الخطبة الأولى: اصبروا أيها المستضعفون ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إخوة الإسلام
أيها المسلمون
والمسلم اليقِظ الَّذي يترسَّم خطوات نبيِّه، ويسعى إلى تمثُّل منهجه – صلى الله عليه وسلم – مطالب بأن يعرض نفسَه على هذا المسلك النبوي، ويَقيسُ من خِلاله مدى إيمانِه وقوَّة تفاعُله، ومساحة معايشتِه لهذا الدين ، فهَلْ يشعر المسلم بضِيق الصدْر إذا نيل من هذا الدين؟ ، وهل تغمُرُه الحسرة وهو يرى جُموع الهالكين تُعْرِض عن هذا الدين؟ ،وهل يكاد المسلم يقتُل نفسه ألمًا وحزنًا على ما يرى من كفر صريح، وإعراض عن الحق، واستهزاء بالرسول، وتنكيل بالمسلمين ؟، فإذا رأى المسلم في نفسِه هذه المظاهر والأعراض أو بعضها، فإنَّه على خير ،ويسير في الاتجاه السليم، وإذا بحث في نفسِه فلم يجد شيئًا من هذا، فيُخْشَى أن يكون ميِّت القلب، فاقدَ الإحساس ،عديم المسؤولية، وليحذَرْ مَن كانت هذه حاله، فقد روى الطبراني في “الأوسط”، والبيهقي في “الشعب”: عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنِ اقْلِبْ مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا عَلَى أَهْلِهَا!! قَالَ :إِنَّ فِيهِ عَبْدَكَ فُلَانًا لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ؟! قَالَ : اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرَ لِي سَاعَةً قَطُّ) .وروى البيهقي في “الشعب” عَنْ مَالِكٍ قال : ” إِنَّ اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِقَرْيَةٍ أَنْ تُعَذَّبَ فَضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ ، قَالَتْ :إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانًا ،قَالَ :أَسْمِعُونِي ضَجِيجَهُ ،فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ غَضَبًا لِمَحَارِمِي “، فهذا لم يتمعر وجهه أو يتغير ،ولم تظهر عليْه علامات الانكار والحزن وهو يرى الكفر والمعاصي والإعراض ،والاستهزاء بالله تعالى ،وبالدين ،وبالرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولم يضِقْ صدره، ولم تذهب نفسُه على ذلك حسرة، وهنا يكْمُن الهلاك من حيث لا يشعر الكثيرون.
أيها المسلمون
ومع إدراكنا أنه قد يتعرَّض البعض للأذى الشديد، فإن بناء الأُمَّة أمر واجب، والجماعة المؤمنة الصالحة هي نواة هذا البناء، وبغيرها لا تقوم الأُمَّة، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب، فلا يرهبنَّكم احتمال وقوع الأذى عن القيام بواجب أنتم منوطون به، وهذه المجموعة التي قد تتعرَّض للأزى الشديد هي المجموعة المنتقاة، وهم الصفوة حقًّا، وقد اختارهم الله عز وجل ليدفع بهم الأذى عن بقية إخوانهم، ومن داخل هذه المجموعة المنتقاة سينتقي الله مجموعة أقل، ليُقْتَلوا في سبيله، ويصيروا شهداء الأُمَّة، وهذا اختيار رفيع من إله كريم؛ قال تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140]،
فلا تحزن إن اختارك الله لسجن أو تشريد أو تعذيب، أو قتل، فإنك -ولله الحمد- من المصطَفَيْنَ ،واعلموا أنه لا يُرسل الله عز وجل هذا البلاء إلَّا ويُرسل معه القوَّة لتحمُّله، والمُعَذَّب في الله يصبر على ما لا يصبر عليه الناس عادة، وإذا راجعنا ما حدث مع الصحابي الجليل خباب رضي الله عنه، ومن كونه تعرَّض للإلقاء فوق الفحم الملتهب، ثم عرفنا أن الله عز وجل مكَّنه من التحمُّل، ثم الشفاء، ثم البقاء حتى رأيناه يُحاور أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في زمان خلافته؛ بينما مات كلُّ المعذِّبين له، إذا رأينا كل ذلك أدركنا أن هناك قوَّة خفية يُثَبِّت الله عز وجل بها الذين آمنوا؛ قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]،
فلا تَخَفْ من كيد الاعداء، ما دام جهادك في سبيل الله، فلا تجزع، فإن الفرج قريب ،واعْلَم أيها المبتلى بهذه الشدَّة أن أجرك لا ينحصر في عملك الذي قمتَ به، وصبرك في المواقف التي تعرَّضْتَ لها؛ بل إن أجرك يتعدَّى ذلك حتى يشمل أجور المؤمنين الكُثُر الذين رُفِع عنهم الألم بتعرُّضك أنت له؛ فقد انشغل الظالمون بكَ عنهم، وخُفِّف بكَ عليهم، وصارت نجاتهم بسببك، ولو أكملوا الدورة، وأقاموا الأُمَّة، لكان قيامها كلُّه في ميزان حسناتك، فلا تشعرنَّ بشيء من الندم على انخراطكَ في دعوة تعرَّضت فيها للأذى؛ بينما غيرك آمن لم يتعرَّض لشيء، فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له، فأنت في مكانك تعمل، وأخوك في مكانه الآمن يعمل كذلك، والمحصِّلة لعمليكما يكون فيها نجاح الأُمَّة ككلٍّ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد تحمَّل هو العبء الأكبر في هذا الأمر، ثم كان أشدُّ الناس بلاءً بعده أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو خليفته الأول، وصاحبه المقرَّب، وأحد رموز الدعوة المعروفة، ولم يكن تعرُّض الاثنين للأذى بأمر مستغرب؛ إنما هو السُّنَّة الماضية والطريقة الثابتة، التي تنشأ بها الأمم، وتُبنى بها الحضارات ،فليعلم كلُّ قائد أو زعيم أن القيادة ليست تشريفًا، إنما هي تكليف، وأن الزعامة ليست مكاسب ومنافع، إنما هي تضحيات وتبعات؛
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية: اصبروا أيها المستضعفون ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فالرسل وأتباعهم من المؤمنين لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم، ويقول عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55] ،فهؤلاء هم أنصار الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين نصروا دين الله واستقاموا عليه، هؤلاء هم أنصار الله الذين ثبتوا على دينه واستقاموا عليه قولا وعملا في الأمن والخوف في الشدة والرخاء جاهدوا لله وصبروا فجعل الله لهم العاقبة الحميدة كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] ،هكذا وعدهم الله تعالى بالهداية ،وأنهم هم المنصورون،
الدعاء