خطبة عن (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا)
يونيو 21, 2025الخطبة الأولى (مَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]. وفي صحيح البخاري: (أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
إخوة الإسلام
المودة والرحمة من القيم الاسلامية الرفيعة، وهي رقة في القلب، وصفاء النفس وطهارة الروح، ولعظم هاتين الصفتين، فقد حثنا عليهما الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح:29، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ»، والمودة والرحمة دليل الى السعادة في الدنيا والآخرة، وهما من الأمور المجتمعية التي تساهم في بناء المجتمع المتماسك والمترابط، فلو تراحم الناس فيما بينهم، وجعلوا المودة أساساً في حياتهم، ما وجد شقي ولا محروم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
والرحمة صفة تبعث على الإحسان، وحسن المعاملة؛ فكيف إذا وُجدت معها المودة؟، فالمودة تجمع أشتاتاً من الناس، ويحصل بنيهم أخوة وعلاقة صداقة، والرحمة تجمع القرابات، وتؤلف بين القلوب.
وفي قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]. فيه بيان أن من أعظم مقاصد النكاح في شرع الله المطهر أن تسود المودة والرحمة بين الزوجين، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تبنى الحياة الزوجية، قال الحافظ ابن كثير (رحمه الله): “فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد”، فالمودة والرحمة آصرة قوية، كما أنهما أيضاً بجعل الله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) فهي ليست مصنوعة، وإنما هي بجعل الله – تبارك، وتعالى – وما كان بجعل الله فهو أقصى درجات الإتقان، فتأملوا: كيف أن الزوجين يكونان قبل الزواج لا يعرف أحدهما الآخر، فيصبح بعد الزواج بحالة من المحبة، والوئام، والرحمة، وكيف تحصل هذه العاطفة بينهما بعد أن كانت منعدمة قبله، فهذا كله آية من آيات الله – تبارك، وتعالى – ومِنة امتن الله تعالى بها على العباد، فالدعائم التي أقَرَّها الإسلام لبناء البيوت الصحية السليمة هي: (المودة، والرحمة، والسكينة).
فقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) فهذه الآية الكريمة، تتضمّن القاعدة الكبرى التي يجب أن يقوم عليها أساس بناء الحياة الزَّوجية، والتحقق بما فيها تحقق بواحدة من أهم غايات الزواج؛ سُكنى الزَّوج إلى زوجته، والزوجة إلى زوجها، فالأصل في العلاقة بين الزوجين، (المودّة والرحمة)، فالأصل في الحياة الزوجية والأسرية هو الاستقرار والمودة والرحمة والسَّكن، فإذا فُقدت هذه الأشياء فعلى الزَّوجين أن يبحثا عن سرِّ هذا الفقد، وليس معنى ذلك أنّه لا ينبغي أن تقع مشكلات داخلَ البيوت، فلو خلا بيتٌ من المشكلات لكان ذاك البيت هو بيت النُّبوَّة، لكنّه لم يخلُ منها، لكن فرق بين الشيء العارض اليسير، وبين أن يتحول العارض إلى أصل أصيل!
وقد جرى على هذه السنة البشرية الأصيلة الصالحون والأنبياء ومنهم نبينا محمد صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة) [الرعد :38].
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]. يرى جَمْعٌ من المفسرين منهم الشيخ رشيد رضا: (أنَّ الخطاب في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً ورحمة} (الروم:21) “إنَّما هو للناس عامة، لا للأزواج خاصة؛ ولذلك لم يقل (لتسكنوا إليها وتودوها)؛ أي أنه جعل من مقتضى الفطرة البشرية التوادَّ بينكم بسبب الزوجية بين الزوجين، ومن يتصل بهما بلُحْمة القرابة والنَسَب، وما زال البشر يَعُدُّون المصاهرة من أسباب العصبية بين البيوت والعشائر والقبائل؛ فهذه سنة من سنن الفطرة عرفها البدو والحضر.
والإسلام حث على حب المسلم لأخيه المسلم، وأوصانا بالتكافل والمودة لإرساء سلام اجتماعي، هو من صحيح دور المسلم، كما دعا الإسلام إلى التكافل ومساعدة البعض، وهذه صفات توفر وتؤصل الحب في النفوس، وتجعل المسلم يشعر بالرضا في كل الظروف، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ». قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». فيه بيان أن المودة والتراحم التعاطف مع المسلمين من أفضل العبادات، وهي من مواسم التجارة مع الله، وهي من أخلاق المسلمين الذين كَمُلَ إيمانُهم، وقد أرشدَنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه العبادات الثلاثة، حتى طلَب مِنَ الذي عنده ما هو زائد عن حاجاته الضروريَّة أن يعطيه لمن لا يملكه، أيها المؤمنون: وضرب لنا الصحابة أروع الأمثلة في التواد والتراحم والتعاطف، حتى استحقت قبيلة الأشعريين الثناء من النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ».
فالتواد والتراحم والتعاطف بين المسلمين كثيرا ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ التَّقْوَى هَا هُنَا بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعوكم أن تكونوا جسدًا واحدًا، فاجعلوا مودتكم واحدة، وتراحمكم واحدًا، وتعاطفكم واحدًا، فالحذر الحذر أن تكونوا من الذين قيل عنهم: “أنتم يومئذ كثير”؛ فهذا الكثير غثاء كغثاء السيل، لا نفع فيه، ولا خير منه، فانشروا المودَّة فيكم، وانشروا التراحم بينكم، وعليكم بالتعاطف، اجعلوه جزءًا من واقعكم، وكونوا على قلب رجل واحد، ضعوا تحت أقدامكم أهواءكم وشهواتكم، وحب التكاثر في الأموال والعصبيات، ضعوا تحت نعالكم أحقادكم، وقطع أرحامكم، وسوء العشرة والجوار، والفرقة والخصام، ولا تغلقوا أبواب الجنة في وجوهكم، وقد أعطاكم الله مفاتيحها، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ».
فأقيموا مجتمعاتكم على التراحم والصلة، وقضاء الحوائج، وحسن المعاشرة، ففي معجم الطبراني: (عن بن عمر أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله وأي الأعمال أحب إلى الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله عز وجل قلبه أمنا يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له أثبت الله عز وجل قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام).
الدعاء