خطبة حول قوله تعالى ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)

الخطبة الأولى ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) 

 الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه  الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 

                                   أما بعد  أيها المسلمون    

يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (76)  مريم

إخوة الاسلام

القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .لقد دعانا الله عز وجل إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وأنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آيات من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (76)  مريم ، ففي (التفسير الميسر) قال في تفسيرها : ويزيد الله عباده الذين اهتدوا لدينه هدى على هداهم ، بما يتجدد لهم من الإيمان بفرائض الله، والعمل بها. والأعمالُ الباقيات الصالحات خير ثوابًا عند الله في الآخرة، وخير مرجعًا وعاقبة. وقال القرطبي : أي : ويثبت الله المؤمنين على الهدى ، ويزيدهم في النصرة ، وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم . وفي تفسير (الطبري) : ويزيد الله من سلك قصد المحجة، واهتدى لسبيل الرشد، فآمن بربه، وصدّق بآياته، فعمل بما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه هدى بما يتجدّد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه ، ويقرّ بلزوم فرضها إياه، ويعمل بها، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه، وقال السعدي في تفسيره : والهدى يشمل العلم النافع، والعمل الصالح. فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان والعمل الصالح زاده الله منه، وسهله عليه ويسره له، ووهب له أمورا أخر، لا تدخل تحت كسبه، { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ }  أي: الأعمال الباقية، التي لا تنقطع إذا انقطع غيرها، ولا تضمحل، هي الصالحات منها، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وعمرة، وقراءة، وتسبيح، وتكبير، وتحميد، وتهليل، وإحسان إلى المخلوقين، وأعمال قلبية وبدنية. فهذه الأعمال {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْر مَرَدًّا }  أي: خير عند الله، ثوابها وأجرها، وكثير للعاملين نفعها وردها، 

 أيها المسلمون

وهكذا يتبين للمتدبر للآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى يزيد المهتدين هدى ، ويفتح لهم من أبواب فضله ، وأنواع الطاعات ما يشاء , ثم يدخر لهم ما وفقهم إليه ، ليجدوه يوم القيامة موفوراً ، كأفضل استثمار لحياتهم المستقبلية الأبدية ، وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعات و ينقص بالمعاصي ،وفي الآية أيضا : دليلٌ على أن من طلب الْحَقّ ، وَرَغِبَ فيه ، وأقبل عليهِ، أن الله يهديهِ ،ويوفقهُ ،ويجعل البركة في علمهِ، وأما من أعرض عن الْحَقّ ، فإن الله -جَلَ وَعَلَا- يَحْرِمُهُ من معرفة الحقِّ وقبولهِ ،وحتى لو عرفهُ يحرمهُ مِنْ قَبُولهِ ، ففيهِ وجوب إخلاص النية لطالب العلم، وأن يكون قصدهُ ومرادهُ وجه الله في طلب العلم ، وأن يقصد أيضًا بالعلم العمل به ، ﻻ مجرد العلم بدون عمل؛ فإن هذا إِنَمَا هو حجةٌ على صحابهِ يوم القيامة ،وفي هذهِ الآية : أَنَّ الجزاء من جنس العمل ، فالذي اهتدى ، وأنقاد للحق ، وقَبِلَهُ وَرَغَبَ فِيهِ ، يزيدهُ الله علمًا ومعرفةً وبصيرةً في دينهِ ،  وقوله تبارك وتعالى : (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (76)  مريم ،فقد وردت أحاديث متعددة تبين المراد بالباقيات الصالحات ، ومنها : ما جاء في موطإ مالك : (عَنْ مَالِكٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ صَيَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } .أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ  ، وفي مسند أحمد : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ أَرْبَعاً سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ) ، وفيه أيضا : (قَالُوا هَذِهِ الْحَسَنَاتُ ، فَمَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ يَا عُثْمَانُ، قَالَ : هُنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ). وفيه أيضا : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ». قِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الْمِلَّةُ ». قِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الْمِلَّةُ ». قِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الْمِلَّةُ ». قِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : « التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ »، وفي سنن الترمذي بسند حسنه : (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّى السَّلاَمَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ » فالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : يُرَادُ بِهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يَبْقَى لِصَاحِبِهَا أَجْرُهَا أَبَدَ الْآبَادِ وَفَسَّرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ

                                                          أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم

           الخطبة الثانية ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) 

 الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه  الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 

                                   أما بعد  أيها المسلمون    

وقد ذكر المفسرون أقوالا عدة في المراد من ( الباقيات الصالحات ) ، ومنها : قال بعضهم: هي الصلوات الخمس ،فقد روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الباقيات الصالحات): الصلوات الخمس. وقال آخرون: هي ذكر الله بالتسبيح، والتقديس، والتهليل، ونحو ذلك.  وقال بعضهم: هي العمل بطاعة الله.  وعن علي بن أبي طلحة، وابن عباس رضي الله عنهما، قالا: {والباقيات الصالحات}: هي ذكر الله، قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض.  وقال بعضهم: هي الكلام الطيب.  والحق، أن هذه الأقوال جميعها لا تعارض بينها، وهي متقاربة من حيث المعنى، ويكفيك في هذا، أن جميع الأقوال المذكورة في المراد من هذه العبارة، قد وردت فيها آثار

 وفي قوله تعالى : {خير عند ربك ثوابا}، أي: أن الأعمال الصالحة دائمة باقية، وفعل الخيرات نافعة رافعة، وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي . وأما قوله تعالى : {وخير أملا}، أي: خير رجاء؛ لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة، دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات، فإنه لا يرجو ثواباً.  قال الرازي: “كل عمل أريد به وجه الله، فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل، يكون خيراً وأفضل؛ لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة” . وقال ابن عاشور : “إن أمل الآمل في المال والبنين، إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله، ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة، فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (97) النحلوهذه الآية ونحوها من الآيات، لا ينبغي أن يُفهم منها الزهد التام في الدنيا، والإعراض عنها، فليس هذا المراد من الآية حقيقة، وإنما المراد منها التنبيه على أن الدنيا لا ينبغي أن تكون هي الهم الأكبر للمؤمن، ولا أن تكون الشغل الشاغل للمسلم، بل الآخرة هي الأساس، والدنيا طريق إلى الآخرة. فلا يليق بالعاقل أن يجعل ما هو وسيلة غاية، فإن هذا قلب للموازين، وبُعْدٌ عن سواء السبيل.

                                                                   الدعاء