خطبة عن ( أنت الجماعة، ولو كنت وحدك)
يناير 9, 2017خطبة عن ( الخيانة، وحديث (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)
يناير 10, 2017الخطبة الأولى ( كَما تَدينُ تُدان )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال أبو الدرداء – رضي الله عنه -: « البِرُّ لا يَبْلَى، والإثْمُ لا يُنسَى، والدَّيَّانُ لا يَنام، فكُنْ كَما شِئْت، كَما تَدينُ تُدان » [أخرجه أحمد بن حنبل في «الزهد» برقم (773) وإسناده صحيح].
إخوة الإسلام
( كما تدين تدان ) ، أو ( الجزاء من جنس العمل ) ، حكمة بليغة تناقلها الناس قديما ، وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالة على صدقها ، فهي سنة كونية جعلها الله سبحانه وتعالى عظة وعبرة للناس . يقول ابن القيم رحمه الله في “مفتاح دار السعادة” . ” تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل ” ،وروى عبد الرزاق في “المصنف” عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 البِرُّ لا يَبْلَى ، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى ، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ ، فَكُن كَمَا شِئتَ ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ) قال الحافظ ابن حجر “فتح الباري” ” مرسل ، ورجاله ثقات ،وعن مالك بن دينار قال : مكتوب في التوراة ( كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ، وَكَمَا تَزرَعُ تَحصُدُ ) ،وقال ابن قتيبة رحمه الله : ويقولون “كما تَدِينُ تُدان” أي: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، وهو من قولهم : “دِنْتُه بما صَنَعَ” أي: جازيته. فهذه قاعدة عظيمة مطردة في جميع الأحوال ، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك ،فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا ، فقال في سورة البقرة : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقابا من جنس عملهم ، فقال سبحانه : ( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) البقرة/14-15 ،وقال تعالى في سورة التوبة : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة/79 ،قال ابن كثير ” قوله ( سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ ) من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ” .
وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى ، كان الجزاء فيها من جنس العمل . يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) المائدة/38 ،أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ، والجزاء من جنس العمل
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى ( هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن/60 ،قال ابن القيم في “بدائع الفوائد” ” لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته ” كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مشاكل ومناسب للعمل نفسه ، ومن ذلك : قوله تعالى : ( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) البقرة/40 ،وقوله تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) البقرة/152 ،وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمد/7 ،وقوله سبحانه : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) النور/22 ،يقول ابن كثير رحمه الله ” ” فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك ، وكما تصفح نصفح عنك ” .
أيها المسلمون
ومن السنة المطهرة أحاديث كثيرة تثبت هذه القاعدة ( كما تدين تدان )، ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : ( ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ ) رواه أبو داود وصححه الألباني ،وقوله صلى الله عليه وسلم : ( احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح ، وصححه الألباني ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال 🙁 المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه ، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ ) رواه البخاري ومسلم ، ومن ذلك أيضا ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه ، في قول الله تعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه : ( أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ ؟ قَالَت : بَلَى ، قَالَ : فَذَاكِ لَكِ ) رواه البخاري ومسلم
وقد جاء في السنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسب ومشاكل لها ، فمن ذلك :قوله صلى الله عليه وسلم 🙁 مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ ) رواه الترمذي ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ ) رواه الترمذي ، ومنه ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ ) رواه الترمذي ،وهكذا كلما تأملت في نصوص الوحي ، وفي حوادث التاريخ ، وفي سنن الله في أرضه ، تجد أنها لا تتخلف عن هذه السنة ( الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ) ، وذلك من مقتضى عدله وحكمته سبحانه وتعالى ، فمن عاقب بجنس الذنب لم يظلم ، ومن دانك بما دنته به لم يتجاوز : فَلا تَجزَعنَ مِن سُنَّةٍ أَنتَ سِرتَها وَأَوَّلُ راضي سُنَّةٍ مِن يَسيرُها
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( كَما تَدينُ تُدان )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وهناك صنف من البشر كثير الشكوى مما أصابه ، والتسخط على ما نزل به ، ولو تأمل هذا المشتكي ، لعلم أن الآفة فيه والبلية منه ، فسبب تلك الشرور والمصائب التي تحيط بالإنسان هي نفسه التي بين جنبيه ، قال تعالى :{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [165: آل عمران] ، وقال تعالى :{ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [79: النساء] ، وقال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} [30: الشورى] ، فالجزاء من جنس العمل ، والحصاد من جنس البذرة ، واعمل ما شئت فكما تدين تدان !! ،ولكن الإنسان لا يرى ذلك ؛ لأنه طُبع على الجهل والظلم وحُسن الظن بالنفس والرضى بأفعالها . قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } [72:الأحزاب] . وقال تعالى : {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [6: العاديات] ، قال ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : كفور جحود للنعم . وقال الحسن : هو الذي يعدُّ المصائب وينسى النعم . وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير. وهكذا أنت أيها الإنسان ! أنت الظالم الجاهل .. الكفور الكنود .. الجحود لنعم الله تعالى .. إلا من رحم الله عز وجل من عباده الصالحين: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ] . أما العاقل فإنه ينظر إلى نفسه ، ويحاسبها ، ويعرف أنها محلُ جناية ومصدر البلاء ؛ لأنها خلقت ظالمة جاهلة ، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وفعل قبيح . وهذا النظر يدعوه إلى العمل على إخراجها من هذين الوصفين ، فيبذل جهده في تعلم العلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل ، ويبذل جهده في اكتساب العمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم . ويرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيها شرها ، وأن يؤتيها تقواها ، وأن يزكيها فهو خير من زكاها ، فهو وليّها ومولاها ، وألا يكله إلى نفسه طرفة عين ، فإنه إن أوكله إليها هلك . قال تعالى { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [16: التغابن]. وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17].
أخي المسلم
(فكُنْ كمَا شِئْتَ) فأنتَ بالخَيار بأنْ تكون على الحال الذي تريد.. أنْ تكون مِن أهل البِرّ أو مِن أهل الشَّرِّ.. واعمَلْ ما تشاء مِن الصالحات أو مِن السيّئات.. فالنتيجة يجب أنْ تكون على يقينٍ منها، وهي: (كما تَدينُ تُدان و كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى ) ، واعلم أن هذا لا تختص بالجانب السيئ أو العمل الطالح -فقط-، بل هي تشمل الجانب الحسَن والعمل الصالح؛ ولذلك قال تعالى-: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ ﴾ الرحمن 60…
الدعاء