خطبة عن (مجالسة أهل الباطل ،وأضرارها)
فبراير 28, 2017دروس من ( قصة سيدنا موسى عليه السلام )
مارس 1, 2017الخطبة الأولى ( مع اسم الله ( الْغَنِيُّ – المغني )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الحق تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف 180،
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ »، وقال تعالى : (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (64) الحج
إخوة الإسلام
إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لمن أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد ، وتقوية يقينه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:”ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات، كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه، وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه”. ومن الأسماء الحسنى التي وردت في كتاب الله العظيم: اسمه تعالى: (الْغَنِيُّ ) . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (15) فاطر ، وقال تعالى : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] ،وقال تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (24) الحديد ،وقال تعالى : (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (64) الحج ، وقال تعالى : (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) يونس 68، .. فـ (الْغَنِيُّ)، من أسماء الله الحسنى التي وردَتْ في كتاب الله – تعالى – وذُكِر (الْغَنِيُّ) في كتاب الله في ثماني عشرة آية ، والغنى ضد الفقر ، والغنى عدم الحاجة وليس ذلك إلا لله تعالى ، فهو المستغنى عن كل ما سواه ، وهو المفتقر إليه كل ما عداه ، وهو الغنى بذاته عن العالمين ، والمتعالي عن جميع الخلائق في كل زمن وحين ، وهو الغنى عن العباد ، والمتفضل على الكل بمحض الوداد. هو ” الْغَنِيُّ ” الذي له الغنى التام المطلق، فلا يتطرق لصفاته وكماله نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنيًّا؛ لأن غناه من لوازم ذاته، فهو ” الْغَنِيُّ ” الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة، والمغني لجميع خلقه غنى عامًّا. وهو ” الْغَنِيُّ ” غنيٌّ عن عباده، لا يُرِيد منهم طعامًا ولا شرابًا، ولم يخلقْهم ليستَكثِر بهم من قِلَّة، أو يستقوي بهم من ضعف، أو يستأنس بهم من وَحْشَة؛ بل هم المُحتاجُون إليه في طعامهم وشرابهم وسائر شئونهم، قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات56-57] ، وهو ” الْغَنِيُّ ” يغني الناس من فقرهم وحاجتهم، ولا ينقصه العطاء ولا يحتاج عباده لغيره سبحانه؛ كما في الحديث القدسي: “..يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ..” (رواه مسلم). وهو المغني : الذى يغنى من يشاء غناه عمن سواه ، وهو معطى الغنى لعباده ، ومغنى عباده بعضهم عن بعض ، فالمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك ذلك لغيره، وهو المغنى لأوليائه من كنوز أنواره ،وهو “المغني”…يُغني بعض عباده بهداية وصلاح قلوبهم؛ بمعرفته وإجلاله وتعظيمه ومحبته، فيُغنيهم بما هو أبلغ وأكمل من صلاح دنياهم. وهو المغني : ومن كمال غناه أنه يعطينا من قبل أن نسأله ،فقد قال أحد الصالحين :(اللهم أعطيتنا من قبل أن نسألك ، فكيف إذا سألناك؟؟ ) وفي الصحيحين : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ – وَقَالَ – يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ – وَقَالَ – أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ …) وغنى عباده ألا يسألوا أحدا سواه ، ففي صحيح مسلم (قَالَ « أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ». قَالَ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ قَالَ « عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا – وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً – وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا ». فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ ) . وقال ابن جرير في قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة : 267 ] ، واعلموا أيها الناس أن اللَّه عز وجل غنيُّ عن صدقاتكم وعن غيرها ، وإنما أمركم بها وفَرَضَها في أموالكم رحمةً منه لكم ،ليُغْنِي بها عَائِلكم ،ويقوي بها ضعيفكم ،ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم ، لا من حاجة به فيها إليكم . فاللَّه عز وجل ليس بمحتاج إلى أحد ،فيما خلق ويخلق ،ودبَّر ويُدبِّر ،ويُعْطِي ويَرْزُق ، ويَقْضِي ويُمْضِى ، لا رادَّ لأمْرِه ،وهو على ما يَشاءُ قدير ،وقال الخطابيُّ : (( الغَنِىُ )) هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لملكه ، فليست به حاجة إليهم ، وهم إليه فقراء محتاجون ، كما وصف نفسه تعالى ،فقال عزَّ من قائل : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [ محمد : 38 ] .
أيها المسلمون
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم : أولاً : لا يوصف بالغنى المطلق إلا الله : فإن اللَّه غني بذاته عن كل ما سواه ، ومن علامات ذلك الغنى : 1- أن اللَّه عز وجل (( غني عن الطعام والشراب )) – كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 56- 58 ] . 2- (( وهو غني عن الزوجة والولد )) ، وهذا يعني الوحدانية المطلقة ،ليس كما يَسُبُّه الكفارُ أصحاب عقيدة التثليث ،فإن الحاجة إلى الزوجة والولد ضعف وافتقار ، تعالى اللَّهُ عن ذلك علوًا كبيرًا . قال تعالى :
{ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [ يونس : 68 ]. 3- ((وهو غني عن خلقه )) ، فما خلق اللهُ الخلقَ ليستأنس بهم من وحشة ، ولا ليستكثر بهم من قلة ، ولا لينصروه على عَدُوٍ ، ولكن خلقهم ليذكروه كثيرًا ،ويعبدوه طويلاً ، ويسبحوه بكرة وأصيلاً . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56. فإن اللَّه جل جلاله غنيُّ عن العلائق والروابط والصلات ، فصِلاَتُه بخلقه صِلاَتُ ربٍ رزَّاق لعباد محتاجين ، وصلته بهم صلة عطاء وتفضل بعد خلق وإيجاد ، أما صلة الخلق به سبحانه ، فهي صلة أخذٍ من رزقه ، وانتفاع بما عنده ، فالعبد يدعو والله يجيب ، والخلق يحتاجون والزراق يعطيهم ، والعباد يفتقرون والغنيُّ يغنيهم ، وإذا قدَّموا شيئًا من أموالهم ،فإنما هم الذين ينتفعون به ، ويجازيهم بأضعاف ما عملوا ، ويزيدهم من فضله ، وانظر إلى أجمل حديث يعبِّر عن هذا المعنى ، قال اللَّه تعالى في الحديث القدسي، كما في صحيح مسلم : (( … يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ
يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ » ، 4- (( وهو غني عن عبادة خلقِه )) :فهو غني عن إيمانهم ؛ قال تعالى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] . وهو غنيُّ عن شكرهم ؛ قال تعالى : { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] . (( وهو غني عن جهادهم )) ؛ قال تعالى : { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 6 ] ، ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم :ثانيًا : أنتم الفقراء إلى الله : فالرب سبحانه غنيُّ بذاته ، والعبد فقير بذاته ، محتاج إلى ربه ، لا غنى له عنه ، ولو طرفة عين . ويستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا ، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيًا ، كما أنه يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا ، والربُّ إلا ربًا . ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم : ثالثًا : فقر العباد إلى ربهم فقران : الأول : فقرٌ اضطراري ، وهو فقرٌ عام لا خروج لبرٍ ولا فاجرٍ عنه ، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ، ولا ثوابًا ولا عقابًا ، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ، ومصنوعًا . الفقر الثاني : فقر اختياري ، وهو فقر الخشية والطاعة وذلة العبودية . وهو نتيجة علمين شريفين ؛ أحدهما : معرفة العبد لربه ، والثاني : معرفته بنفسه ، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان ،أنتجتا فقرًا ،هو عين غناه ،وعنوان فلاحه وسعادته ، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين ، فإن اللَّه تعالى قد أخرج العبد من بطن أمه ضعيفًا مسكينًا ، جاهلاً ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } . وسخر اللَّه له ما في البر والبحر مما يصلحه ويعينه على أمر دينه ودنياه ، فلما شعر بأن له قدرة على السعي ، واستطاعة على التدبير ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادَّعى لنفسه مُلكًا مع الله سبحانه ، ورأى نفسه بغير هذا الضعف الأول الذي كان عليه ، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة ؛ حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج ، بل كأن ذلك شخصًا غيره . كما روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَزَقَ يَوْماً فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ أُصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ « قَالَ اللَّهُ ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ ». ومن هنا خَذَل من خذل ، ووفَّق من وفق ، فحجب المخذولَ عن حقيقته ونسي نفسه ، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه ، فطغى وعتا فحقَّتْ عليه الشِقْوَةُ ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6، 7 ] ، فأكمل الخلق أكملهم عبودية ، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه ،وعدم استغنائه عنه طرفة عين . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس افتقارًا إلى ربه ، وكان من دعائه : ((اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ أَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ » رواه أحمد وغيره
وقد كان يعلم صلى الله عليه وسلم أن قلبه الذي بين جنبيه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئًا ، وأن اللَّه سبحانه يصرفه كما يشاء ، وكان يدعو صلى الله عليه وسلم :« يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم :رابعًا : ليس كمثله شيءٌ في غناه : وهذا من وجوه : الأول : كثرة ما عند اللَّه :قال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] . قال ابن كثير في هذه الآية : (( أي هو الخالق للأشياء المالك لها المُتَصرِّف فيها القادر عليها ، فالجميع ملكه وتحت قهره ، وقدرته وفي مشيئته ، فلا نظير له ولا وزير ، ولا عديل ولا والد ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، ولا إله غيره ولا رب سواه )) ، الثاني : غناه دائم :فما من مخلوق أصبح غنيًّا إلا بعد فقر أو تكون عاقبتُه إلى فقر أو يفني المال وصاحبه ، أما اللَّه جل جلاله فغناه دائم لا يفنى أبدًا ، قال تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] ، وقال تعالى :{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ، الثالث : غناه ذاتيُّ : أي أن غنى اللَّه في ذاته ،وليس فيما يراه الناس من الملك في السماوات والأرض ، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له : كن فيكون ، ولكن غنى الخلق إنما يكون بما يمتلكون من ثروات وأموال ، ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم : الرابع : غناه مطلق :فإن الخلق يحتاجون إلى ما تقوم به أبدانهم وأرواحهم ، وهذا يجعلهم فقراء إلى رزق اللَّه من كل الوجوه ، فإنهم فقراء إلى الطعام وإلى الشراب ، والنفس والروح والسعادة والزوجة والولد ، والسمع والبصر .. هذا فقرٌ مطلق إلى اللَّه الذي بيده هذه النعم وغيرها مما لا غنى عنه للخلق ، أما اللَّه جلَّ جلاله فإنه غنيّ عن ذلك كله ، بل وعن كل ما سواه ، تبارك وتعالى ، لذلك فإن غنى اللَّه غنى مطلق ، وكل العباد فقرهم إلى اللَّه فقر مطلق ، ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم :خامسًا : وأنه هو أغنى وأقنى قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] . فإن الغنى والعطاء بيد من له ملك الأرض والسماء ، فلا يَغْتَني أحدٌ إلا بإذنه ، ولا يُرزق أحدٌ إلا من عطائِه ،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مع اسم الله ( الْغَنِيُّ – المغني )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد جعل اللَّه الغني لرزقه أسبابًا ،يُغنى بها من أراد من عباده ، فمن هذه الأسباب : 1- التفرغ للعبادة :قال تعالى في الحديث القدسي : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ » رواه الترمذي وغيره ، 2- من نزلت به فاقة فأنزلها باللَّه : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى إِمَّا أَجَلٍ عَاجِلٍ أَوْ غِنًى عَاجِلٍ » رواه أحمد وغيره – والمتابعة بين الحج والعمرة : فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ » رواه الترمذي وغيره ، 4- تقوى اللَّه عز وجل : قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ،
وقال اللَّه تعالى :{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] .
5- الاستغفار :قال تعالى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [ نوح: 10- 12 ] . 6- إرادة الزواج تعفُّفًا :قال تعالى : { وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 32 ] . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : (( أطيعوا اللَّه فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى )) ، 7- الاستغناء باللَّه عن الخلق : ففي الصحيحين (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « …. ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ » ، وفي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ » ، 8- صلة الرحم : ففي الصحيحين (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ » ، 9- الزكاة والصدقة : ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ». وَقَالَ « يَمِينُ اللَّهِ مَلأَي – وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ مَلآنُ – سَحَّاءُ لاَ يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ». ، 10- من كان همُّه الآخرة : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ » رواه الترمذي وغيره. ، 11- الدعاء : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ « إِذَا بَقِىَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ مَنْ ذَا الَّذِى يَدْعُونِى أَسْتَجِيبُ لَهُ مَنْ ذَا الَّذِى يَسْتَغْفِرُنِى أَغْفِرُ لَهُ مَنْ ذَا الَّذِى يَسْتَرْزِقُنِى أَرْزُقُهُ مَنْ ذَا الَّذِى يَسْتَكْشِفُ الضُّرَّ أَكْشِفْهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ ». رواه أحمد
أيها المسلمون
فجميع الخلق مُفتَقِرون إلى الله الغنيِّ الواسع، في طلب مصالحهم، ودفْع مضارِّهم، وفي أمور دينهم ودنياهم، والعِبَاد لا يملِكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كلِّه؛ قال – تعالى -: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2]. فالله – عزَّ وجلَّ – هو الغني الذي يُطعِم ويسقِي، ويُحيِي ويُمِيت، ويُغنِي ويُفقِر؛ قال – تعالى – عن إبراهيم: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 75 – 78]. وبالجملة، فإنَّ جميع المخلوقات مُفتَقِرة إليه – تعالى – في وجودها، فلا وُجُود لها إلا به، فهي مُفتَقِرة إليه في قيامِها، فلا قوام لها إلا به، ولا حركة ولا سكون إلا بإذنه، فهو الحيُّ القيُّوم القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى شيء، القيُّم لغيره، فلا قوام لشيء إلا به، فالخالق له مُطلَق الغِنَى وكمالُه، وللمخلوق مُطلَق الفقر إلى الله وكماله،
الدعاء