خطبة عن (الحسود حقود)
يوليو 21, 2024خطبة عن (إياك والغش)
يوليو 21, 2024الخطبة الأولى (اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (213) البقرة، وروى الترمذي في سننه: (قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عَنْهُمَا عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ».
إخوة الإسلام
إن حاجة الناس إلى الهداية، لهي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الهداية تنبني عليها الحياة الآخرة المستمرة الدائمة، قَالَ ابْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ دَائِمًا إلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا وُصُولَ إلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ )، ولهذا كان حريا بالمسلم أن يُلح في دعائه لله تعالى، ويطلب منه الهداية؛ لأنه بطلب الهداية من الله تعالى، والاستعانة به سبحانه على تحقيقها، يسلك طريق الرضوان والجنة، والعبد وإن كان مهتديا، إلا أنه محتاج إلى سؤال الهداية من ربه، وتثبيته عليها، وازدياده منها، واستمراره عليها، ومن هنا، فإن المسلم يردد طلب الهداية من الله تعالى، وهو يناجيه في صلواته كلها، فريضة أو نافلة، عدة مرات في اليوم الواحد، حين يقرأ الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الفاتحة (6)، قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجلَّ المطالب لنيل أشرف المواهب، علَّم الله عباده كيفية سؤاله)، فالهادي هو الله: قال تعالى: {وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يونس:25). وقال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:50). وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الحج:54). وقال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا} (الفرقان:31). وقال السعدي: (الهادي: أي الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلمهم مالا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة، إليه منقادة لأمره).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من سؤال ربه الهداية، ففي صحيح مسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى». وفيه أيضا: (عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». وعند النسائي وغيره بسند صحيح: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَقِنِي سَيِّئَ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئَ الْأَخْلَاقِ لَا يَقِي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)، وعند الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي”. وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه رضي الله عنهم وينصحهم بسؤال الله الهداية، ففي صحيح مسلم: (عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ».
أيها المسلمون
وفي هذا الحديث المتقدم: يقول صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ»، فهذا الدعاء الجليل، وهو عظيم القدر والشأن، ومشتمل على مقاصد ومطالب عظيمة، في الدين، والدنيا، والآخرة، وفيه معان جليلة في مسائل العقيدة والتوحيد، والتوسل بأسماء اللَّه تعالى وصفاته، وأفعاله، والتوسل بآلائه وإنعامه، وقد ثبت هذا الدعاء المبارك في حالتين: في دعاء قنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضى الله عنهما، وثبت عن أنس رضى الله عنه كما في مسند أحمد: (قَالَ وَكَانَ يُعَلِّمُنَا هَذَا الدُّعَاءَ « اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ – وَرُبَّمَا قَالَ – تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وتَعَالَيْتَ »، فدلّ ذلك على أهمية هذا الدعاء المبارك من أمرين: تعليمه لابن ابنته الحسن كما سبق، وكذلك للصحابة، كما قال أنس: (وَكَانَ يُعَلِّمُنَا هَذَا الدُّعَاءَ)،
فقوله: (اللَّهم اهدني): فقد سأل اللَّه تبارك وتعالى الهداية التامة النافعة، الجامعة لعلم العبد بالحق، والسير عليه، والهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهي معرفة الحق، والعلم به، وهداية توفيق وسداد وثبات، وهذه الهداية لا يملكها إلا هو عز وجل، فينبغي للعبد أن يستحضر هاتين الدلالتين: (العلم، والعمل). وأن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم، كما قال اللَّه تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (69) النساء. فقوله: (اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ ): أي: يا رب قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً، فأنعم عليَّ بالهداية كما أنعمت عليهم، فما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم، ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الهادي وأنت الذي هديتهم.
وأما قوله: (وَعافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ): ففيه سؤال اللَّه تبارك وتعالى العافية المطلقة، الظاهرة، والباطنة، في الدين، والدنيا، والآخرة؛ والعافية هي السلامة، وهي الوقاية من أمراض القلوب، وأمراض الأبدان، فيدخل في ذلك العافية من الكفر، والشرك، والفسوق، والغفلة، والأسقام، وكل الخزايا، والبلايا، وفعل ما لا يحبه، وترك ما يحبه، فهذه هي حقيقة العافية؛ ولهذا ما سُئل الربّ سبحانه وتعالى شيئاً أحب إليه من العافية؛ لأنها كلمةٌ جامعة للتخلص من الشر كله، وأسبابه، ونتائجه، وتبعاته، وفي الصحيحين: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ)، وفي سنن أبي داود: (أن ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِى وَحِينَ يُصْبِحُ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي». وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ «سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ». ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ «فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَأُعْطِيتَهَا فِي الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ»، وفيه: (عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ «سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ». فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ. فَقَالَ لِي «يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».
وأما قوله: (وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ): ففيه التوسل إلى اللَّه تبارك وتعالى بفعل الولاية، والولاية تنقسم إلى ولاية عامة: وهي لكل الخلائق، قال اللَّه تعالى: “ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَق” (الانعام:62)، وولاية خاصة: وهي ولاية اللَّه تعالى للمؤمنين، كما قال تعالى: “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ” (البقرة:257)، وهذه هي الولاية المقصودة في هذا الدعاء المبارك، والتي تقتضي التوفيق، والنصرة، والعناية، والصبر عن كل ما يغضب اللَّه تبارك وتعالى،
وأما قوله: (وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ): فالبركة هي الكثرة والنماء، وهي الخير الكثير الثابت، وتكون حسية أو معنوية، ففي هذا سؤال اللَّه عز وجل البركة في كل ما أعطاه الرب سبحانه وتعالى: من علم، أو مال، وفي العمر، والأهل، والذرية، والمسكن، وغير ذلك، بأن ينميه، ويثبته، ويحفظه ، ويسلمه من كل الآفات.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وأما قوله: (وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ): أي شر الذي قضيته، فإن اللَّه سبحانه وتعالى يقضي بالخير، ويقضي بالشر، لحكمته البالغة، التي لا تحيط بها كل الخلائق، أما قضاؤه بالخير، فهو خير محض في القضاء والمقضي به، مثل القضاء للناس بالرزق الواسع، والآمن والهداية والنصر ونحو ذلك، أما قضاؤه بالشر فهو خير في القضاء؛ لأنه فعله فهو خير محض من كل الوجوه، وشر في المقضي وهو المفعول أي: المخلوق، مثل (القحط) فهو خير من ناحية تذكير الناس بربهم، ولجوئهم إليه، كما قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (الروم:41)، فظاهر هذه الأمور، من المصائب شر، ولكنها في حقيقة الأمر خير من وجه آخر، وينبغي أن يعلم أن اللَّه تبارك وتعالى لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه البتة، فكل شر مهما عظم وكبر، فلابد فيه من الخير، فالشر واقع في بعض مخلوقاته، لا في خلقه، ولا في فعله، ولا في صفاته، وهذا من كمال الرب عز شأنه، فهذا الدعاء يتضمّن سؤال اللَّه تعالى الوقاية، من الشرور، والسلامة من الآفات، والحفظ من البلايا والفتن. وقوله: (إنك تقضي): أي: لا يعطي تلك الأمور المهمة إلا من كملت فيه حقائق القدرة، ولم يوجد منها شيء في غيره، (ولا يقضى عليك): أي: لا يقضي عليك أحد كائناً من كان، فالعباد لا يحكمون على اللَّه عز وجل بشيء، بل هو الذي يحكم عليهم بما شاء، ويقضي فيهم فيما يريد،
وقوله: (وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ): أي: لا يصير ذليلاً حقيقة من واليته، فإن اللَّه سبحانه وتعالى إذا تولّى العبد، فلا يذلّ، ولا يلحقه هوان في الدنيا، ولا في الآخرة. (ولا يعز من عاديت): فإذا عادى اللَّه تبارك وتعالى العبد، فإنه لا يعزّ، ولو اجتمع أهل الأرض والسموات معه، بل حاله الذل والخسران، فمن أراد العز فليطلبه من اللَّه عز وجل، ومن أراد أن يتّقي الذلّ فليكن مع اللَّه جل وعلا، قال اللَّه جلَّ ثناؤه: “مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا” (فاطر:10)، وقوله: (تباركت ربنا وتعاليت): أي: تعاظمت يا اللَّه، فلك العظمة الكاملة من كل الوجوه والاعتبارات، ومن ذلك كثرة بركاتك، وعمّت خيراتك، التي يتقلّب بها أهل السموات والأرض، وهكذا فقد تضمّن هذا الدعاء العظيم أعظم مسائل الإيمان، وأصول السعادة والأمان في الدارين، فتضمّن الهداية، والعافية، والتولي، والبركة، والوقاية، فإن هذه المطالب الجليلة عليها السعادة، والهناء في الدنيا، والآخرة.
الدعاء