خطبة عن (اغتنام العشر) مختصرة
مارس 16, 2025الخطبة الأولى (اغتنام العشر الأواخر)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
في الصحيحين البخاري ومسلم: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)
إخوة الإسلام
لقد أسرعت أيام رمضان ولياليه المباركات، ولم يبق من رمضان إلا الثلث الأخير، أو العشر الأواخر منه، وإذا كان شهر رمضان هو من خير الشهور، فإن العشر الأواخر منه، هي من فضل الفضل، وخير الخير، وأعظمها ليلة القدر، فهي أفضل العشر، بل أفضل ليلة في العام كله، وإذا كان شهر رمضان قد قارب على الرحيل، فإن العبد المُوَفَق من أدرك أن الأعمال بالخواتيم، فلعل بركة عملك في رمضان مخبأة لك في آخره،
وقد خص الله تعالى العشر الأواخر من رمضان بمزايا لا توجد في غيرها، وخصها النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال لم يكن يفعلها في غيرها، ومن ذلك: كثرة الاجتهاد في الطاعات: فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، ففي صحيح مسلم: (قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ). وكان صلى الله عليه وسلم يحيي فيها الليل كله بأنواع العبادة، من صلاة، وذكر، وتلاوة القرآن، ففي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ). فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر، حرصا منه على اغتنامها، بما هي جديرة به من العبادة، قال ابن رجب: “ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه”. (وشد المئزر) هو كناية عن ترك الجماع واعتزال النساء، والجد والاجتهاد في العبادة).
كما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأيام الأواخر بالاعتكاف: ففي صحيح مسلم: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ). وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)، والاعتكاف هو: المقام في المسجد بنية العبادة، والعزوف عن الدنيا، وانقطاع للعبادة، وتخلية للنفس عن التشاغل بغير الطاعات والقربات، فلا ينبغي أن يشتغل بشيء يفوت عليه قصده، ومما ينبغي للمعتكف: أن يتقلل من الطعام والشراب حتى لا يثقل عن العبادة والطاعة
كما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأيام الأواخر بتحري ليلة القدر: فكان الغرض من اجتهاده واعتكافه صلى الله عليه وسلم التفرغ للعبادة، وتحري ليلة القدر، هذه الليلة الشريفة المباركة، التي جعل الله العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، فقال سبحانه: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:3). ففي هذه الليلة تقدر مقادير الخلائق على مدار العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، والآجال والأرزاق، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان:4). ففي هذه الليلة المباركة تفتح الأبواب، ويسمع الخطاب، ويرفع الحجاب، ويستجاب فيها الدعاء ويتحقق فيها الرجاء، إنها ليلة انطلاق الإسلام، ونزول القران، فهي ليلة سلام والأمان، سلام المجتمع، وسلامة القلوب والنفوس، وسلامة العلاقات بين الناس {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر:5).
وقد أخفى الله عز وجل علم تعييين هذه الليلة عن العباد، ليكثروا من العبادة، ويجتهدوا في العمل، فيظهر من كان جاداً في طلبها، حريصاً عليها، ومن كان عاجزاً ومفرطاً، فإن من حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقاه من تعب في سبيل الوصول إليه. فهذه الليلة العظيمة يُستحب تحريها في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الأوتار أرجى وآكد، فقد ثبت في “الصحيحين: (أن ابْنَ عُمَرَ – رضي الله عنهما – يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ – يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ – فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلاَ يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي»، وهي في السبع الأواخر أرجى من غيرها، ففي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ – رضي الله عنه – قَالَ رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا».
ثم هي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون، ففي سنن أبي داود: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». فعلى الراغبين في تحصيل هذه الليلة المباركة الاجتهاد في هذه الليالي والأيام، وأن يتعرَّضوا لنفحات الرب الكريم المنان، عسى أن تصيبكم نفحة من نفحاته لا يشقى العبد بعدها أبداً. وإذا كان دعاء ليلة القدر مقبولا مسموعا مستجابا، فعلى العبد أن يكثر من الدعاء والتضرع، وسؤال خير الدنيا والآخرة، وفي سنن الترمذي: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ «قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
فاستدركوا في آخر شهركم ما فاتكم من أوله، وأحسنوا خاتمته فإنما الأعمال بالخواتيم، ومن أحسن فيما بقي غفر له ما قد مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي. وأروا الله من أنفسكم الجد في تحري الخير في هذا الثلث الأخير، واغتنموا ما فيه من الخير الوفير، وتعرضوا لنفحات الغفور الحليم، الرحيم القدير، فإن المغبون حقا من صرف عن طاعة الرب، والمحروم من حرم العفو، والمأسوف عليه من فاتته نفحات الشهر، ومن خاب رجاؤه في ليلة القدر.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اغتنام العشر الأواخر)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن العلامات التي تعرف بها ليلة القدر: ما جاء في صحيح مسلم: (فَقَالَ أُبَىٌّ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ – يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي – وَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ. هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لاَ شُعَاعَ لَهَا).
أما العلامة الثانية: فقد ثبت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة، أن النبي ﷺ قال: (ليلة القدر ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة)،
وأما العلامة الثالثة: ما رواه الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه (أن النبي ﷺ قال: ليلة القدر ليلة بلجة “أي مضيئة”، لا حارة ولا باردة، لا يرمى فيها بنجم” أي لا ترسل فيها الشهب)،
فهذه ثلاثة علامات في الدلالة على ليلة القدر. ولا يلزم أن يعلم من أدرك وقامها ليلة القدر أنه أصابها، وإنما العبرة بالاجتهاد والإخلاص، سواء علم بها أم لم يعلم، وقد يكون بعض الذين لم يعلموا بها أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة وذلك لاجتهادهم، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة وصلى التراويح فقد أصاب ليلة القدر، وكان له منها حظ وافر.
الدعاء