدون بوصلة، فلا غرو أنها ستتيه بين ألف وجهة ووجهة. فهكذا الحياة؛ عروقها متشعبة، وأساليبها متنوعة، فيحتاج سالكها إلى مرشد رشيد. ولذا كان من الواجب الاقتداء بالرسول ﷺ، وبأهل العلم والصلاح من هذه الأمة. فجميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كانوا قُدوةً حسنةً لأقوامهم، وهذا يدل على عِظَم وأهمية القدوة والأسوة الحسنة.
أيها المسلمون
ومن الملاحظ: أنه يتصدَّر في المجتمعات بين الحين والآخر من يقتدي به الناس، مع أنَّه في ميزان الشرع لا يصلح أن يكون قدوةً للناس؛ فمن الناس من يقتدي بالممثلين والممثلات، أو المغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات، والرياضيين والرياضيات، وهؤلاء جميعهم لا يصلح أن يقتدى ويتأسى بهم، فالقدوة التي أُمرنا باتباعها، والتَّأسي بها، لها أصولٌ شرعيةٌ، يجب أن تكون مُتمثِّلةً ومجسدةٌ فيما يفعل، وإلاَّ فلا يُقتدى به أبداً. فمن أصول القدوة والأسوة الحسنة: الصلاح: فقد أمر الله تعالى- الخَلق جميعاً بالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنّه كان صالحا، قد جمع كلَّ الخصال الحميدة، وليس به خصلة قبيحة، ولا يكون القدوة من أهل الصلاح إلاّ إذا تحقَّق به الإيمان، فلا يُقتدى بمن فسدت عقيدته، ولا يَصحُّ أن يتقدَّم الناس؛ ومن علامات الصلاح: العبادة: فمن صَلُحَت عبادته، وكانت على الكتاب والسُّنة، اتّخذه الناس قدوةً لهم، ومن علامات الصلاح: الإخلاص: فإنّ الغاية من مُتابعة القدوة هي أن يوصل الخلق إلى الله تعالى، والإخلاص شرطٌ لقبول العمل، فإن كان غير مُخلصٍ لله أضَّل الخلق في أفعاله. ومن علامات الصلاح: حسن الخلق: فالخُلق الحسن هو التطبيقُ العمليُّ لما في قلب المسلم، والخُلق الحسن هو الذي يؤثِّر في الناس، ويسعى الناس إلى تقليده، فمن حَسُن خلقه، صحَّ أن يكون قدوةً للناس، ومن فقد هذا الأصل فلا يصحُّ أن يتَّخذه الناس لهم قدوة ومثالاً يُحتذى به، ومن علامات الصلاح: موافقة القول للعمل: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.[الصف: 2،3] وتُعتبر مخالفة القول للعمل من القدوة، هي من أسباب انتكاس الناس، حين يَرون أنَّهم يقلدون إنساناً لا يفعل ما يقول، مع قدرته على ذلك، فالناس يتأثرون بالعمل أسرع من تأثرهم بالأقوال الكثيرة. فمن صفات المنافقين أنهم: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ آل عمران: (167).
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) الاحزاب، فلم يتوقّف معنى هذه الآية الكريمة على أمر الله سبحانه وتعالى بالتأسّي برسُوله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل أن تَسير خُطى قُلوبِنا، وخُطى أفعالِنا، على خُطاه صلى الله عليه وسلم، فمن الملاحظ أن البعض يكتفي بعبارات وأشعار المدح والثناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو حظه في الحب والأسوة، ونقول لهؤلاء: لا يكفِي أن نمتدح نبيّنا الكريم، ولا يكفي أن نقول أنّنا نُحبّه، وهو صلى الله عليه وسلم غائب في أخلاقنا، وتعاملنا، وهو غائب في بُيوتنا، وغائبٌ في مدارسِنا، وغائبٌ في مصانِعنا، وغائبٌ في أسواقِنا، وغائبٌ في شوارعنا، وغائبٌ في كلّ قلبٍ يستيقظُ كلّ صباحٍ ولا يوقِظُ ضميره معه، بل لابد أن تكون تعاليمه وهديه، منهجا ونبراسا للأمة الإسلامية، وطريقا لبناء المسلم السوي، والمجتمع المثالي، فلئن انتقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جوار ربه ، فإن الله قد حفظ لنا سنته، وبقيت سيرته خالدة شاهدة على سمو روحه، وكمال نفسه، ورفعة أخلاقه، فما على من أراد الاقتداء والتأسي به إلا مطالعتها، والعمل بما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فمَن يريد التأسِّيَ واتِّباعَ الرسول وطاعتَه، لا بُدَّ له من أن يَعرِف تلك السيرةَ العَطِرة التي تناقلتْها الأجيالُ معجبةً بحياة صاحبها – صلى الله عليه وسلم – وأن يُلِمَّ بجوانبِ هذه السيرةِ المُطهَّرة، التي جمعتْ أقوالَه وأفعالَه وتقريراتِه. وبالتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم نستطيع أن نُحقِّق لأنفسنا أمنيَّةً يعِزُّ وجودُها، وهي: أن نُتيحَ لأنفسنا أن ترى الاستقامة والسموَّ والإباء، والحق والقوة، والورع والعدالة، والعقل والحكمة، والخلق الحسن، والتواضع، والزهد والإيثار، والشجاعة والبلاغة والبيان، والصبر والإحسان، فترى ذلك كلَّه مثلًا أعلى تسعى نحوَه، وتتأسَّى به. فهو من أثنى عليه اللهُ ربُّ العالمين في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]. فهو -صلى الله عليه وسلم- الشاب الأمين، والتاجر الصادق، والباذل لكل طاقته في تبليغ دعوة ربه، وهو الأب الرحيم، والزوج المحبوب، والقائد المحنك، والصديق المخلص، والمربي المرشد، والحاكم العادل.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الأُسْوَةُ الحَسَنَةُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) الاحزاب، فماذا يفهَمُ المسلم من هذا الرَّبطِ العَجيبِ؛ بين الإيمانِ باللهِ وباليومِ الآخِرِ، بالتأسِّي به صلى الله عليه وسلم؟، ودعني أُقِرُّ -تنَزُّلًا- بالخِلافِ المعتَبَرِ في بعضِ المسائِلِ الخلافية، سأقِرُّ بالخِلافِ المعتبر في حَلْقِ اللِّحية وتخفيفِها، ولكِنْ أين حسنُ التأسِّي بالنّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في لحيتِه؟، وسأقِرُّ بالخِلافِ في الإسبالِ، ولكن أين التأسِّي بإِزْرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي كانت إلى نِصفِ ساقِه؟، وسأقِرُّ بالخِلافِ في مصافحةِ النِّساءِ، فأين التأسِّي به في عَدَمِ مصافحَتِهنَّ؟، وسأقِرُّ بالخِلافِ في النَّظَرِ إلى المرأةِ بغيرِ شَهوةٍ، فأين حُسنُ التأسِّي بغضِّ البَصَرِ؟، وسأقِرُّ بالخِلافِ في الحجابِ، فأين التأسِّي بحِجابِ أمَّهات المؤمنين؟، فحين يتحَدَّثُ المرءُ عن التأسِّي برسوله الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ كُلَّ خلاف يرِدُ في حكمٍ ما، يُصبِحُ في طَيِّ النِّسيانِ، بل ويغيبُ عن الأذهانِ، ولهذا لَمَّا كان صحابتُه صلى الله عليه وسلم قد فَهِمُوا عنه هذا المعنى في التأسِّي- فاختفى في كلامِهم -أو كاد- الحديثُ عن الواجبِ والمستحَبِّ، والفَرقِ بينهما، والمحرَّمِ والمكروهِ، والفَرقِ بينهما.
وفي صحيح ابن حبان: (عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت امرأة عثمان بن مظعون واسمها خولة بنت حكيم على عائشة وهي بذة الهيئة فسألتها عائشة ما شأنك فقالت زوجي يقوم الليل ويصوم النهار فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت عائشة له فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون فقال يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أما لك في أسوة حسنة، فوالله إني لأخشاكم لله وأحفظكم لحدوده)، فقوله صلى الله عليه وسلم «أمَا لكَ فِيَّ أُسوةٌ؟!»: هذا الاستفهامُ الاستنكاريُّ من النَّبيِّ كان في شأنٍ يستخفُّ به الكثيرون، إنَّه خِطابٌ يدُلُّك على مدى البُعدِ بين كثيرٍ مِنَّا وبين هدْيِه صلى الله عليه وسلم. أمَا آن لنا أن تخشَعَ قُلوبُنا لذِكرِ اللهِ وما نزل من الحَقِّ، ومن الحَقِّ قَولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [الأنفال:24].
الدعاء