مجموعة دروس عن ( الإسلام علمني )
أبريل 7, 2018خطبة عن ( تأملات في سورة القارعة )
أبريل 14, 2018دروس بعنوان ( من أخلاق المسلم )
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (35) الاحزاب وروى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ ».
إخوة الإسلام
لقد عُنيَ الإسلام بالأخلاق منذ بزوغ فجره وإشراقة شمسه، فالقرآن في عهديه المكي والمدني على السواء اعتنى اعتناء كامل بجانب الأخلاق؛ مما جعلها تتبوأ مكانة رفيعة بين تعاليمه وتشريعاته، حتى إن المتأمِّل في القرآن الكريم يستطيع وصفه بأنه كتاب خلق عظيم، وبداية : إن الدين الاسلامي يقوم على أربعة أصول : وهي : الإيمان ، والأخلاق ، والعبادات ، والمعاملات .ولذلك فللأخلاق منزلة عظيمة في الدين الاسلامي ، ولها مكانة جليلة ، لأنها أحد أركانه ، وأصوله الاساسية ومعنى الخُلق لغة: هو السَّجيَّة والطَّبع والدِّين، وهو صورة الإنسان الباطنية، أما صورة الإنسان الظاهرة فهي الخَلق؛
ومعنى الخُلق اصطلاحًا: عبارة عن هيئة في النفس راسخةٍ تصدُرُ عنها الأفعالُ بسهولةٍ ويُسرٍ، من غير حاجة إلى فكرٍ ولا رويَّة، وهذه الهيئة إما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ محمودة، وإما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ مذمومةٌ، فإن كانت الأولى، كان الخُلُق حسَنًا، وإن كانت الثانية، كان الخُلُق سيِّئًا. وهناك فَرْقٌ بين الخُلُق والتخلُّق؛ إذ التخلُّق هو التكلُّف والتصنُّع، وهو لا يدوم طويلاً، بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلَّف لا يسمَّى خُلقًا حتى يصير عادةً وحالةً للنفس راسخةً، يصدُرُ عن صاحبِه في يُسر وسهولة؛ فالذي يصدُقُ مرة لا يوصَفُ بأن خُلقَه الصدقُ، ومن يكذِبُ مرَّةً لا يقال: إن خُلقَه الكذب، بل العبرةُ بالاستمرار في الفعل، حتى يصيرَ طابعًا عامًّا في سلوكه.ومن الأدلة والشواهد والبراهين على علو منزلة الأخلاق ،ومكانتها السامية في الدين الاسلامي :
أولا : أنها من أهم مقاصد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للناس: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة: 2)، فيمتن الله على المؤمنين بأنه أرسل رسوله لتعليمهم القرآن وتزكيتهم، والتزكية بمعنى تطهير القلب من الشرك والأخلاق الرديئة كالغل والحسد وتطهير الأقوال والأفعال من الأخلاق والعادات السيئة، وقد قال عليه الصلاة والسلام بكل وضوح: « إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ » رواه البيهقي ، وفي مسند أحمد : « إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ ».فأحد أهم أسباب بعثته صلى الله عليه وسلم : هو الرقي والسمو بأخلاق الفرد والمجتمع.
ثانيا : أن الأخلاق جزء وثيق من الإيمان والاعتقاد: فإتمام الأخلاق وصلاحها من أهم مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ : « أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا » رواه ابن ماجة. وقد سمى الله الإيمان براً، فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177)، والبر اسم جامع لأنواع الخير من الأخلاق والأقوال والأفعال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ” (رواه مسلم ).ويظهر الأمر بجلاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ». (رواه مسلم ).
ثالثا : أن الأخلاق مرتبطة بكل أنواع العبادة: فلا يأمر الله بعبادة ،إلا وينبه إلى مقصدها الأخلاقي، أو أثرها على النفس والمجتمع، وأمثلة هذا كثيرة، منها: الصلاة: قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45). الزكاة: قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ} (التوبة: 103)، فمع أن حقيقة الزكاة إحسان للناس ،ومواساتهم ،فهي كذلك تهذب النفس ،وتزكيها من الأخلاق السيئة.الصيام: قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) فالمقصد هو تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ » رواه البخاري فمن لم يؤثر صيامه في نفسه وأخلاقِه مع الناس لم يحقق هدف الصوم.
رابعا : ومن دلائل منزلة الاخلاق في الاسلام : الفضائل العظيمة والأجر الكبير الذي أعده الله لحسن الخلق: والأدل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة ومن ذلك: فحسن الخلق : أثقل الأعمال الصالحة في الميزان يوم القيامة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ » (رواه الترمذي ). وحسن الخلق : من أكبر الأسباب لدخول الجنة: فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ « تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ». (رواه الترمذي). وأن حَسَن الخلق أقرب الناس منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: كما قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا » (رواه الترمذي).
وأن حسن الخلق منزلته في أعلى الجنة بضمان الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيده: قال صلى الله عليه وسلم: « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ ».(أبو داود) ، ومعنى زعيم : أي ضامن.
والأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة: فالعقلاء يجمعون على أن الصدق ،والوفاء بالعهد ،والجود ،والصبر ،والشجاعة ،وبذل المعروف ،أخلاق فاضلة ،يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب ،والغدر ،والجبن ،والبخل ،أخلاق سيئة ،يذم صاحبها.وحسن الخلق هو من صفات النبي صلى الله عليه وسلم : فقد قالت خديجة – رضي الله عنها – للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث بدء الوحي كما في البخاري : ( كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ )
وفي مسند أحمد (عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى سُوَاءَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ (إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ولذلك فقد رويت أحاديث متعددة يحث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على حسن الخلق ، ومنها :
أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالاِقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » رواه الترمذي
وسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ « تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ». وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ « الْفَمُ وَالْفَرْجُ » رواه الترمذي
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ » رواه الترمذي
وفي مسند أحمد (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ »
وعن أنس رضي الله عنه قال: ” لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر , فقال: يا أبا ذر، ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر , وأثقل في الميزان من غيرها؟ ” , قال: بلى يا رسول الله , قال: ” عليك بحسن الخلق , وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده، ما تجمل الخلائق بمثلهما ” الطبراني في المعجم
وعن هانئ بن يزيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بشيء يوجب لي الجنة، قال: ” طيب الكلام، وبذل السلام , وإطعام الطعام ” الطبراني في المعجم
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .
عن أسامة بن شريك العامري رضي الله عنه قال: (شهدت الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالوا: يا رسول الله) (ما خير ما أعطي الناس؟ , قال: ” إن الناس لم يعطوا شيئا خيرا من خلق حسن ” الطبراني في المعجم
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ » رواه الترمذي
وأَخْرَجَ الْحَاكِمُ { سُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ }
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يُحِبُّ مَعَالِىَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا » رواه البيهقي.
وروى احمد (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ ».
وروى البخاري (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا ، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ « إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا »
وفي سنن الترمذي (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَىَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ » قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ « الْمُتَكَبِّرُونَ »
وفي سنن الترمذي (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَفَ عَلَى أُنَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ ». قَالَ فَسَكَتُوا فَقَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ رَجُلٌ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا. قَالَ « خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ ».
=================================================
1- من أخلاق المسلم : خلق ( سلامة القلب والصدر )
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين:
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الشعراء 88، 89
(وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ
« كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ».
قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ
« هُوَ التَّقِىُّ النَّقِيُّ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْىَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وصححه الألباني
ومعنى سلامة القلب والصدر: أن يكون القلب مليئا بنور الإيمان ، مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبالقضاء خيره وشره ، أن يكون مليئا بالإخلاص ، والتوكل ، والمراقبة ، واليقين ، ومحبا لله ورسوله والمؤمنين
وأن يكون القلب سليما خاليا من الكفر ، والشرك ، والريبة ، والنفاق ، والرياء ، والكبر ، والعظمة ،والعجب والخيلاء ، والكذب ،والبهتان وكل ما ينقص الايمان
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على سلامة قلبه ، ففي سنن الترمذي (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ ».
وفي مسند أحمد وسنن النسائي (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي صَلاَتِهِ
« اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ »
ومن صور سلامة القلب ، ماروه أحمد في مسنده (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا جُلُوساً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ». فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضاً فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِى فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثاً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُئْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِىَ فَعَلْتَ. قَالَ نَعَمْ . قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَلاَثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئاً غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّى لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْراً فَلَمَّا مَضَتِ الثَلاَثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِى غَضَبٌ وَلاَ هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ « يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ». فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَلاَثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِىَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِىَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِى بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ. قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي. فَقَالَ مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّى لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِى لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلاَ أَحْسُدُ أَحَداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِىَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ ).
من أعظم فوائد سَلَامة الصَّدر : أنَّها سبيل لدخول الجنَّة، فهي صفة من صفات أهلها، ونعت من نعوتهم، قال تعالى:
{يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشُّعراء:88-89].
– ومن فوائد سَلَامة الصَّدر : أنَّها تكسو صاحبها بحلَّة الخيريَّة، وتلبسه لباس الأفضلية، ففي سنن ابن ماجة (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ « كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ». قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ « هُوَ التَّقِىُّ النَّقِىُّ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْىَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ ».
– ومن فوائد سَلَامة الصَّدر : أنَّها تجمع القلب على الخير والبِرِّ والطَّاعة والصَّلاح، فلا يجد القلب راحة إلا فيها، ولا تقرُّ عين المؤمن إلا بها.
– ومن فوائد سَلَامة الصَّدر : أنَّها تزيل العيوب، وتقطع أسباب الذُّنوب، فمن سَلِم صدره، وطَهُر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظُّنون السَّيئة، عفَّ لسانه وجوارحه عن كلِّ قبيح.
والسؤال : كيف أكون سليم الصدر ؟؟
سلامة الصدر تكون بخلوه من سوء الظن بالمسلمين، ومن الحقد، والحسد، والبغض، والكراهية لهم، وهي راحة للقلب، وطيب في النفس، والأصل في المسلم أن يكون سليم الصدر لإخوانه المسلمين مسامحًا لهم،
وَهُوَ يُثمر طيب النَّفس، وسماحة الْوَجْه، وَإِرَادَة الْخَيْر لكل أحد، والشفقة، والمودة، وَحسن الظَّن، وَيذْهب الشحناء، والبغضاء، والحقد، والحسد، وَلذَلِك ينَال بِهَذِهِ الْخصْلَة مَا ينَال بالصيام، وَالْقِيَام.
وما هي الأسباب المعينة على سلامة الصدر؟؟
من أراد أن يكون سليم الصدر، سليم القلب، فليأخذ بأسباب سلامة الصدر وطهارة القلب، وهذه بعضها: –
التعلق بالله سبحانه وحده دون أحد سواه؛ فهو مصرف القلوب، ومدبر الأمور. – طاعته والاستجابة لأمره؛
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : الإقبال على الله بالتضرع والدعاء وأن تلهج بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى أن يجعل قلبك سليمًا من الغِلِّ والضغينة والحقد والحسد؛
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : إفشاء السلام بين المسلمين: فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ » رواه مسلم .
– ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : الإحسان إلى الفقراء والمحتاجين؛ فقد قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103]
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : إصلاح ذات البَيْن: فلا ينبغي ترك المشاكل تتكاثر، والصراعات تتفاقم، والعداوات تدوم حتى توغر الصدور، وتملأ القلوب حقدًا وكراهية وبغضاءَ؛
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : حسن الظن وحمل الكلمات والمواقف على أحسن المحامل: فإن سوء الظن بالناس مما يغرس الحقد والكراهية في النفوس
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : التماس الأعذار، وإقالة العثرات، والتغاضي عن الزلات: يقول ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء، فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه.
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : محبة الخير للمسلمين: ففي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ »
ومن الأسباب المعينة على سلامة الصدر : الرضا بما قسم الله وقدر: فإن العبد إذا أيقن أن الأرزاق مقسومة مكتوبة رضي بحاله، ولم يجد في قلبه حسدًا لأحد من الناس على خير أعطاه الله إياه؛ روى مسلم في صحيحه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ »
ومِن أسباب سلامة الصدر: اجتناب أسباب التشاحن والتباغض؛ من غضب وحسد، ونميمة وزور، وتنافس على الدنيا؛
أيها المسلمون
وإذا كان الاسلام قد رغب أتباعه في ( سلامة الصدر والقلب ) ، فقد حذرهم مما هو يخالف ذلك ، من امتلاء القلوب بالغل ،والحسد ،والكراهية ، والضغينة ، وروى الترمذي وغيره (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ..)
فالغل والحقد والحسد، وأمراض القلوب، لا يمكن أن تجتمع في قلب يحتوي عليه الإيمان؛ لأن بينهما تضاد وتنافر، فالقلب المفعم بالإيمان، طارد للغل، طارد للحسد، لا يرضى أن يشاركه في ذات المكان، ونفس الظرف، وهذا مصداق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما أخرج النسائي وحسنه الألباني : “ وَلاَ يَجْتَمِعَانِ فِى قَلْبِ عَبْدٍ الإِيمَانُ وَالْحَسَدُ ».
والحاقد والحاسد والكائد ألعوبة في يد الشيطان، وأحبولة يحركه كيف يشاء.
روى مسلم (عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ».
وروى الترمذي بسند صحيح (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَفَ عَلَى أُنَاسٍ جُلُوسٍ فَقَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ ». قَالَ فَسَكَتُوا فَقَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ رَجُلٌ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا. قَالَ«خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ »
فالحقد أينما وجد لا يتمكن إلا من النفوس المنحطة الوضيعة وعند أحقر الطبقات من الناس أما ذووا الهمم العالية والمروءات العظيمة والأخلاق الكريمة فهؤلاء أبعد ما يكونون عن الحقد وتوابعه .
قال الماورديّ رحمه الله: “اعلم أنّ الحسد خلق ذميم، مع إضراره بالبدن، وإفساده للدّين، حتّى لقد أمر الله بالاستعاذة من شرّه، فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ ﴾ [الفلق، 5]. وحسبُك بذلك شرّا، ولو لم يكن من ذمّ الحسد إلّا أنّه خلق دنيء، يتوجّه نحو الأكفاء والأقارب، ويختصّ بالمخالط والصاحب، لكانت النزاهة عنه كرما، والسلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنّفس مضرّ، وعلى الهمّ مصرّ، حتّى ربّما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدوّ، ولا إضرار بمحسود”.
وقال بعض الحكماء: ما أمْحَقُ للإيمان، ولا أهتكُ للستر من الحسد؛ وذلك أن الحاسد مُعانِد لحكم الله، باغٍ على عباده، عاتٍ على ربه، يعتدُّ نِعَم الله نِقَمًا، ومزيده غِيَرًا، وعدلَ قضائِه حيفا، للناس حالٌ وله حال، ليس يَهدأ، ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه، محتقرٌ لنِعَم الله عليه، متسخِّط ما جرت به أقداره، لا يبرد غليله، ولا تُؤمَن غوائله، إن سالمته وَتَرَك، وإن واصلته قَطَعَك، وإن صَرَمته سبقك.
الحسد داء يَقتل صاحبه: فصدر الحَسود يَضيق، وقلبه يتفطّر ألماً إذا رأى نعمة الله على أخيه، فيُعاني من البؤس، مما لا يستطيع معه أن يبث ما يجده من الحزن والقلق، ولا يقدر على الشكوى إلا إلى الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء، أو مَن هو على شاكلته في الحسد.
فالحَسُود مُعَذب؛ لا ينقطع غمه، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن ثائرته، ساخط على ربه وعلى الناس، معذب النفس، منغص البال، دائم الهم، فقاتلَ الله الحسود، لا يفعل الخير ولا يحبه لإخوانه، غاية أمنيته زوال نعمة الله عن عباده.
=============================================
2- من أخلاق المسلم : خلق ( الرحمة ، والرفق ، واللين )
في الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ» قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».
وروى البخاري في صحيحه ، قال صلى الله عليه وسلم : ” الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ”
وعن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ” (رواه البخاري)،
وقال صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة الذين أخبر عنهم بقوله: “أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ”(رواه مسلم)
وقالت عائشة – رضي الله عنها -: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أتُقبِّلون الصبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((أَوَأَمْلِكُ لكَ أن نَزَعَ اللهُ الرحمةَ مِنْ قَلْبِكَ))؛ رواه البخاري.
وأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ » متفق عليه.
وفي صحيح مسلم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ.
وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِى ». وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ – فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِى أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ.
ومعنى الرحمة : فهي: رِقَّةُ القلب ، والشفقة والحنو والعطف على النفس، والآخرين
فالمؤمنة أو المؤمن يتميز كل منهما بقلب مرهف، ليِّن رحيم، يلقى الناس جميعًا، فيرِقُّ للضعيف، ويتألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمدُّ يده للملهوف، موقنًا أن رحمة الله لا تناله إلا برحمة الناس؛ « إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ » رواه البخاري.
والرحمة في الإسلام لا تقتصر على البشر، بل تتجاوزه إلى نطاق الرحمة بالبهائم، فقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الجنة فُتحت أبوابها لامرأة بَغِي سقت كلبًا بخُفِّها، فغفر الله لها، وأن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت.
وعلى هذا النهج التربوي النبوي سار الصحابة الكرام، فكانوا أبرارًا رحماءَ، لا فُجارًا ألِدَّاء؛ قال تعالى ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]،
فها هو أبو الدرداء – رضي الله عنه – الذي امتلأ قلبه رحمة ورقة، يقف أمام بعيره عند موته، فيقول له: يا أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أُحمِّلك فوق طاقتك.
إنها صِبغة الإسلام وتربية خير الأنام؛ حيث سجَّلَ التاريخ لنا مشاهد رائعة من هذه الرحمة الندية، قاد المسلمون من خلالها العالم إلى المحبة والوئام، وحققوا السعادة والسلام، وأناروا حياتهم بمآثر الإحسان. وإن الذي يتجرَّد من الرحمة، فهو في عداد الأشقياء، يستحق سخط الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقي))؛ رواه الترمذي.
أخي الحبيب أين نحن من هذا الخلق وما هو نصيبه من حياتنا ولنتسأل عنه في واقعنا ومعاشنا : فهل نحن رحماء مع آبائنا وأمهاتنا والله عز وجل يقول :
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }الإسراء24,
وأين نحن من رحمة أبنائنا وبناتنا وأزواجنا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ »
وأين نحن من رحمة الضعفاء والمساكين من خدم وفقراء وغيرهم والله عز وجل يقول { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10)} سورة الضحى ,
فهذه دعوة لأن نلين قلوبنا ولأن نكون محبوبين ولأن نكون حريصين على نفع الآخرين ولأجل أن يكون المجتمع متحاباً مترابطاً بعيداً عن كل شقاء وعناء .
إخوة الاسلام
من صور الرحمة في حياتنا : شفقة الإمام برعيته، وتجنب ما من شأنه أن يجلب المشقة عليهم: – عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَعْتَمَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فَقَالَ « إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى ». وَفِى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ « لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى ». رواه مسلم
– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ » رواه البخاري ومسلم
ومن صور الرحمة بالنفس : التوسط في العبادات وترك ما يشق على النفس: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ « مَنْ هَذِهِ » . قَالَتْ فُلاَنَةُ . تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا . قَالَ « مَهْ ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا » . وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ) رواه البخاري
ومن صور الرحمة: بر الوالدين.. وخفض جناح الذُّل من الرَّحْمَة لهما: – عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا » . قَالَ ثُمَّ أَىُّ قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ » . قَالَ ثُمَّ أَيّ قَالَ « الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » رواه البخاري ومسلم
ومن صور الرحمة: الوصية بالمرأة خيرًا والإحسان إليها ،الشفقة على الأبناء، والعطف والحزن عليهم، إذا أصابهم مكروه: عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ » رواه البخاري
ومن صور الرحمة المشرقة في دين الإسلام: الرحمة بالضعفاء والفقراء. فمن شعائر الإسلام العظيمة: إطعام الطعام، والإحسان إلى الفقراء والأرامل والأيتام، طلبًا لرحمة الله الملك العلام. روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ».
فالذي يطعم الأرملة ويدخل السرور عليها ويرحم بُعد زوجها عنها، حين يكون لها كزوجها إحسانًا وحنانًا؛ كالصائم الذي لا يفطر من صيامه. والقائم الذي لا يفتر من قيامه. فهنيئًا ثم هنيئًا لأمثال هؤلاء الرحماء.
وأخرج البخاري في صحيحه عن سَهْل بْن سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى.
وأخرج الإمام أحمد والبيهقي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ: « إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ ».
ومن صور الرحمة: الرحمة بالحيوان وعدم إخافته أو إجهاده أو إجاعته: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خِشَاشِ الأَرْضِ » رواه البخاري ومسلم
أما عن جزاء الراحمين عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) رواه الترمذي
والراحمون تألفهم القلوب ، وتأنس بهم ، وهم محبوبون من الناس ، ومقربون منهم ، وتشملهم رحمة الله وحفظه ورعايته أينما كانوا ، فيفرج كروبهم ، ويزيل همومهم
أيها المسلمون
وكما أمر الاسلام بخلق الرحمة ، فقد حذر من القسوة والشدة في غير موضعها ،
فحين تنعدم من القلوب الرحمة وتحل القسوة بدلا منها فإنها تصبح مثل الحجارة أو أشد قسوة، وقد ذمَّ الله ـ عز وجل ـ أقواماً وصلوا إلى تلك الحالة من القسوة وانعدام الرحمة، فقال تعالى عن بني إسرائيل:
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } (البقرة من الآية: 74) .
وقسوة القلب تعني البعد عن الله، وتؤدي إلى الشقاء، قال الله تعالى:
{ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } (الزمر الآية: 22)،
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي ».رواه الترمذي .
قال ابن القيم: ” ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله ” .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: « لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ » رواه الترمذي وحسنه الألباني .
قال الطيبي: ” لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرقة شقي ” .
وقال القرطبي: ” الرحمة رقة وحنوّ يجده الإنسان في نفسه عند رؤية مُبْتَلَى أو صغيرٍ أو ضعيف، يحمله على الإحسان إليه، واللطف والرفق به، والسعي في كشف ما به ..
فمن خلق اللّه في قلبه هذه الرحمة الحاملة على الرفق وكشف ضرر المُبتلى، فقد رحمه اللّه بذلك في الجنان، وجعل ذلك على رحمته إياه في المآل،
ومن سلبه ذلك المعنى وابتلاه بنقيضه من القسوة والغلظة، ولم يلطف بضعيف، ولا أشفق على مُبتلى، فقد أشقاه حالاً وجعل ذلك علماً على شقوته مآلاً، نعوذ باللّه من ذلك ”
==========================================
3- من أخلاق المسلم : خلق ( الإيثار )
يقول الله تعالى في محكم آياته في وصف عباده المؤمنين :
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) الحشر:9 .
وقَالَ تَعَالَى في وصف الكافرين(فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات 36 :39،
ومعنى الإيثار : هو تقديم الإنسان غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا ابتغاء ثواب الآخرة،
فالإيثار هو أعلى درجات المعاملة مع الناس، فيجلب حبّهم، ويطرد غضبهم، ويُذهِب حسدهم، فضلاً عما يجده صاحب الإيثار من الثواب الكبير والأجر العظيم والخير العَمِيم في الدنيا والآخرة
والإِيثَارِ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الأَشْيَاءِ المَادِّيَّةِ، بَلْ الإِيثَارُ أَنْوَاعٌ ودَرَجَاتٌ، وأَعلَى دَرَجَاتِ الإِيثَارِ هُوَ إِيثَارُ مَرْضَاةِ اللهِ عَلَى أَهْوَاءِ النَّفْسِ ورَغَبَاتِها،
وللإيثار مكـانـة عظيمة ، ومنزلة كبيرة فهو دليل على كمال الإيمان ، وحسن الإسلام ورفعة الأخلاق ، وهو طريق إلى محبة الرب سبحانه، وحصول الألفة بين الناس وطريق لجلب البركة والوقاية من الشُّحِّ
وأعظم نموذج في الإيثار هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو سيدُ المؤثرين وقائدُهم وقدوتهم . فلم يكن صلى الله عليه وسلم يستأثر بشيء دون أصحابه، بل كان يشاركهم في طعامه وشرابه، وربما منع نفسه وأهله ليعطي السائل والمحروم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلاَهُ، وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالاً فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ».
وأخرج الترمذي في سننه عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ مِنْهَا»؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا. قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا، غَيْرَ كَتِفِهَا»
وروى البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ فَقَالَ القَوْمُ: هِيَ الشَّمْلَةُ، فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: «نَعَمْ» فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَمَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا. و(البردة) الشملة، وهي كِساء يُشتمَل به، والاشتمال إدارة الثوب على الجسد كله.
أما عن ايثار الصحابة رضوان الله عليهم: فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ – وهم قبيلة من اليمن – إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».
وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
إيثار الأنصار: ومن تأمل حال الأنصار رأى صورة من الإيثار يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن التعبير عنها البيان، كيف لا، وقد قال الله تعالى في حقهم:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ…
إيثار عائشة رضي الله عنها : فلما طُعِنَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ: ” يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ، ثُمَّ سَلْهَا، أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ،
قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلَأُوثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ، قَالَ: لَهُ مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: ” مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ المَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي، فَادْفِنُونِي، وَإِلَّا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ المُسْلِمِين…”. أخرجه البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي.
إيثار أرملة: روى مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ ».
فمن مجالات الايثار : الإيثار مع الخلق: بحب الخير للآخَرين، وتطهير النفس من كل أنانية وكراهية وشحناء، حين يستشعر العبد معنى الأخوة التي تربطه بكل مسلم مِن حَوله. فإن شرّ ما يصيب المجتمع هو التفكك وضعف الروابط بين أبنائه، وذلك بغلبة الأنانية على أنفسهم، عندما يذكر المرء نفسه، وينسى أخاه، عندما يقول كل واحد: نفسي نفسي. عندما يقول كل فرد فيه: لي، ولا يقول: علي. عندما تعظُم الأنانية في نفسه على حساب غيره، فليعلم كل منا أنه مسئول عن غيره كما قال صلي الله عليه وسلم عن أصحاب الأنانية والأثرة (كم من جارٍ متعلّق بجاره يقول: يا ربّ، سل هذا: لِمَ أغْلق عنّي بابَه، ومنعني فضله؟) الألباني في السلْسلة
ومن مجالات الايثار الصدقة التي يؤثر بها المرء غيره وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)).
درجات الإيثار: لقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يخْرُمُ عليك دِينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يُفسد عليك وقتًا، يعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم،
مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.
الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن ، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق،
من فوائد الإيثار: لو لم يكن من فوائده إلا أنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام ورفعة الأخلاق لكفى، فكيف وهو طريق إلى محبة الرب سبحانه، وحصول الألفة بين الناس وطريق لجلب البركة ووقاية من الشُّحِّ ؟.
أيها المسلمون
وكما رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلق الايثار فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خلق الطمع أشد التحذير فقال كما في مسلم : (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِى لاَ زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً وَالْخَائِنُ الَّذِى لاَ يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِى إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ » وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله ” وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ ” مسلم .
والطمع يمحق البركة ويشعر النفس بحالة الفقر الدائم، ففي الصحيحين (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ قَالَ « هَذَا الْمَالُ – وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ – إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى »
وكان السلف يرون أن الطمع يُذهب بركة العلم، فقد اجتمع كعب وعبد الله بن سلام، فقال كعب: يا بن سلام: مَن أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به. قال: فما أذهب العلمَ عن قلوب العلماء بعد أن علموه؟ قال: الطمع، وشَرَه النفس، وطلب الحوائج إلى الناس ،ومن كان ذا طمع مسيطر على قلبه فإن الذل قرينه؛ لأنه يبذل عرضه في سبيل تحقيق ما هو ته نفسه وطمع فيه قلبه؛
ولو لم يكن في الطمع إلا تضيع العمر الشريف الذي يمكن أن يشتري به صاحبه الدرجات العلى والنعيم المقيم، في طلب رزق قد تكفل الله به لكفى بذلك زجرًا، فكيف وفي الطمع التعب الدائم وتحقير النفس وإذلالها، ونقص الثقة بالله عز وجل مع شعور صاحبه بفقر دائم ، فقدر روى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ..)
=======================================
4- من أخلاق المسلم : خلق ( التواضع ، ولين الجانب )
قال الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) القصص 83
وقال تعالى مخاطبا رسوله محمدا ” وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” (الشعراء: 215)
وروى مسلم في صحيحه « وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ » وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي والبيهقي وابن ماجه:
( عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِى مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »
يقول ابن الأثير : أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين
ومعنى التواضع : هو خفض الجناح ولين الجانب”. والبُعد عن الاغترار بالنفس؛
حيث قالوا إنّ التواضع هو اللين مع الخلق والخضوع للحق وخفض الجناح
عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ }
والتواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
والتواضع منه المحمود ومنه المذموم : فأما المحمود فيكوون بترك التطاول على عباد الله وظلمهم وخفض الجناح لهم وعدم التكبر ولا البغي عليهم
اما التواضع المذموم :فيكوون تواضع المرء للدنيا رغبة في دنياه وأيضا يكون بترك الانسان حقوقه وظلمه لنفسه ،فالإنسان العاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
والتواضع خلق محمود يدل على طهارة النفس، ويدعو إلى المودة والمحبة والمساواة بين الناس، وينشر الترابط بينهم، ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس، وفوق هذا كله فإن التواضع يؤدي إلى رضا المولى -سبحانه-. قال الله تعالى : ” وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ” (الفرقان: 63)
وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتخلق بهذا الخلق فقال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الحجر 88
وقال سبحانه : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء 215.
والتواضع خلق محبب لربكم ولذلك ربى عليه الحق تبارك وتعالى أنبياءه فخاطب حبيبنا ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم آمراً له بالتواضع بقوله:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } الحجر 88
وربى عليه موسى عليه السلام يوم أن قال أنه أعلم أهل الأرض ، ففي البخاري
« قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِى إِسْرَائِيلَ ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ . فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ )
وربى عليه سليمان عليه السلام الذي أوتي من الملك مالم يؤته أحد من العالمين فجاءه الهدهد وهو طائر صغير في مملكته ليقول له: {..أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) (النمل 22)
وهذه نماذج مِن تواضع الصَّحابة رضوان الله عليهم : فاقتداءً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كان صحابته رضوان الله عليهم يقومون بما كان يقوم به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الأعمال الجليلة والخُلُق الكريم مِن التَّواضُع وخفض الجناح.
(فكان أبوبكر رضي الله عنه يحلب الشَّاة لجيرانه، وكان عمر رضي الله عنه يحمل قربة الماء، وكان عثمان رضي الله عنه وهو يومئذ خليفة – يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصباء في جنبه، وكان عليٌّ رضي الله عنه يحمل التَّمر في ملحفة ويرفض أن يحمله عنه غيره، وكان أبو الدَّرداء ينفخ النَّار تحت القِدْر حتى تسيل دموعه.
وصفوة القول إنَّهم رضي الله عنهم ساروا على نهج الرَّسول الكريم، فلم يستكبر منهم أحدٌ، أو يستنكف عن القيام بتلك الأعمال اليسيرة النَّافعة مهما عَظُمَت مكانة الواحد منهم)
ومن تواضع الصِّدِّيق رضي الله عنه: – (لما استُخلف أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السُّوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلمَّا بُويَع قالت جارية مِن الحي: الآن لا يحلب لنا. فقال: بلى لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألَّا يغيِّرني ما دخلت فيه) .
– وكان يقول: (وددت أنِّي شعرة في جنب عبد مؤمن) ، قال هذا وهو مِن المبشَّرين بالجنَّة، وهو الصِّدِّيق العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته مِن بعده!!
ومن تواضع عمر رضي الله عنه: – عن طارق بن شهاب، قال: (خرج عمر بن الخطَّاب إلى الشَّام ومعنا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأَتَوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفَّيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أنت تفعل هذا، تخلع خفَّيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك. فقال عمر: أوَّه، لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله) .
– عن أبي محذورة قال: (كنت جالسًا عند عمر رضي الله عنه، إذ جاء صفوان بن أميَّة بجَفْنَة يحملها نفرٌ في عباءة، فوضعوها بين يدي عمر، فدعا عمر ناسًا مساكين وأرقَّاء مِن أرقَّاء النَّاس حوله، فأكلوا معه، ثمَّ قال عند ذلك: فعل الله بقوم، أو قال: لحى الله قومًا يرغبون عن أرقَّائهم أن يأكلوا معهم!! فقال صفوان: أما والله، ما نرغب عنهم، ولكنَّا نستأثر عليهم، لا نجد والله مِن الطَّعام الطَّيِّب ما نأكل ونطعمهم) .
– وعن عروة بن الزُّبير رضي الله عنهما قال: (رأيت عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دَخَلَت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها) .
ومن تواضع عثمان رضي الله عنه: قال الحسن: (رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه، فنقول: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين)
عن ميمون بن مهران قال: (أخبرني الهمدانيُّ أنَّه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة) .
ومن تواضع الامام علي رضي الله عنه: – عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل منهم قال: (رُئِي على علي بن أبي طالب إزارٌ مرقوعٌ، فقيل له: تلبس المرقوع؟! فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب)
– (وأنَّه رضي الله عنه قد اشترى لحمًا بدرهم، فحمله في ملحفته، فقيل له: نحمل عنك يا أمير المؤمنين. فقال: لا، أبو العيال أحقُّ أن يحمل) .
ومن تواضع عبد الله بن سلام رضي الله عنه: – مرَّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه في السُّوق وعليه حزمة مِن حطب، فقيل له: أليس الله قد أعفاك عن هذا؟! قال: بلى، ولكن أردتُ أن أدفع به الكِبْر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنَّة مَن كان في قلبه مثقال حبَّة مِن خردلٍ مِن كِبْر))
ومن فوائد التَّواضُع :
1- أنَّ التَّواضُع يرفع المرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا .
2- التَّواضُع يؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له .
3- التَّواضُع هو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب .
4- يكفي المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه .
5- التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة
6- التَّواضُع يُكْسِب السَّلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويُذْهِب الصَّد .
7- ثمرة التَّواضُع المحبَّة، كما أنَّ ثمرة القناعة الرَّاحة، وإنَّ تواضع الشَّريف يزيد في شرفه، كما أنَّ تكبُّر الوضيع يزيد في ضِعَتِه .
8- التَّواضُع يؤلِّف القلوب، ويفتح مغاليقها، ويجعل صاحبه جليل القدر، رفيع المكانة.
أما عن جزاء المتواضعين : من تواضع لله رفعه الله في الآخرة ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ».
والتواضع يجلب حب واحترام الناس في الدنيا وتقديرهم له
والتواضع…تاج المروءة..!!………وأحب الخلق إلى الله المتواضعون.!!
ودخول المتواضع الجنة خالد فيها وما اعظمه من جزاء
أيها المسلمون
وكما رغب الاسلام في خلق التواضع فقد حذر من خلق الكبر والغرور والبطر والتعالي على خلق الله ، ففي مسند أحمد أنه (صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى فِي حُلَّةٍ لَهُ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ».
وفي يوم القيامة يُعاقَب بالذل والصَّغار، ويُحرَم من الجنة، روى الترمذي (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ » وقال تعالى:
﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]،
قال المفسرون: أي: لا تُمِل خدَّك مُعرِضًا ومتكبِّرًا، والمرح: الخيلاء والفخر،
وروى مسلم (حَدَّثَنِى إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشِمَالِهِ فَقَالَ « كُلْ بِيَمِينِكَ ». قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ « لاَ اسْتَطَعْتَ ». مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ.
قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ.
=====================================
5- من أخلاق المسلم : خلق ( الحياء )
روى البخاري ومسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ
« الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ »
وروى البخاري في صحيحه (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ »
وفي البخاري عن (عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ ،قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ »
وفي سنن أبي داود قال (صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ».
فالحَيَاءُ خُلُقٌ رَفِيعٌ يَمنَعُ الإِنسَانَ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالأَخلَاقِ السَّيِّئَةِ، وَالأَقوَالِ وَالأَفعَالِ القَبِيحَةِ. والحَيَاءُ هُوَ أَسَاسُ مَكَارِمِ الأَخلَاقِ، وَمَنبَعُ كُلِّ فَضِيلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ القَولُ الطَّيِّبُ، وَالفِعلُ الحَسَنُ.
والحَيَاءُ دَلِيلُ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَسِمَةُ الصَّلَاحِ الشَّامِلِ، وَعُنوَانُ الفَلَاحِ الكَامِلِ.
والحياء خلق يبعث على فعل كل مليح وترك كل قبيح، فهو من صفات النفس المحمودة.. وهو رأس مكارم الأخلاق، وزينة الإيمان، وشعار الإسلام؛ كما في سنن ابن ماجه (عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ ». فالحياء دليل على الخير، وهو المخُبْر عن السلامة، والمجير من الذم.
ومعنى الحَيَاءُ شَرعًا: فهو خُلُقٌ يَكُفُّ العَبدَ عَنِ ارتِكَابِ القَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى فِعلِ الجَمِيلِ، وَيَمنَعُهُ مِنَ التَّقصِيرِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الحَقِّ، وَهُوَ مِن أَعلَى مَوَاهِبِ اللَّهِ لِلعَبدِ.
أيها المسلمون
وقد قسم بعضهم الحياء إلى أنواع، ومنها: الحياء من الله. والحياء من الملائكة. والحياء من الناس. والحياء من النفس.
أما الحياء من الله: فَمِنْ وَقَارِ اللَّهِ: أَنْ يَسْتَحِيَ العَبْدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى «فِي الخَلوَةِ، أَعظَمَ مِمَّا يَستَحِي مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ» . فَإِنَّ مَنْ عَلِـمَ أَنَّ اللَّـهَ يَـرَاهُ حَيثُ كَانَ، وَأَنَّـهُ مُطَّلِعٌ عَلَـى بَاطِنِـهِ وَظَاهِرِهِ وَسِـرِّهِ وَعَلَانِـيَتِـهِ، وَاستَـحضَـرَ ذَلِكَ فِـي خَلَوَاتِـهِ، أَوجَبَ لَـهُ ذَلِكَ تَـركَ الـمَعَاصِـي فِـي السِّـرِّ. وَروى الترمذي وغيره عَن مُعَاوِيَةَ بنِ حَيدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، عَورَاتُنَا مَـا نَأتِي مِنْهَا وَمَـا نَذَرُ؟ قَالَ: «احفَظْ عَورَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوجَتِكَ، أَو مَـا مَلَكَت يَمِيـنُكَ» قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِذَا كَانَ القَومُ بَعضُهُـم فِـي بَعضٍ؟ قَالَ: «إِنِ استَطَعتَ أَن لَا يَـرَيَنَّـهَا أَحَدٌ، فَلَا يَـرَيَنَّـهَا» قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِـيًا؟ قَالَ: «اللَّـهُ أَحَقُّ أَنْ يُستَـحيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» .
فَقَد أَمَرَ النَّبِـيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم الرَّجُلَ: أَن يَستُـرَ عَورَتَـهُ، وَإِن كَانَ خَالِيًا لَا يَـرَاهُ أَحَدٌ، تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاستِحيَاءً مِنهُ؛ فَكَيفَ يَنبَغِي أَن يَكُونَ حَيَاءُ الإِنسَانِ مِنهُ تَعَالَى، إِذَا رَآهُ حَيثُ نَهَاهُ؟!
وفي سنن الترمذي وغيره (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ». قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ « لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ »
ومن فَضَائِلُ الحَيَاءِ : أَوَّلًا: أن الحَيَاء مِفتَاحُ كُلِّ خَيرٍ: ففي صحيح مسلم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «الـحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» قَالَ: أَوْ قَالَ: «الـحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»
ثَانِيًا: الحَيَاءُ إِيمَانٌ: ففي الأدب المفرد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «الـحَيَاءُ وَالإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ» .
وأما ثَالِثًها: فالحَيَاءُ أَبهَى زِينَةٍ للمرء: سنن ابن ماجه (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ شَانَهُ وَلاَ كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ ».ومعنى شَانَهُ أي َعَابَهُ وَقَبَّحَهُ، وَجَرَّ إِلَيهِ العَيْبَ وَالقُبْحَ.
رَابِعًا: الحَيَاءُ خُلُقٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فقد روى ابن ماجه وغيره (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلأَشَجِّ الْعَصَرِيِّ « إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمَ وَالْحَيَاءَ ».
وفي سنن النسائي (عَنْ يَعْلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ »
خَامِسًا: الحَيَاءُ يَقُودُ إِلَى الجَنَّةِ: فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ؛ وَالبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ» .
سَادِسًا: الحَيَاءُ خُلُقُ الإِسلَامِ: وفي سنن ابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلَامِ الْـحَيَاءُ» .
وَمَعنَاهُ: أَنَّ كُلَّ دِينٍ لَهُ طَبعٌ وَسَجِيَّةٌ؛ وَإِنَّ طَبعَ هَذَا الدِّينِ، وَسَجِيَّتَهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ: الحَيَاءُ
ومن صور الحياء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ
« خُذي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ
« تَطَهَّرِي بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ قَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي » .
وقد استحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان رضي الله عنه كما في صحيح مسلم (عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَوَّى ثِيَابَهُ – قَالَ مُحَمَّدٌ وَلاَ أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ – فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ « أَلاَ أَسْتَحِى مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِى مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ ».
ومن الأمثلة الصادقة على حياء النساء المؤمنات: ما رواه البخاري في صحيحه (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ)
ومن فوائد وثمرات الحياء : فللحياء ثمرات وفضائل كبيرة تعود على صاحبها ومن ذلك:
هجرة المعصية والتقرّب من الله بالإقبال على الطاعات والعبادات.
من استحى من الله ستره في الدنيا والآخرة ويبعده عن كلّ ما يذمّه.
أنه من الإيمان ومن صفات المتقين الأبرار ومن العفة والوفاء.
يكسب صاحب الوقار فلا يفعل إلا الخير ولا يؤذي غيره ويمتنع به عن الفواحش.
يجعل صاحبه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وبذلك الأجر الكبير والفضل العظيم له وللأمة.
نيل محبة الله ومحبة العباد ويكسب صاحبه التواضع والسكينة.
رؤية العبد نعم الله عليه وعلو الهمة وشرف النفس.
صيانة العرض والتسامح بين الناس والتحلّي بمكارم الأخلاق.
سراج منيع وحصن حصين من الوقوع في المعاصي والمنكرات.
أيها المسلمون
وكما رغب الاسلام في خلق الحياء فقد حذر من رفع الحياء أو انعدامه
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن قَلَّ حَيَاؤُه قَلَّ وَرَعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ).
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (لَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ).
مِن مظاهر قلَّة الحَيَاء
– المجاهرة بالذُّنوب والمعاصي وعدم الخوف مِن الله.
– لبس النِّساء الكاسيات العاريات الملابس التي تصف الأجسام، أو الضَّيِّقة أو المفتوحة مِن الأعلى والأسفل.
– حديث المرأة مع الرَّجل الأجنبي عند خروجها واختلاطها به.
– التَّلفُّظ والتَّفوُّه بالألفاظ البذيئة والسَّيِّئة التي تجرح الآخرين.
– كلام الرَّجل مع غيره بالأسرار الزَّوجية والأمور الخاصَّة التي تحصل بينه وبين زوجته.
– كشف العورات و عدم سترها.
فأين الحياء ممن يشتري الأفلام الخليعة، ويعرضها في بيته أمام نسائه وأولاده بما فيها من مناظر الفجور وقتل الأخلاق، وإثارة الشهوة، والدعوة إلى الفحشاء والمنكر؟!.
أين الحياء ممن ضيعوا أولادهم في الشوارع يخالطون من شاؤوا ويصاحبون ما هب ودب من ذوي الأخلاق السيئة، أو يضايقون الناس في طرقاتهم ويقفون بسياراتهم في وسط الشارع؛ حتى يمنعوا المارة،
أين الحياء من المدخن الذي ينفث الدخان الخبيث من فمه في وجود جلسائه ومن حوله، فيخنق أنفاسهم
أين الحياء من التاجر الذي يخدع الزبائن، ويغش السلع، وبكذب على الناس؟
إن الذي حمل هؤلاء على النزول إلى هذه المستويات الهابطة هو ذهاب الحياء ، وفي مسند أحمد (قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ».
====================================
6- من أخلاق المسلم : خلق ( الخوف والرجاء والخشية من الله )
قال الله تعالى في محكم آياته ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ السجدة 16
وقال سبحانه ﴿ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ الانبياء 90
وروى الترمذي في سننه وابن ماجه (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ « كَيْفَ تَجِدُكَ ». قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ ». صححه الألباني
والخوف من الله ، ورجاء رحمته ، من أخلاق المؤمنين الموحدين ، وهما للمؤمن كالجناحيْن بالنِّسبة للطائر، لكنَّه يطير بهما في سماء التعبُّد لربِّه – عزَّ وجلَّ –
ولابدَّ من تَحقيق التَّكافؤ والتَّوازُن بين الخوْف والرَّجاء؛ حتَّى تستقيمَ حياة المؤمن في الدُّنيا، ويفوز بالنَّعيم في الآخرة؛ إذ إنَّ تغليب الخوف دون حاجةٍ إليْه يُفضي إلى القنوط ، كما أنَّ تغليب الرَّجاء دون حاجة إليه يُفضي إلى الأمن المؤدِّي إلى التفريط.
ومعنى الخوف كما عرَّفه العلماءُ: هو توقُّع مكروه عن أَمارةٍ مظنونةٍ أو معلومةٍ ، والخوف المحمود: ما حجزكَ عنْ محارمِ اللهِ؛
أما الرَّجاءُ فقد عَرَّفهُ أهلُ العلمِ: بأنه حادٍ يحدو القلوبَ إلى بلاد المحبوبِ، وهو اللهُ والدَّارُ الآخرةِ، ويطيب لها السير،
وقيل: هو الاستبشارُ بجودِ وفضلِ الرَّبِّ تباركَ وتعالى، والارتياحِ لمطالعةِ كرمهِ سبحانهُ، وهو فرضٌ لازمٌ على كُلِّ مسلمٍ .
وقد تخلق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم ، فقد روى الترمذي في سننه (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ. قَالَ « شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلاَتُ وَ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) وَ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ». وفي البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم (فَوَ اللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً » ،
وفي سنن الترمذي وغيره (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ »
أما الصحابة رضوان الله عليهم فخوفهم من جلال ربهم عظيم،
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: [يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل]
وكان رضي الله عنه يقول: [وددت أن أقدم على الله يوم القيامة لا لي ولا علي].
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان رضي الله عنه يسمع الآية فيمرض فيعاد أياماً، وقرأ ذات يوم في صلاة الفجر: قوله تعالى ( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) [المدثر:8] فبكى ونشج نشيجاً عجيباً فعاده الصحابة أياماً في بيته
من شدة ما أصابه من خشية الله وخوفه، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
ويقول علي بن أبي طالب : [والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعز، قد باتوا لله سجداً وقياماً يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، إذا طال القيام سجدوا، وإذا طال السجود قاموا، فإذا أصبحوا فذكروا الله عز وجل مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين].
وكان أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه يقول:
[وددت أن كنت كبشاً فذبحني أهلي فأكلوا لحمي وحسوا مرقي]
وقال عمران بن حصين : [يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح].
ومن ثمراتُ الخوفِ:
1- أنه مِنْ أسبابِ التَّمكينِ في الأرضِ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13-14].
2- أنه باعثٌ على العملِ الصالحِ والإخلاصِ فيه وعدمِ طلب المقابلِ في الدُّنيا؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9-10]،
قال تعالى:﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36-37].
3-أن يكونَ الإنسانُ في ظلِ العرشِ يوم القيامةِ؛ فقد جاءَ في حديثِ السبعةِ الذين يظلهم الله بظله يوم القيامةِ: ( وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهِ ).
4- الأمانُ في الآخرةِ؛ فقدْ ثبتَ في الحديثِ القدسيِّ: يقولُ اللهُ عَزَّ وجلَّ: ( وَعزتي لا أجمعُ على عبدي خَوفينِ ولا أجمعُ له أَمْنينِ، إذا أَمِننِي في الدُّنيا أَخَفْتُه يومَ القيامةِ، وإذا خَافَنِي في الدُّنيا أَمَّنْتُهُ يومَ القيامةِ ) صحيح ابن حبان .
5- النَّجاةُ في الدُّنيا والآخرةِ ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثٌ مُهْلِكاتٌ وثلاثٌ منْجِياتٌ، فقالَ: ثلاثٌ مُهْلِكاتٌ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهَوًى مُتَّبِعٌ، وإعْجابُ المَرءِ بِنَفْسِهِ، وثلاثٌ منْجِياتٌ: خَشْيَةُ الله في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، والقَصْدُ في الفَقْرِ والغِنَى، والعَدْلُ في الغَضَبِ والرِّضا ) الطبراني .
ومن ثمراتُ الرَّجاءِ:
1- يُورثُ طريقَ المجاهدةِ بالأعمالِ.
2- يُورثُ المواظبةَ على الطاعاتِ كيفما تقلَّبت الأحوالُ.
3- يُشعرُ العبدَ بالتَّلذُّذِ والمداومةِ على الإقبالِ على اللهِ والتَّنعّمُ بمناجاتهِ والتَّلطفُ في سؤالهِ والإلحاح عليهِ.
4- أنْ تظهرَ العبوديةُ من قبلِ العبدِ، والفاقةِ والحاجةِ للرَّبِّ، وأنه لا يَستغني عن فضلهِ وإحسانهِ طرفةَ عينٍ.
5- التَّخلُّصُ منْ غضبِ الرَّبِّ؛ ذلكَ بأَنَّ اللهَ يحبُّ منْ عبادهِ أنْ يسألوه ويرجوه ويُلحُّوا عليه؛ لأَنَّهُ جَوادٌ كريمٌ، أجودُ من سُئِل؛ ومنْ لا يسألِ اللهَ يغضبُ عليه، والسائلُ عادةً يكونُ راجيًا مطالبَ أن يُعطى؛ فمنْ لم يرج اللهَ يغضب عليه .
أيها المسلمون
الإنسان المسلم الواعي الفاهم لدينه، يعيش حياة الوسطية والتوازن والاعتدال في كل أموره حتى في سلوكه وعبادته وصلته بربه عز وجل، يمتلئ قلبه حبا لخالقه ورغبة فيما عنده وخوفا من غضبه وأليم عقابه، وتسلك نفسه طريقاً معتدلاً بين الخوف والرجاء، فلا يظل في خوف دائم فتبقى حياته قلقة ونفسه بائسة يائسة، ولا في رجاء أبدا فيكون منه التفريط، ولكنه بين الخوف والرجاء، بين الرغبة والرهبة
قال الله تعالى 🙁 نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (49) ،(50) الحجر
فكما أن هناك عذابا، فهناك أيضا رحمة، ولذا لا بد أن يكون الإنسان راهبا أي خائفا من العذاب راغبا أي راجيا ومؤملا في رحمة الله العزيز الوهاب.
=========================================
7- من أخلاق المسلم : خلق ( الستر )
روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »
وفي سنن النسائي والبيهقي وأبي داود واللفظ له (قَالَ -صلى الله عليه وسلم-
« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ».
والستر : هو إخفاء ما يظهر من زلات الناس وعيوبهم، وعدم فضحهم.
فالستر هو ستر العورات، وستر العثرات، وكتمان الخطايا وعدم نشر الزلات،
وإن من الستر ، أن يستر الإنسان على عيوبه ومعاصيه، فلا يجاهر ولا يفاخر بها،
فقد روى البخاري في صحيحه أنه (صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ
« كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ »
فما أجملَ الستر! وما أعظم بركتَه! وما أبهى حُلَّته!
فالستر خُلُق الأنبياء، وسيما الصَّالحين، يورث المحبة، ويُثمر حسن الظَّن، ويُطفئ نارَ الفساد.
وقد وصف الرَّحمن نفسه به، فهو سبحانه ستِّير يستُر كثيرًا، ويحبُّ أهل السَّتر؛
ففي الحديث الصحيح يقول النبي – صلى الله عليه وسلَّم -:
(إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والستر))؛ رواه أبو داود والنَّسائي.
وقد أقرَّ الإسلامُ بهذا الخلق الكريم، وحضَّ عليه ، وكافأ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم
( وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ )؛ أخرجه مسلم.
وفي صحيح البخاري (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
« بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلاَ تَسْرِقُوا ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ،
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ »
وقد كان سلفنا الصالح يحرصون على ستر العصاة، وقد ظهر ذلك في أقوالهم، وأفعالهم ، وسوف أذكر لكم بعضاً منها: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: روى وكيع بن الجراح عن شُرحبيل بن السِّمْطِ أنه كان على جيش فقال: إنكم نزلتم أرضًا فيها نساءٌ وشراب، فمن أصاب منكم حدًا فليأتنا حتى نطهره، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إليه
«لا أم لك تأمر قومًا ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم»
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: روى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها يا أم المؤمنين إن كريا أخذ بساقي وأنا محرمة فقالت رحمة الله عليها :
حِجرا حِجرا حِجرا (سترا) وأعرضت بوجهها ، وقالت :
( يا نساء المؤمنين إذا أذنبت إحداكن ذنبا فلا تخبرن به الناس ولتستغفر الله تبارك وتعالى ولتتب إليه فإن العباد يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير )
وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
أشرف يوما رضي الله عنه على داره بالكوفة، فإذا هي قد غصت بالناس،
فقال من جاء يستفتينا فليجلس نفتيه إن شاء الله، ومن جاء يخاصم فليقعد حتى نقضي بينه وبين خصمه إن شاء الله، ومن جاء يريد أن يطلعنا على عورة قد سترها الله عليه، فليستتر بستر الله وليقبل عافيته وليُسرر توبته إلى الذي يملك مغفرتها فإنا لا نملك مغفرتها ولكن نقيم عليه حدها ونمسك عليه بعارها )
ومن ثمـرات السـتـر:
إن الستر يطفئ نار الفساد ويشيع المحبة في الناس. وأنه ويورث الساتر سعادة وسترا في الدنيا والآخرة. واتصاف صاحبه بالحصافة والحكمة والقدرة على الكتمان وهذا ما لا يتصف به إلا الكبار.
أيها المسلمون
واعلموا أن عاقبة كشف عورات المسلمين أليمة : فقد قال الله تعالى:
( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (النور:19)
فمِن أدبِ هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين.
وقال ابن القيم : للعبد ستر بينه وبين الله وستر بينه وبين الناس فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس )
واعلموا إن التشهير بالناس ونشر عوراتهم من صفات أهل النفاق والفساق المتشبهين باليهود المغرمين باشاعة الفاحشة، ومن كانت فيه صفة من صفات هؤلاء فليبادر بتركها والتوبة منها لئلا يلقى الله بها فيعذبه عليها
================================
8- من أخلاق المسلم ، خلق : ( الشورى )
قال الله تعالى في محكم آياته : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].
ويقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38].
والشورى : هي أن يأخذ الإنسان برأي أصحاب العقول الراجحة والأفكار الصائبة، ويستشيرهم حتى يتبين له الصواب فيتبعه، ويتضح له الخطأ فيجتنبه.
والشورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمر من الله، أو أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ إنه لا شورى مع وجود نص شرعي.
والشورى خلق من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس رأيًا ، وفضلاً عن كونه مؤيدًا بالوحي الإلهي ، إلا أنه دائم المشاورة لأصحابه قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ( ما رَأَيْتُ أحدًا قَطُّ كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
وروى الإمام أحمد (عَنِ ابْنِ غَنْمٍ الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ
« لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا »
وقد ورد أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه رضي الله عنهم في الأمور التي تنزل بالمسلمين، ولا يكون فيها نص شرعي يجب اتباعه،
وقد روى أحمد في مسنده (عَنْ أَنَسٍ وَذَكَرَ رَجُلاً عَنِ الْحَسَنِ قَالَ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ فِي الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ ».
قَالَ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ بِالأَمْسِ ».
قَالَ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ.
فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ ثُمَّ عَادَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِلنَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ َيا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.
قَالَ فَذَهَبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ.
قَالَ فَعَفَا عَنْهُمْ وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.
قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ ) 67 من الأنفال).
وكذلك استشار أصحابه للخروج لغزوة أحد، كما في البخاري
(وَشَاوَرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ فَلَمَّا لَبِسَ لأْمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا أَقِمْ . فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ وَقَالَ
« لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ » .
وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى أَهْلُ الإِفْكِ عَائِشَةَ فَسَمِعَ مِنْهُمَا ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ .
وَكَانَتِ الأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يَسْتَشِيرُونَ الأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ ، لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا ، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – ،
وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ كَيْفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، إِلاَّ بِحَقِّهَا » .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –
ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ .
قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » .
وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا ، وَكَانَ عمر وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . )
وللشورى ثمرات وفوائد تعود على الفرد والمجتمع ومنها :
1- أن الذي يستشير الناس لا يندم أبدًا، والله -سبحانه- يوفقه للخير، ويهديه إلى الصواب.
2- وبالشورى يستفيد الإنسان من تجارب غيره، ويشاركهم في عقولهم, وبذلك يتجنب الخطأ والضرر، ويصبح دائمًا على صواب.
3- وأن الشورى فيها تأليف للقلوب.
4- إن في الشورى تنسيق الجهود وتجميعها، والإفادة من الطاقات وعدم تبديدها.
5- من ثمار الشورى منع الظلم والفردية.
6- أن فيها إشاعة حرية الرأي.
وهناك فرق بين الشورى والديمقراطية ، فالديمقراطية التي تعتبر حكم الشعب للشعب، ينتج عنها أن الشعب هو الذي يضع دستوره وقوانينه، وهو السلطة القضائية التي تحكم بين الناس بتطبيق القوانين الموضوعة،
فالشورى في الإسلام تقوم على حقيقةٍ، مفادها أن الحكم هو حكم الله المنزَّل بواسطة الوحي على رسول الله ، الذي يُعدُّ الالتزامُ به أساس الإيمان، والعلماء هم أهل الحلِّ والعقد، وهم على رأس رجال الشورى، وليس للعلماء مع حكم الله في إطار الشورى إلا الاجتهاد في ثبوت النصِّ، ودقَّة الفهم، ورسم الخطط المنهجية للتطبيق.
فالشورى هي السبيل الأمثل إلى الرأي الجماعي، الذي هو خير للفرد والمجتمع من رأي الفرد، روى ابن ماجه (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ
« إِنَّ أُمَّتِى لَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلاَلَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلاَفًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ ».
وعند الترمذي (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« إِنَّ اللَّهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِى – أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- – عَلَى ضَلاَلَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ »
وفي مسند أحمد (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :
« سَأَلْتُ رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعاً فَأَعْطَانِي ثَلاَثاً وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يَجْمَعَ أُمَّتِى عَلَى ضَلاَلَةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ كَمَا أَهْلَكَ الأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يَلْبِسَهُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا »
أيها المسلمون
وإذا كان الاسلام قد حث ورغب في خلق الشورى ، فقد حذر ورهب من خلق الاستحواذ بالرأي ، والانفراد به ، والاستبداد وعدم مشاركة أصحاب المصلحة ومشاورتهم
==========================================
9- من أخلاق المسلم : خلق ( الصدق )
يقول الله تعالى في محكم آياته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة 119
وروى مسلم في صحيحه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ».
إخوة الاسلام
مــا هـو الصـدق؟ الصدق هو مطابقة منطوق اللسان للحقيقة،وبمعناه الأعم مطابقة الظاهر للباطن، فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه.
فقد وصف الله نبيَّه محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بأنه جاء بالصدق، وأن أبا بكر وغيره من المسلمين هم الصادقون، قال – تعالى -: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33].
كما أن التحلي بالصدق كان من أوَّليات دعوتِه – صلى الله عليه وسلم -، كما جاء مصرحًا بذلك في قصة أبي سفيان مع هرقل، وفيها: أن هرقل قال لأبي سفيان:
(قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ) رواه البخاري
كما أن الصدق سمة من سمات الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين،
والصدق أقسام :
أولها : الصدق بالقلب فالمؤمن يجب أن يكون صادقاً بقلبه فلا يخالف ظاهره باطنه .
ثانيها : الصدق بالأفعال سواء التي بينه وبين الله تعالى أو بينه وبين الخلق فلا يغش ولا يخلف إذا وعد قال تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) الأحزاب 23
ثالثها : الصدق بالأقوال فلا تخالف الواقع ولا تخالف أفعال صاحبها قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) . (سورة الصف آية 2،3)
وللصدق مكــانــة عظيمة ، ومنزلة كبيرة بين مكارم الأخلاق ، فالصدق مرتبط بالإيمان، ففي موطأ مالك (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ « نَعَمْ ». فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً فَقَالَ « نَعَمْ ». فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ « لاَ ».
وعاقبة الصدق خير وإن توقع المتكلم شرًا قال تعالى :{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} محمد 21
والصدق طمأنينة وثبات كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي
(فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ».
وللصدق مجـالات متعددة ، وصور شتى ومنها :
– الصدق مع الله: وذلك بإخلاص الأعمال كلها لله.
– الصدق مع الناس: فلا يكذب المسلم في حديثه مع الآخرين
– الصدق مع النفس: فالمسلم الصادق يعترف بعيوبه وأخطائه ويصححها.
ومن ثمرات الصدق أيضا :
– إنَّ أقلَّ ما يحصِّلُهُ الصادق في الدنيا حلاوةً في منطقه وهيبةً في مطْلعه.
– الفوز بثمرات التقوى العاجلة والآجلة.
– اطمئنان المؤمن على إيمانه, فالصدق أساس الإيمان.
– يحظى الصادق دائماً بثقة من حوله.
ـ الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة .
ـ الصادق محبوب عند الله ، وعند الناس .
ـ الصدق ينجي صاحبه من المهالك في الدنيا والآخرة
أيها المسلمون
وفضائل الصدق كثيرة منها الجزاء العظيم عليه بجنات تجري من تحتها الأنهار:
قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119].
فأخبر سبحانه أنه لا ينفع العبد وينجيه من العذاب في يوم القيامة إلا صدقه.
وفي مسند أحمد وغيره (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ »
بل إن منازل أهل الصدق في الجنة من أعلى المنازل وأعظمها حتى ظن البعض أنها منازل الأنبياء عليهم السلام عندما سمعوها من سيد الصادقين وإمام المتقين محمد- صلى الله عليه وسلم- فقد روى البخاري في صحيحه (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَيُونَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ قَالَ « بَلَى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ »
– والصدق من أسباب النجاة من العذاب: قال سبحانه: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الأحزاب: 24].
– وفي الصدق مغفرة الذنوب والأجر العظيم :قال -عز وجل-: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 35].
أيها المسلمون
وكما رغب الاسلام في الصدق ، فقد حذر من الكذب وخطورة الكذب والافتراء:
فالكذب: داء عضال، ومرض فتَّاك، وخُلُقٌ ساقطٌ بغيضٌ إلى الله، بغيض إلى رسوله، بغيض إلى ذوي الفِطر السليمة، يأباه الشرفاء، ويمقته العقلاء، وتمجُّه أنفس النبلاء، يُهين أصحابه، ويُذل أربابه، ويزري بمروجيه..
فالكذب: سبيل إلى كل قبيح وفاسد من أقوال أو أفعال، قال ابن القيم رحمه الله: “كل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدها ومضارها بمثل الكذب”.
وفي الصحيحين ، قال صلى الله عليه وسلم ( وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»
==========================================
10- من أخلاق المسلم : خلق ( العدل )
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل 90
وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء 58،
وروى مسلم في صحيحه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ».
إخوة الإسلام
العدل هو إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، وهو خُلق كريم يعني التزامَ الحق والإنصاف في كل أمرٍ من أمور الحياة، والبُعد عن الظلم والبغي والعدوان،
وهو من الأخلاق العظيمة والكريمة والمحببة للنفس ، ذلك الخُلق الذي يبعث في النفس الأمان والطمأنينة إذا تم تطبيقه في الحياة، فلا يخاف المظلوم من عدم إنصافه، ولا يجد الظالم إلا أن يكف ظلمه عن البشر،
ولذلك أمرنا الله تعالى بإقامة العدل مهما كانت درجة القرابة، والبعد عن اتباع الهوى مهما كانت درجة الغنى أو الفقر، فسبحانه ولي الجميع، فقال تعالى في محكم آياته:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].
فيتجلى لنا عدل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم، كما في البخاري وفي سنن ابي داود واللفظ له (عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ». فَقَالَ الأَشْعَثُ فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَلَكَ بَيِّنَةٌ ». قُلْتُ لاَ. قَالَ لِلْيَهُودِيِّ « احْلِفْ ».
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفُ وَيَذْهَبُ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) إِلَى آخِرِ الآيَةِ.،
فنجده صلوات ربي وسلامه عليه لم يحكم لقيس وهو الرجل المسلم الموحد بالله بأرضه الذي أخذها اليهودي لأنه ليس معه بينة، ورضي بحلف اليهودي الكاذب فالأرض تحت يده وأقسم أنها له، فصلوات ربي عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المؤمنون
ومن صور العدل عند الصحابة : عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عن عطاء: قال:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال: “أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم. فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام أحد إلا رجل واحد قام، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ عاملك فلانا ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟
قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه.
قال: فدعنا فلنرضه. قال: دونكم فأرضوه. فافتدى منه بمائتي دينار. كل سوط بدينارين” (رواه ابن سعد في (الطبقات الكبرى)
ولما أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال:
“إنَّ الذي أدَّى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا” (رواه البيهقي في (السنن الكبرى)
– عدل علي رضي الله عنه: (افتقد علي رضي الله عنه درعًا له في يوم من الأيام، ووجده عند يهودي، فقال لليهودي: الدرع درعي لم أبع ولم أهب، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال: نصير إلى القاضي، فتقدَّم علي فجلس إلى جنب شريح، وقال: لولا أنَّ خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وأصغروهم من حيث أصغرهم الله».
فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين. فقال: نعم، هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب، فقال شريح: إيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي.
فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم: قَنْبَر والحسن يشهدان أنَّ الدرع درعي. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب. فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة». فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدَّمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه، أشهد أنَّ هذا هو الحقُّ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، وأنَّ الدرع درعك) (ذكره السيوطي في (تاريخ الخلفاء):
وللعدل مجالات متعددة وصور كثيرة ، وإن كنا نحن مطالبين بالعدل في كل شيء، ولكننا نشير هنا إلى بعض مجالات العدل، ومنها:
– العدل بين المتخاصمين: ففي سنن الترمذي والبيهقي والمستدرك ( عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ ».
ومن صور العدل ومجالاته، العدل في الميزان والمكيال: قال تعالى
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } الرحمن 9،
وقال تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) المطففين 1: 5،
ومن صور العدل ومجالاته ، العدل بين الزوجات: فمن العدل أن يعدل الرجل مع زوجته فيعطيها حقوقها، وإذا كان له أكثر من زوجة فإنه يعدل بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والنفقة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته -رضوان الله عليهن- بالعدل،
وفي سنن أبي داود (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ
« اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ». يَعْنِى الْقَلْبَ.)
و تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما: “يا ابنَ أُختي كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ
«لا يفضِّلُ بعضَنا على بعضٍ في القَسْم من مُكثِهِ عِندنا»،
وَكانَ قلَّ يومٌ إلَّا «وَهوَ يطوفُ علينا جميعًا، فيدنو مِن كلِّ امرأةٍ من غيرِ مَسيسٍ، حتَّى يبلغَ إلى الَّتي هوَ يومُها فيبيتَ عندَها»” ( أبي داود ).
ومن صور العدل ومجالاته، العدل بين الأبناء: فالمسلم يسوِّي بين أولاده حتى في القُبْلَة، فلا يُفَضِّل بعضهم بهدية أو عطاء؛ حتى لا يكره بعضهم بعضًا, وفي صحيح البخاري (عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ – رضى الله عنهما – وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ أَعْطَانِي أَبِى عَطِيَّةً ، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – . فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِى مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً ، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .قَالَ « أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا » . قَالَ لاَ . قَالَ « فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ » . قَالَ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ . )
ومن صور العدل ومجالاته – العدل في الشهادة: ويكون العدل فيها بأن يشهد بما رأى ، أو بما سمع فإن شهد بما يخالف ذلك فهو شاهد زور ، قال تعالى :
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } الانعام 152،
وللعدل فوائد وثمرات في الحياة الدنيا وفي الآخرة ومنها :
1- أن العدل يوفر الأمان للضعيف والفقير، ويُشْعره بالعزة والفخر.
2- وبالعدل يشيع الحب بين الناس، وبين الحاكم والمحكوم.
3- والعدل يمنع الظالم عن ظلمه، والطماع عن جشعه، ويحمي الحقوق والأملاك والأعراض.
جزاء العدل : في صحيح مسلم (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ».
أيها المسلمون
والاسلام كما رغب في خلق العدل ، فقد حذر من الظلم ، فالظلم منكر عظيم وعاقبته وخيمة، ففي الصحيحين (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..)
وروى مسلم (عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا..)
================
11- من أخلاق المسلم : خلق ( العفة )
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) النور 33
وروى مسلم في صحيحه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
« اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ».
إخوة الإسلام
معنى العفة: هي الكف عما لا يحل، أي: منع النفس عما لا يحل،
ومنها: عف اللسان عن الغيبة، وعف البصر عن النظر إلى ما يغضب الله، وعف الفرج عن الحرام، يقول ربنا تبارك وتعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) [النور:33].
والعفة خلق إيماني رفيع، فالعفة صبر وجهاد واحتساب، والعفة قوة وتحمل وإرادة، والعفة صون للأسرة المسلمة من الأهواء والانحرافات والشذوذ، والعفة دعوة إلى البعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياء، والعفة لذة وانتصار على النفس والشهوات وتقوية لها على التمسك بالأفعال الجميلة والآداب النفسانية،
والعفة إقامة العفاف والنزاهة والطهارة في النفوس، وغرس الفضائل والمحاسن في المجتمعات،
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بالحث على التخلق بهذه الخلق وتلك الصفة الجميلة؛
فقد روى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
«أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا حِفْظُ أَمَانَةٍ وَصَدْقُ حَدِيثٍ وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ »
كما نبه صلى الله عليه وسلم إلى أن الجزاء من جنس العمل، ففي المستدرك للحاكم وفي المعجم للطبراني (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم و بروا آباءكم تبركم أبناؤكم و من أتاه أخوه متنصلا فليقبل ذلك منه محقا كان أو مبطلا فإن لم يفعل لم يرد علي الحض )
وكما أخبر صلى الله عليه وسلم أن من يتخلق بهذه الصفة فإن الله يعينه، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِى يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ الْعَفَافَ » .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن العفيف عما حرم الله من أوائل الناس دخولا الجنة؛ كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي.( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« عُرِضَ عَلَىَّ أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ ».
وفي صحيح مسلم (قَالَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ )
فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خلق العفة ففي المعجم للطبراني (عن ابي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من انفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة ) و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ». [رواه مسلم] .
وأما عن مظاهر العفة في البيت النبوي: فمما رواه البخاري في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي ، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا ، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْفِيَهَا » ، إنها العفة في المطعم
وفي صحيح مسلم أن (أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« كِخْ كِخْ ارْمِ بِهَا أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ».
(وعَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ
« لَوْلاَ أَنِّى أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا ») [رواه البخاري]
وأسوق إليكم بعضا من مواقف عفيفة في حياة الأنبياء والصالحين لتكون لنا فيهم أسوة حسنة وقدوة طيبة ، : فهذا نبي الله يوسف عليه الصلاة السلام يعف نفسه عن الزنا، قال تعالى
:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 23-34]
وهذا عثمان بن أبي طلحة رضي الله ومرافقته لأم سلمة رضي الله عنها في هجرتها، لمّا فرق قومي بيني وبين ابني وهاجر زوجي إلى المدينة مكثت أيامًا أبكي أخرج إلى خارج داري ثم أعود إليه, فقام رجل من بني المغيرة رآني على حالي فرق لي, وقام إلى قومي وقال: ألا تخرجوا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها ،
قالت: فتركوني أهاجر إلى المدينة وأعطتني بنو أسد ـ قوم زوجها ـ ابني, فأخذت ابني فوضعته على حجري وركبت بعيري وسرت وليس معي أحد إلا الله, حتى إذا أتيت إلى التنعيم ـ موضع قريب من مكة تجاه المدينة ـ لقيني عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار
فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ فقلت: أريد المدينة ، فقال: أو ما معك أحد؟ ، فقلت: لا
قال: مالك من مترك؟ (أي كيف أتركك تسافرين وحدك) ، فأخذ بخطام بعيرها فسار معها
قالت أم سلمة: فما رأيت قط رجل أكرم في العرب من عثمان بن طلحة, كان إذا جئت إلى مستراح أوقف بعيري وتأخر عني فإذا نزلت عن بعيري أخذ ببعيري وتأخر بالبعير فربطه في الشجرة واضطجع تحت الشجرة, فإذا حان موعد الرحيل جاءني بالبعير فترك البعير وتأخر عنّي, فإذا ركبت البعير جاء وأخذ! البعير وسار بي على ذلك أيامًا متتالية حتى قرب من المدينة فرأى قرية عمرو بن أبي عوف فقال: يا ابنة أبي أمية, زوجك في هذه القرية ،فقالت: فدخلت القرية فوجدت أبا سلمة، قالت أم سلمة تحفظ الجميل لهذا الرجل:
فما رأيت رجلاً أكرم من عثمان بن طلحة قط في العرب.
إخوة الإسلام
وللعفة أنواع وأقسام ومناحي متعددة ومن أنواع العفة:
- عفة الجوارح: فالمسلم يعف يده ورجله وعينه وأذنه وفرجه عن الحرام فلا تغلبه شهواته.
2- ومنه عفة الجسد: فالمسلم يستر جسده، ويبتعد عن إظهار عوراته, وعلى المسلمة أن تلتزم بالحجاب، لأن شيمتها العفة والوقار.
3-ومنها العفة عن أموال الغير: فالمسلم عفيف عن أموال غيره لا يأخذها بغير حق، كما أن المسلم يتعفف عن مال اليتيم إذا كان يرعاه أويقوم على شئونه ، قال تعالى في شأنهم :
{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } النساء 6
4- عفة المأكل والمشرب: المسلم يعف نفسه ويمتنع عن وضع اللقمة الحرام في جوفه، لأن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به كما جاء في الحديث.
5- عفة اللسان: المسلم يعف لسانه عن السب والشتم، فلا يقول إلا طيبًا، ولا يتكلم إلا بخير, قال صلى الله عليه وسلم
(ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللَّعَّان ولا الفاحش ولا البذيء ) صحيح الترمذي
6- التعفف عن سؤال الناس: المسلم يعف نفسه عن سؤال الناس إذا احتاج، فلا يتسول ولا يطلب المال بدون عمل ( عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :
« الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ » رواه البخاري
- العفة عن المحارم وتشمل: ضبط الفرج عن الحرام وكف اللسان عن الأعراض.
- العفة عن المآثم وتشمل: الكف عن المجاهرة بالظلم وزجر النفس عن الإسرار بالخيانة.
وللعفة عما حرم الله فوائد وثمرات عاجلة وآجلة، ثمرات يجنيها المرء في الدنيا، وثمرات يجنيها في الآخرة، ومن هذه الثمرات ما يلي:
أولا: من ثمرات العفة امتثال أمر الله، فقد أمر –سبحانه- المؤمنين والمؤمنات، بذلك:
ومن ثمرات العفة: ثناء الله -تعالى– على أهل العفة يقول الله -عز وجل- في مدح المؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفة:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} المؤمنون 1
ومن ثمرات العفة الفوز بالجنة، والنعيم المقيم في الآخرة،
=========================================
12- من أخلاق المسلم : خلق ( العفو والتسامح )
قال الله تعالى :(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الاعراف 199،
وقد جعل الله تعالى خلق العفو من صفات المؤمنين المتقين ، فقال تعالى:
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134) آل عمران)
ويقول سبحانه (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور 22 ،
وروى الإمام أحمد في مسنده وصححه الشيخ الألباني 🙁 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ “.
ومعنى العفو : هو :”التجاوز عن الذنب أو الخطأ ، وترك العقاب عليه”.
ومن أسمائه سبحانه وتعالى “العفو”، يقول تعالى:( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء:43]
ومعناه: الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، ويصفح عمن تاب وأناب.
والعفو أيضا أمر نبوي: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ ».
أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إلي. أخرجه النسائي وغيره
وأخرج الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي:
« يَا عُقْبَة بْنَ عَامِرٍ؛ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ».
وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ الرَّجُلُ أَمُرُّ بِهِ فَلاَ يَقْرِينِي وَلاَ يُضَيِّفُنِي، فَيَمُرُّ بِي، أَفَأَجْزِيهِ؟ قَالَ: « لاَ، أَقْرِهِ ».
أي أكرمه وأحسن ضيافته ولا تقابله بمثل فعله.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى عفوّ كريم يحبّ من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتجاوز بعضهم على بعض؛ فقد روى أحمد في مسنده :
(قَالَتْ عَائِشَةُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ قَالَ
« تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى »
والعفو خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين: فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لقوا من أقوامهم ما لاقوه من سوء المعاملة! والتحريض عليهم! بل وصل الأمر إلى التعدي عليهم وضربهم! ومع هذا لم ينتقموا لأنفسهم! بل صبروا على الأذى الذي طالهم في سبيل نشر دعوتهم، وبذلوا وسعهم في بيان الحق لمن أرسلوا إليهم، وقابلوا إساءات أقوامهم بالصبر والشفقة عليهم ودعاء الله تعالى لهم،
ففي صحيح مسلم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ « رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ».
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج رائعة للعفو والتسامح فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في هذا الخلق الرفيع , ومن الأمثلة على ذلك :
ما رواه البخاري ومسلم (أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ
« لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا »
ومن مواقف عفوه صلى الله عليه وسلم أنه بعد فتح مكة وقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن آذوه وحاربوه وطردوه من بلده : ” يا مَعْشرَ قريشٍ، ما تَظُنُّونَ أني فاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريم، قال: فإنِّي أقُول لكم كما قال يوسفُ لإخوَتِه
{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ } [يوسف: 92] أذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاء)
ومن صور خلق العفو عند الأنبياء ، فهذا الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم
أنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، حسده أخوته لمكانته من أبيه، فاجتمعوا على التخلص منه، فألقوه في البئر ، فنجاه الباري جل وعلا من كيدهم، وتفضل عليه سبحانه بأن وهبه قوة وسلطانا، بعد ابتلاء وصبر، فلما وقع إخوته بين يديه لم ينتقم منهم، بل عفا عنهم وسامحهم على ما كان منهم تجاهه، فقال لهم بعد أن اعتذروا منه عما كان منهم! كما أخبرنا بذلك ربنا جل وعلا:
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف 91: 92].
ومن صور العفو عند الصحابة والتابعين : فهذا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- خاض من خاض في عرض ابنته الطاهرة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- في حادثة الإفك ومنهم ابن خالته مِسْطَح بن أُثاثه –رضي الله عنه- قبل أن تنزل براءتها من فوق سبع سموات، وكان الصديق يُنفق على مِسْطَح -رضي الله عنه- فلما بلغه ما يقول في الصديقة – رضي الله عنها – منع عنه ما كان يُعطيه إياه، فأنزل الله جل وعلا بعد أن برأها سبحانه مما رميت به –رضي الله عنها-
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]. .
فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب – يا ربنا – أن تغفر لنا.
ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق رضي الله عنه وعن ابنته”.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستهزئ به رجل ويتهمه بالبخل والظلم فيعفو عنه ويصفح؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عنه ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أن عُيَيْنَة بْنَ حِصْنِ بْن حُذَيْفَةَ دَخَلَ عَلى عمر فقَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ بْن قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ».
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر، أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغِض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله:
﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22].
وهذا أبو ذر رضي الله عنه، يقول لغلامه يوما:
“لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغِيظك. قال: لأجمعَنّ مع الغيظ أجرًا، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى”.
روي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية:
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال ميمون: قد أحسنت إليك،
فأنت حرة لوجه الله تعالى.
وقال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما:
(لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه)
وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: “لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة ”
أيها المؤمنون
وللعفو فوائد عظيمة ، وثمار يانعة ، ونتائجه جليلة. فبالعفو تنال العزة والشرف: فلا تظن أخي الكريم؛ أن العفو يَنِمّ عن ضعف وعجز وهوان، وإنما هو عزة وانتصار على النفس ووساوس الشيطان. فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاَ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ قَالَ:
« إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ». ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً ».
وفي صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ».
ومن ثمار العف وفوائده ، أنه بالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة:، قال تعالى :
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
ومن ثمار العفو وفوائده أنه بالعفو يُنال الأجرُ والثواب: يقول سبحانه:
﴿ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
وقال ابن عباس رضي الله عنه: من ترك القِصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي إن الله يأجره على ذلك
وعن جزاء أهل العفو : قال علي بن الحسين: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء علينا عفونا. فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله! فيقوم ناس من الناس، وهم الأقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتجالس في الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
وقال: بئس القوم قوم ختلوا الدنيا بالدين، وبئس القوم قوم عملوا بأعمال يطلبون بها الدنيا. (حلية الأولياء )
=================================
13- من أخلاق المسلم : خلق ( الحلم )
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ أُنَاسًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم قَالَ ،وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ « إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ »
إخوة الإسلام
الحلم هو : الأناة والتعقل ، وفي سنن الترمذي وغيره (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ». رواه الترمذي وحسنه
والحلم من صفات الله جل وعلا، وقد وصف نفسه العلية بأنه “حليم” كما في قوله تعالى:
{لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة: 225
فاللّه- عزّ وجلّ- حليم على عباده؛ لأنّه يعفو عن كثير من سيّئاتهم ويمهلهم بعد المعصية ولا يعاجلهم بالعقوبة والانتقام ويقبل توبتهم بعد ذلك
ومن حِلـم الله تعالى :أنه يستر ذنوب عباده مهما بلغت ويأخـذ عبده المذنب يوم القيامة في كنفه فيسأله ألم تفعل كذا في الدنيا وسترتها عليك؟ فيقول العبد أجل يا رب فيقول سبحانه وأسترها عليك وأغفـرها لك اليوم ففي صحيح مسلم ( صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ
« إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ . حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ . فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ)
ومما يجب أن نعلمه ، إن الحلم فضيلة تقع بين رذيلتين متباعدتين ، فمن وراء يمين الحلم يأتي التباطؤ والكسل ، والتواني والإهمال ، وتتبدل الطبع عند مثيرات الغضب ، ومن وراء يسار الحلم يأتي التسرع في الأمور واستعجال الأشياء قبل أوانها ،
والذي جعل الحلم فضيلة خلقية هو اعتداله ، ومسايرته لمقتضى العقل السليم ، والآثار النافعة المفيدة الخيرة التي تترتب عليه.
ولقد ضرب رسول الله-صلى الله عليه وسلم أروع المثل للمسلمين في ذلك : فقد روى البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم –
« دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ » .
ومما صح عنه صلى الله عليه وسلم من مواقف كبرى ودروس عظمى في الحلم والصبر ما رواه الشيخان (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً – قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ – ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)
وفي الصحيحين (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ – رضى الله عنه – قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ – وَهْوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ . فَقَالَ « وَيْلَكَ ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ »
وروى البخاري ومسلم ( قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَسَمَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ . قُلْتُ أَمَّا أَنَا لأَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَتَيْتُهُ وَهْوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ ، حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ « قَدْ أُوذِىَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ » .
وبالحلم تكن في معية الله وحفظه : فقد روي مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ
« لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ».
ومن النماذج التي ضرب بها المثل في الحلم ، الصحابي الجليل الأحنف بن قيس، فقد كان شديد الحلم، حتى صار يُضرَب به المثل في ذلك الخلق، فكان يقال: أحلم من الأحنف.
فيحكى أن رجلا شتمه فلم يرد عليه ، ومشى في طريقه، فتبعه الرجل ، وهو يزيد في شتمه، فلما اقترب الأحنف من الحي الذي يعيش فيه ، وقف، وقال للرجل: إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله قبل أن يسمعك أحد من الحي فيؤذيك.
ويحكى أيضا: أن قوما بعثوا إليه رجلا ليشتمه، فصمت الأحنف ولم يتكلم، واستمر الرجل في شتمه حتى جاء موعد الغداء، فقال له الأحنف: يا هذا إن غداءنا قد حضر فقم معي إن شئت، فاستحيا الرجل ومشى. وكان يقول : ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث:
(إن كان فوقي عرفت له فضله وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه).
وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشدي الخامس حليمًا صفوحًا، يتطاول عليه الرجل فلا يجيبه، فيقال لعمر: ما يمنعك منه؟ فيجيب: إن التقى مُلْجِمٌ.
وحدث ذات ليلة، خرج الخليفة عمر بن عبد العزيز ليتفقد أحوال رعيته ومعه الحارس، فدخلا مسجدًا وكان المسجد مظلمًا، فتعثر عمر برَجُلٍ نائم، فرفع الرجل رأسه وقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا. وأراد الحارس أن يضرب الرجل، فقال له عمر: لا تفعل، إنما يسألني: أمجنون أنت؟ فقلت له: لا.
فاتقوا الله عباد الله ، ولتتصفوا بالحلم ، وتتحلوا بالعفو والصفح ، يكتب الله تعالى لكم الخير والسداد والتوفيق والرشاد ، وصدق ربي إذ يقول في محكم آياته :
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فصلت 33 : 36 ،
=========================================
14- من أخلاق المسلم : خلق ( القناعة )
روى مسلم في صحيحه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ».
ومعنى القناعة: هي رضا العبد بما أعطاه الله، وكتبه وقسمه.
والقناعة: هي استغناء بالموجود، وترك للتشوف إلى المفقود.
والقناعة: هي استغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث.
والقناعة: هي أن يكتفي المرء بما يملك، ولا يطمع فيما لا يملك. وهي علامة على صدق الإيمان
والقناعة: هي امتلاء القلب بالرضا، والبعد عن التسخّط والشكوى.
فليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
كما أن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيرا، فالغني أيضا في حاجة إلى قناعة، كما أن الفقير في حاجة إلى قناعة؛
وقناعة الغني أن يكون راضيا شاكرا، لا جاحدا ظالما، قناعته أن لا تَلجَ أمواله إلى قلبه، حتى يصبح عبدا لها. فقناعته أن لا يستعلي بماله على الفقراء، وأن لا يوظف ماله في الاستيلاء على ممتلكات الآخرين والاعتداء على حقوقهم.
فكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا يغشّ في تجارته، ولا يمنَع أُجَراءَهُ حقوقَهم، ولا يذلّ نفسه من أجل مال أو جاه، ولا يمنع زكاة ماله؛ إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وقناعة الفقير أن يكون راضيا بقسمة الله، مستسلما لأمر الله، لا ساخطا ولا شاكيا، ولا جزعا من حالِه، ولا غاضبا على رازقه.
قناعته أن لا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفا متعففا، وأن لا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش.
فكم من مستور يجد كفافًا؛ قد ملأ الطمع قلبه، ولم يُرْضِه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضِب على رازقه، وبثّ شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم ليُغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهمًا ولا فلسًا.
وأعظم نموذج في القناعة والرضا؛ هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل. فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قنوعاً زاهداً راضيا صابرا محتسبا،كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة. وكيف لا يكون كذلك ورب العالمين سبحانه يخاطبه بقوله:
﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ طه 131.وانظر إلى طعامه صلى الله عليه وسلم ، وانظر إلى فراشه ولباسه، وانظر إلى مسكنه.. فقد كان فغاية في القناعة والبساطة؛ ففي الصحيحين (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي ، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – نَارٌ . فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتِ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ أَلْبَانِهِمْ ، فَيَسْقِينَا .)
وأما فراشه صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري في صحيحه (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ أَدَمٍ ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ) (أدم) جلد مدبوغ. (ليف) قشر النخيل.
(وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً . فَقَالَ « مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا » )”. أخرجه الترمذي “ وروى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
(وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَىَّ أَنِ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِى فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ – قَالَ – فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ قَالَ « مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ».
قُلْتُ يَا نَبِيَ اللَّهِ وَمَا لِي لاَ أَبْكِى وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لاَ أَرَى فِيهَا إِلاَّ مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ.فَقَالَ « يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا ». قُلْتُ بَلَى ). و(القَرَظ) هو ورَق السَّلَم تدبغ به الجلود. (أفيق) جلد لم يدبغ. وأما مسكنه صلى الله عليه وسلم؛ فبيوت من طين، سقفُها من جريد النخل، قصيرة متقاربة.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن الحسن البصري قال:
“كنتُ أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سُقُفَها بيدِي”.
أيها المسلمون
أما عن قناعة آل محمد صلى الله عليه وسلم: فلقد ربى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيّرهن بين الإمساك على ذلك، أو الفراق والتمتع بالدنيا، كما قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29].
فاخترن – رضى الله عنهن – الله ورسوله والدار الآخرة، وصبرْن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال، طمعًا في الأجر العظيم من الله الكريم سبحانه.
وروى البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ ، إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ “. وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ
مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا ، حَتَّى قُبِضَ . “.
أيها المسلمون
أما عن قناعة السلف الصالح: فعلى القناعة أيضا ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكانوا أصحاب قناعة ورضا، فما كانوا يتنافسون على الدنيا، ولا يتنازعون حولها، وإنما كانوا يتنافسون في الخيرات والطاعات. تركوا ديارهم وأموالهم وأراضيهم. في مكة وما حولها، ليهاجروا إلى الله ورسوله، إلى المدينة النبوية حيث لا مال لهم هناك ولا أهل ولا متاع، فكان منهم من يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد كان في مكة يأكل أشهى الطعام وألذ الطعام. وكان منهم من لا يجد من اللباس إلا ما يستر عورته، وقد كان في مكة يلبس أفخر الثياب وأجملها… فأي قناعة أعظم من هذه؟..
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ ، قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ “.
وروى ابن ماجة في سننه (عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ اشْتَكَى سَلْمَانُ فَعَادَهُ سَعْدٌ فَرَآهُ يَبْكِى فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا يُبْكِيكَ يَا أَخِي أَلَيْسَ قَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلَيْسَ ، أَلَيْسَ ، قَالَ سَلْمَانُ مَا أَبْكِى وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ مَا أَبْكِى صَبًّا لِلدُّنْيَا وَلاَ كَرَاهِيَةً لِلآخِرَةِ وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَىَّ عَهْدًا فَمَا أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ. قَالَ وَمَا عَهِدَ إِلَيْكَ قَالَ
عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَكْفِى أَحَدَكُمْ مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ
وَأَمَّا أَنْتَ يَا سَعْدُ فَاتَّقِ اللَّهَ عِنْدَ حُكْمِكَ إِذَا حَكَمْتَ وَعِنْدَ قَسْمِكَ إِذَا قَسَمْتَ وَعِنْدَ هَمِّكَ إِذَا هَمَمْتَ. قَالَ ثَابِتٌ فَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَا تَرَكَ إِلاَّ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ نَفَقَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ.). والحديث صححه الألباني
ومن الأسباب والوسائل المعينة للمسلم على اكتساب خلق القناعة: – تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء: فليعلمِ العاقل أنّ كل حال إلى زوال، فلا يفرح غنيّ حتى يطغى ويَبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم!!
روى ابن ماجة في سننه (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ ».) . فلماذا الطمع؟ ولماذا الجشع؟..
ومن الأسباب والوسائل المعينة للمسلم على اكتساب خلق القناعة:
– أن ينظر المرء إلى من هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في ذلك: فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:”انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ”. قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ “عَلَيْكُمْ”. وفي لفظ لابن حبان في صحيحه:
“إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ”.
أما عن الجزاء : فالقناعة سبيل إلى الحياة الطيبة: فيا من تريد الحياة الطيبة الهادئة المطمئنة؛ عليك بالقناعة، فإن الحياة الطيبة في القناعة. قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]،
وفي القناعة شفاء من داء الطمع ففي الصحيحين ( أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ – رضى الله عنه – قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ
« يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى » . قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ – رضى الله عنه – يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ – رضى الله عنه – دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا . فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ ، أَنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ . فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى تُوُفِّىَ) .
وفي صحيح مسلم (عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلاَلِيِّ قَالَ تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ « أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا ». قَالَ ثُمَّ قَالَ
« يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ – وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ – فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا ».
والقناعة طريق إلى الفلاح والسعادة في الدارين: فقد أخرج الإمام أحمد الترمذي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « طُوبَى لِمَنْ هُدِىَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ ».
وصاحب القناعة محبوب عند الله وعند الناس: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِى النَّاسِ يُحِبُّوكَ ». أخرجه الحاكم وصححه الألباني.
أيها المسلمون
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من نفس طمّاعة لا تشبع، فكان يقول في دعائه كما في صحيح مسلم : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا ».
وحذر الاسلام من الطمع الذي استولى على القلوب، فلم تعد تقنع لا بالقليل ولا بالكثير. وهذا ما حذرنا منه نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما في صحيح مسلم :
(عَنْ أَنَسٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ».
=============================================
15- من أخلاق المسلم : خلق ( الكرم والجود والسخاء )
قال الله -تعالى-: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 261].
وقال تعالى:{ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [البقرة: 272].
وقال صلى الله عليه وسلم « السَّخِىُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ وَلَجَاهِلٌ سَخِىٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ » رواه الترمذي
والكرم : إنفاق المال الكثير بسهولة من النّفس في الأمور الجليلة القدر، الكثيرة النّفع.
وقيل الكرم: هو التّبرّع بالمعروف قبل السّؤال، والإطعام في المحل، والرّأفة بالسّائل مع بذل النّائل.
والكرم صفة من صفات الله عز وجل, فالله هو الكريم وهو كثير الخير، الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه.
والكرم خُلق الأنبياء عليهم السلام…فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الناس شرفاً ونسبًا، وأجود الناس وأكرمهم في العطاء والإنفاق.
ففي صحيح الترمذي (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « مَا بَقِىَ مِنْهَا ». قَالَتْ مَا بَقِىَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا. قَالَ « بَقِىَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ )
وقد رغَّبنا الله فيه في أكثر من موضع من القرآن الكريم، قال تعالى
{ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } البقرة 272
وحثَّنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الكـــرم ورغب فيه؛ ففي صحيح البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »)
وقد كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” مَا سُئِلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لاَ “. [صحيح البخاري].
حتى حين أهديت إليه بردة وكان محتاجًا إليها رآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها (فعنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِبُرْدَةٍ . فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ شَمْلَةٌ . فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا – فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ . فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ، فَلَبِسَهَا ، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا . فَقَالَ « نَعَمْ » . فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – لاَمَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ . فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – لَعَلِّى أُكَفَّنُ فِيهَا ) [صحيح البخاري].
والصحابة كانوا رضوان الله عليه مثلا يحتذى به في البذل والكرم والعطاء
فقد بعث معاوية -رضي الله عنه- إلى السيدة عائشة -رضي الله عنها- بمال قدره مائة وثمانون ألف درهم، فأخذت -رضي الله عنها- تقسم المال، وتوزعه على الناس حتى تصدقت به كله، وكانت صائمة، فأمرت جاريتها أن تحضر لها الطعام لتفطر، فأحضرت لها الجارية خبزًا وزيتًا، وقالت لها: أما استطعتِ فيما قسمتِ اليوم أن تشتري لنا لحمًا بدرهم؛ لنفطر عليه، وهكذا تصدقتْ بهذا المبلغ الكبير، ونسيتْ أن تبقي درهمًا تشتري به طعامًا لإفطارها.
وذات يوم، أحضر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مالا كثيرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيتَ لأهلك يا عمر؟)، فيقول: أبقيتُ لهم نصف مالي.
ويأتي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فيحضر ماله كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا تركتَ لأولادك يا أبا بكر؟)، فيقول: تركتُ لهم الله ورسوله.
وهذا عبدالله بن جعفر رضي الله عنه يخرج هو والحسنان، وأبو دحية الأنصاري رضي الله عنهم من مكة إلى المدينة ،فأصابتهم السماء بمطر ،فلجأوا إلى خيمة أعرابي فأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى سكنت الماء ،فذبح لهم الأعرابي شاة ،فلما ارتحلوا قال عبد الله للأعرابي: إن قدمت المدينة فسل عنا.
فاحتاج الأعرابي بعد سنين ،فقالت له امرأته: لو أتيت المدينة فلقيت أولئك الفتيان .قال قد نسيت أسماءهم. قالت فسل عن ابن الطيار .فأتى المدينة فلقي الحسن رضي الله عنه فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعاتها. ثم أتى الحسين فقال قد كفانا أبو محمد مؤونة الإبل، فأمر له بألف شاة ،ثم أتى عبدالله بن جعفر فقال: قد كفاني إخواني الإبل والشياه ،فأمر له بمائة ألف درهم، ثم أتى الرجل أبا دحية رضي الله عنه فقال: والله ما عندي مثل ما أعطوك ولكن ائتني بإبلك فأوقرها لك تمرا فلم يزل اليسار في عقب الأعرابي منذ ذلك اليوم. فأي كرم هذا؟!!!.
ومن ثمرات الكرم ، وجزاء أهل الكرم : أن الكرم يقرب من الجنة ويبعد عن النار، ففي سنن الترمذي ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ « السَّخِىُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ وَلَجَاهِلٌ سَخِىٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ »
2- والكرم بركة للمال، ففي صحيح البخاري ومسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا »
3- والكرم عِزُّ الدنيا، وشرف الآخرة، وحسن الصيت، وخلودُ جميل الذكر.
4- والكرم يجعل الإنسان محبوبًا من أهله وجيرانه وأقاربه والناس أجمعين.
أيها المسلمون
وكما رغب الاسلام في الكرم فقد حذر من البخل والشح والامساك ، والتقتير ، قال تعالى :
{هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} محمد38.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من البخل في دعائه، ففي البخاري كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا يَعْنِى فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ » ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: هوًى مُتَّبَع، وشُحٌّ (بخل) مطاع، وإعجاب المـرء بنفسه) [الطبراني].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ». [مسلم].
ومتى اتصف المسلم بهذا الخلق الذميم فلا خير فيه؛ فقد مُدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صوّامة قوّامة، إلاّ أن فيها بخلاً. قال: “فما خيرها إذًا”.
والبخل لا يقتصر على التقتير بالنفقة على الزوجة والأولاد ومن يعيل، وليس خاصا بالرجال؛ وتتسع دائرة البخل حتى تشمل امتناع المرء عن أداء ما فرض الله تعالى عليه من واجبات فترى بعضهم يبخل بنفسه وماله ووقته، وقد يمتنع عن تأدية حقوق الله أو النفس أو الخلق.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثٌ مُنجيات: خشية الله تعالى في السّرِّ والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاث مُهْلِكاتٌ: هَوَىً مُتَّبع، وشُحٌ مُطاع، وإعْجابُ المرء بنفسه” رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني.
ويلحق البخل من يكتم العلم ويعرف الحق ولا يبينه؛ فقال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} النساء37
وعن عليّ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “البخيل من ذُكِرْتُ عنده ثمّ لم يُصَلِّ عليَّ” [رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.
=======================================
16- من أخلاف المسلم : خلق ( الوفاء )
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين
﴿ وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].
وقال سبحانه ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) النجم 37
وروى الإمام أحمد في مسنده (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ قَالَ « لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ »
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين:
(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) الاسراء 34،
وروى مسلم في صحيحه (حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى – حُسَيْلٌ – قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ.
فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ
فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ :
« انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ».
وفي سنن أبي داود (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ».
ومعنى الوفاء هو (حفظ العهود والوعود، وأداء الأمانات، واعتراف بالجميل، وصيانة للمودة والمحبة
وللوفاء أنواع عديدة، فباعتبار الموفَى به هناك:
الوفاء بالوعد، والوفاء بالعهد، والوفاء بالعقْد.
وباعتبار الموفَى له هناك:
الوفاء لله، والوفاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، والوفاء للناس
والوفاء من صفات الله عز وجل: قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]
وقال سبحانه ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 6].
والوفاء من صفات المرسلين: يقول الله تعالى :
﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) [النجم: 36 – 37].
وقال سبحانه ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا )مريم: 54 والوفاء من أخلاق وصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح البخاري (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ – رضى الله عنهما – أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ . قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ نَبيٍّ) .
بل بلغ من وفائه صلى الله عليه وسلم أنه كان وفيا مع أعدائه من الكفار ففي العام السادس الهجري، عقد المشركون مع المسلمين صلح الحديبية، وكان من شروط الصلح أنه إذا أسلم أحد من المشركين، وذهب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- رده إلى قومه.
وبعد عقد الصلح مباشرة، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وأعلن إسلامه، فلما رآه أبوه سهيل بن عمرو الذي كان يعقد الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه وعنفه، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ وَلَجَتِ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا. قَالَ: «صَدَقْتَ» وَصَاحَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَنْدَلٍ: «أبا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ صَالَحْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَجَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْعَهْدُ، وَإِنَّا لا نَغْدِر». أخرجه الإمام أحمد والبيهقي.
وفي صحيح مسلم (حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِى – حُسَيْلٌ – قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ « انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ».
أما وفاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح البخاري (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهم – قَالَ ، قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ ، قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا » . فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا . فَأَتَيْتُهُ ،
فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا ، فَحَثَى لِي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَقَالَ خُذْ مِثْلَيْهَا )
هكذا وفَى أبو بكر – رضي الله عنه – بوعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بعد وفاته،
وكذلك فعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع سراقة بن مالك – رضي الله عنه -، ففي حادثة الهجرة اتبع سراقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-:”عد يا سراقة ولك سوارا كسرى” وقبض النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي خلافة عمر بعد فتح المدائن جاء سوارا كسرى لعمر فنادى سراقة وألبسه إياهما وقال: هذا ما وعدك به رسول الله. إنه الوفاء لما وعد به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والوفاء سمة من سمات المؤمنين المتقين ، وخلق من أخلاق المقربين ولذا، فقد وصف الله عباده المؤمنين بالوفاء بقوله تعالى :
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. ويقول سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾المؤمنون: 8
ومن وفاء الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاء حكيم بن حزام فقد روى البخاري في صحيحه
(أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ – رضى الله عنه – قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ لِي « يَا حَكِيمُ ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى » . قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا . فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ . فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى تُوُفِّىَ رَحِمَهُ اللَّهُ)
ومن الوفاء ، الوفاء مع الوالدين: فللوالدين فضل عظيم، وحق كبير على أبنائهم، ..فمن حقهم على الأبناء حسن الوفاء؛ بالطاعة والتواضع والإحسان. قال تعالى ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورً ﴾ [الإسراء: 23 – 25]. ومن صور الوفاء وفاء المرء مع العلماء: باحترامهم وتوقيرهم، والتواضع لهم، والدعاء لهم، والاقتداء بهم، والتعلم على أيديهم
ومن أجمل الأمثلة للوفاء مع العلماء وفاء أبي حنيفة لشيوخه، فلقد كان يدعو لشيخه حمّاد بن أبي سليمان مع أبويه في كل صلاة يصليها، وكان يحفظ له وُدّه، ويذكره دائما ويترحّم عليه، وكان الإمام أحمد يكثر من الدعاء للشافعي، فسأله ابنه عبد الله قائلا: يا أبتِ أيّ شيء كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له. فقال لي: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فَهَلْ لِهَذَيْنِ مِنْ خَلَفٍ، أَوْ مِنْهُمَا عِوَضٌ؟.
ومن الوفاء ، الوفاء بين الأزواج: (بين الزوج وزوجته): فالوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر فوفاء الزوج لزوجته يكون باحترامها وتقديرها، والوفاء بما اشترطه على نفسه لها: فقد روى البخاري (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ »
وانظروا إلى وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته خديجة بعد وفاتها ، فعند البخاري (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ . فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ )
أما وفاء الزوجة لزوجها فيكون بطاعته واحترامه وتقديره، والوقوف إلى جانبه في عسره ويسره، وعدم نكران فضله وجحود عطائه ، وتقف إلى جوار زوجها في كل ضيق ومصيبة، تؤنسه وتواسيه، وتثبته، وتخفي عيوبه وتستر ذنوبه، قال تعالى﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، ولا تكن الزوجة ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ ». قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: « يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ ».
وأقدم إليكم نموذجا من نماذج حسن الوفاء :فقد أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه، قال عمر: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال:
دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه حجرًا وقع على رأسه فمات،
قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما. قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمد أن تتركني ليلة؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم بأنك سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا،
قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعًا؛ لأنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ فسكت الناس وعمر مُتأثر؛ لأنه وقع في حيرة، هل يقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعًا هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول؟ وسكت الناس ونكَّس عمر رأسه والتفت إلى الشابَّين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين.
فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ ، يُهيِّئ فيها نفسه، ويُودع أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل، وبعد ثلاث ليالٍ لم ينسَ عمر الموعد، وفي العصر نادى في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ذر وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعة على غير عادتها.
وقبل الغروب بلحظات، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك وما عرفنا مكانك. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.
ومن الأمور التي يجب الوفاء بها الوفاء في سداد الدين:
فقد اهتمَّ الإسلام بالدَّيْن؛ لأنَّ أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد روى البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ
« مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ »
ومن الأمور التي يجب فيها الوفاء ، الوفاء للعامل الأجير ، بإعطاء الأجير أجره: كما في سنن ابن ماجه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ » ، وفي البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « قَالَ اللَّهُ ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ »
ومنها وفاء العامل بعمله: وذلك بأن يعمل العامل، ويعطي العمل حقه باستيفائه خاليًا من الغش والتدليس، ففي المعجم للطبراني (عن عائشة أن رسول الله قال : إن الله عز و جل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)
ومن الوفاء ، الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة ، ووفاء الولاة والأمراء بالعهود والمواثيق في علاقاتهم مع الدول
أيها المسلمون
فليعلم العبد أنه سيسأل عن وفائه يوم القيامة، فقد قال عز وجل: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]
فماذا يكون جواب العبد إذا سئل عن وعوده وعهوده وعقوده التي أمره الله تعالى بالوفاء بها وأدائها، فقال سبحانه: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91]
وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]
ماذا يكون جوابه وقد أخلف وعده وضيع عهده وخان أمانته؟.
فليحذر العبد من إخلاف الوعد والعهد، وليعلم أن ذلك من خصال النفاق – نعوذ بالله من النفاق – ففي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ».
فواجب على المسلم أن يفي بما التزم به مع الآخرين من عهود ووعود وعقود في بيع أو إجارة أو عمل، أو غير ذلك من العهود المعروفة، وسواء كانت هذه العقود والعهود والوعود مبرمة بين المسلم وأخيه المسلم، أو بين المسلم وغير المسلم… فالوفاء واجب مع الجميع.
=========================================
17- من أخلاق المسلم : خلق ( غض البصر )
يقول الله تعالى في محكم آياته (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) النور 30 ،31،
وقال عز وجل (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الاسراء 36
وروى مسلم في صحيحه ( عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِى.)
وروى الترمذي وغيره (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ قَالَ
« يَا عَلِىُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ »
وفي صحيح البخاري (مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم –
« إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا ، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ »
ولقد كان السلف الصالح يبالغون في غض البصر حذراً من فتنته ، وخوفاً من عاقبته، وكذلك يحذِّرون من إطلاقه على المحرمات والعورات, وإليك شيئاً مما قالوا:
قال ابن مسعود رضي الله عنه :” ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطعماً “,
وكان الربيع بن خيثم –رحمه الله – يغض بصره فمر به نسوة فأطرق – أي أمال رأسه إلى صدره – حتى ظن النسوة أنه أعمى فتعوذن بالله من العمى.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ” الشيطان من الرجل في ثلاث منازل:
في بصره وقلبه وذَكَرِهِ. ومن المرأة في ثلاث منازل: في بصرها وقلبها وعجزها “,
وقال عيسى بن مريم عليه السلام : ” النظر يزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة “, وقال معروف – رحمه الله -:” غضوا أبصاركم ولوا عن شاة أنثى “,
وقال ذو النون عليه السلام : ” اللحظات تورث الحسرات أولها أسف وآخرها تلف فمن طاوع طرفه تابع حتفه “,
وقال الإمام أحمد – رحمه الله -:” كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل؟ “,
وقال ابن المسيب – رحمه الله -: ” إذا رأيتم الرجل يديم النظر إلى غلام أمرد فاتهموه “, وقال عمر رضي الله عنه : ” الغلام الأمرد أضر على العالم من السبع الضاري “,
وقال ابن القيم – رحمه الله” أول أسباب العشق الاستحسان سواء نظر إليه أو سمع به “
وقال ابن رجب – رحمه الله-: ” لا يجوز النظر إلى الأمرد بشهوة وغيرها من غير حاجة كل ذلك لخوف الفتنة والوقوع في الهلكة “.
والسؤال ، كيف يعالج المسلم نفسه من النظر الى المحرمات ؟
فأقول : على المسلم المبتلى بهذا المرض أن يعالج نفسه بالآتي :
أولها : الدعاء والفرار واللجوء إلى الله تعالى ، فهو الهادي وملجأ المضطرين وغياث الملهوفين ومجير المستجيرين والمفرج الكروب والمصرف والمقلب القلوب ليصرف القلوب للطاعة،
ومن الدعاء المأثور:( اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فانك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
ودعاء يونس، ففي مسند أحمد وسنن الترمذي والمستدرك (عَنْ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ».
وثانيها : التبصير بفوائد غض البصر، وبخطر إطلاق البصر للمحرمات، فالنظر للحرام سببٌ للشقاء والأمراض النفسية؛
وثالثها: استحضار إطلاع الله وإحاطته بك. وتذكر شهادة العينين عليك يوم القيامة.. وأن تعلم أنه لا خيار لك في هذا الأمر مهما كانت الظروف والأحوال.
رابعها : الإكثار من نوافل العبادات. والصوم. وذكر الله على كل حال.
خامسها : تذكر منافع غض البصر.. والبعد عن فضول النظر.
سادسها : مجاهدة النفس وتعويدها على غض البصر, والصبر على ذلك.
سابعها : تجنب المواطن التي تخشى فيها من فتنة النظر, واقطع أسبابه المهيِّجة.
ثامنها : تذكر الموت القبر والحشر والصراط و الجنة والنار.
تاسعها : معرفة أن النظر الحرام زنا العينين.. وتذكر أنك كما تدين تدان.
أيها المسلمون
واعلموا أن إطلاق البصر سبب لأعظم الفتن, فكم فسد بسبب النظر من عابد؟،
وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين؟،
وكم وقع بسببه أناس في الزنا والفاحشة والعياذ بالله؟.
===========================================
18- من أخلاق المسلم : خلق ( مراقبة الله )
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين
: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].
ويقول سبحانه {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الحديد: 4].
ويقول سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19].
ويقول سبحانه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة: 235
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما في حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الإِحْسَانُ قَالَ
« الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » .)
ومراقبة الله :هي “دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه؛
إن عينَ اللهِ تلاحقُك أيها العبد أينما ذهبت، وفي أي مكان حللت،
في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات في الفلوات والجلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، هل علمتَ ذلك واستشعرتَه ؟ فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطنا ؟ فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك ، وتلك هي المراقبة .
إذا ما خلوت الدهرَ يوما فلا تقل……خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً………..ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
أيها المسلمون
خلق مراقبة الله هو الذي منَع يوسفَ نبيَّ الله عن المعصية حينما ابتُلِي
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالمُونَ ﴾ [يوسف: 23]،
وخلق مراقبة الله هو الذي جعَل الفتاة التي أمرَتْها أمُّها أنْ تغشَّ اللبن قبل بَيعِه للناس أنْ تُراجِع أمها قائلةً: يا أمَّاه، ألاَ تَخافِين من عمر؟ تعني: أمير المؤمنين، فقالت لها أمُّها: إنَّ عمر لا يَرانا، فقالت الفتاة: إنْ كان عمر لا يَرانا فرَبُّ عمر يَرانا.
وخلق مراقبة الله هو الذي منع الرجل الذي تمكَّن من المرأة فقالت له:
( اتَّق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه )؛ فقام وترَكَها، وترَكَ المال الذي أعطاها لَمَّا ذكَّرته بتقوى الله، فقام وترَكَها خوفًا من الله ، ومراقبة له، فليعبد المؤمن الله على أنه يراه ويطلع عليه ، فيستحي من نظر الله إليه، فلا يجعل الله أهون الناظرين إليه.
ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خالياً فقال كما في البخاري عن (بَهْزٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – « اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ »
وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة في بعض أصحابه ، فاستراحوا في الطريق فانحدر عليهم راع من جبل. فقال له عمر : يا راعي الغنم بعنا شاة . فقال الراعي : إنه مملوك – أي أنا عبد مملوك – .قال له عمر : قل لسيدك أكلها الذئب . فقال الراعي : أين الله فبكى عمر واشترى الغلام من سيده واعتقه .
وراود بعضهم أَعرابية عن نفسها فقال لها : لا يرانا إلا الكواكب.
فقالت له : أين مكوكبها – أي أين خالقها ومصرفها ومدبرها ألا يراك .
إنها مراقبة الله إذا تمكنت من قلب المؤمن
ومن ثمرات المراقبة الإيمان. فقد روى أبو داود في سننه والبيهقي عن عبد الله بن معاوية رضي الله عنه (قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإِيمَانِ ، مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ )
ومن ثمرات خلق مراقبة الله البعد عن المعصية. ففي صحيح مسلم ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً – وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ – فَقَالَ ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا. وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً – إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ ».
ومن ثمرات خلق مراقبة الله تحسين العبادة وأداؤها على أكمل وجه.
قال ابن منظور رحمه الله: “من راقب الله أحسن عمله”
ومن ثمرات خلق مراقبة الله أنها تورث الإخلاص.قال الحسن رحمه الله:
“رحم الله عبدا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر”
ومن ثمرات خلق مراقبة الله الطهر والعفاف. كما في حديث الثلاثة الذين سدت الصخرة عليهم مدخل الكهف وتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم
وهذا هو الربيع بن خُثَيْم رحمه الله الذي كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول له:
“يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبَّك، وما رأيتُك إلا ذكرتُ المخبتين”
ومن ثمرات خلق مراقبة الله الجنة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك/12]. وهم الذين إذا خلوا لم يأتوا ما حرم الله عليهم.
ومن أخبار الصالحين في المراقبة :
ما جاء في السنن الكبرى للبيهقي عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الليل، فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه — وأرقني أن لا حبيب ألاعـبه
فو الله لولا الله أنى أراقبـه — لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصــدني — وإكـرام بعلي أن تنال مراتبه
فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لحفصة رضى الله عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر. فقال: لا أحبس الجيش أكثر من هذا.
وأذكر لكم بعض النماذج للذين يراقبون الله تعالى في أعمالهم وأحوالهم ، ليكون لنا فيهم أسوة حسنة
فهذا عروة ابن الزبير -رضي الله عنه- خطب ابنة عبد الله بن عمر سودة وعبد الله بن عمر يطوف بالكعبة في الحج فلم يرد عليه، فقال عروة: “لو كان يريد لأجابني”، والله لا أعود إليه – يعني في هذا الشأن – يقول: “فسبقني إلى المدينة، فلما أتيتها قدمت المسجد فإذا هو جالس فيه، فسلمت عليه”، فقال: “قد ذكرت سودة”، فقلت: “نعم”، فسأله عن رغبته، هل لا يزال يرغب فيها في الزواج منها، فقلت: “نعم”، فقال: “إنك قد ذكرتها لي وأنا أطوف بالبيت أتخايل الله عز وجل بين عيني، وكنتَ قادراً على أن تلقاني في غير ذلك الموطن”،
لاحظ ما رد عليه ، لأنه كان مشغولا بالله مراقبا له ،
وكان هناك رجل اسمه نوح ابن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق. وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنيا قليلا ولا كثيرا ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء. أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها وكن على خدمتها إلى أن آتيك. مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين. وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين. جلس تحت شجرة وقال يا مبارك، أتني بقطف من عنب.
جاءه بقطف فإذا هو حامض. فقال أتني بقطف آخر إن هذا حامض. فأتاه بآخر فإذا هو حامض. قال أتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض.
كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج. ألا تعرف حلوه من حامضه ؟
قال : والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته.
والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة.
والذي لا إله إلا هو ما راقبتك ، ولا راقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أعجب به، وأعجب بورعه وقال الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والمستشار مؤتمن.
وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت ؟ فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب.
واليهود يزوجون للمال. والنصارى للجمال. وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق. وعلى عهدنا هذا للمال والجاه .والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة ؟نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيرا من مبارك، قال أنت حر لوجه الله (أعتقه أولا).ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت.
قال أعرض عليها. فذهب وعرض على البنت وقال لها:
إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك.
قالت أترضاه لي ؟ قال نعم. قالت : فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فكان الزواج المبارك من مبارك.
فما الثمرة وما النتيجة ؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلا أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل. إنه عبد الله ابن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيا بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله عز وجل في كل شيء .
وكذلك سيدنا أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه قصة زواج أبيه من أمه بسب أن أباه كان يراقب ربه في كل أوقاته حتى أنه كان يمر ذات يوم في طريق بجوار بستان فسقطت ثمرة من شجرة في هذا البستان فأخذها وهو جائع فأكلها ولكنه لم يكملها تذكر أنه لم يستأذن صاحب البستان فبحث في البستان عن صاحبه فإذا بالعامل الذى يعمل في البستان فأراد أن يستأذنه في الثمرة التي أكلها
فقال إن البستان ليس لي إنما أنا أعمل فيه بالأجرة ولا أستطيع أن أأذن لك يشيء ولكن صاحب البستان على مسيرة أيام إن شئت اذهب إليه واستأذنه
وفعلا ذهب والد الإمام أبو حنيفة إلى أن وصل إلى صاحب البستان وطلب منه أن يسامحه في الثمرة التي أكلها أو يأخذ ثمنها
فلما عرف صاحب البستان أن هذا الرجل قطع كل هذه المسافة ليأخذ الإذن علم بتقواه وبمراقبته لربه فقال له لن أذن لك إلا أن تتزوج ابنتي
فوافق الرجل وقال له أولا إن ابنتي عمياء صماء بكماء قعيدة فوافق على أن يسامحه في ما أكل ، ولما تزوجها ودخل بها قال في نفسه هل أسلم عليها ولكنها صماء لا تسمع سلامى ولو سمعت لما ردت على ولكنه قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فردت عليه السلام ، إنها تسمع وتتكلم وعندما قامت تمشى نحوه علم أنها ليست قعيدة وأنها ترى فقال لها متعجبا إن أباك قال كذا وكذا
قالت حقا ما قال أبى فإني عمياء لا أرى إلا ما أحل الله لي وبكماء لا أنطق إلا بالحلال وصماء لا أسمع إلا الخير وعمياء لا أرى ما حرم الله قعيدة عن الشر مسرعة إلى الخير وجاء من نسلهما سيدنا الإمام أبو حنيفة النعمان
أيها المسلمون
على المسلم أن يعود نفسه على مراقبة الله تبارك وتعالى لأنّ الله مطلع عليها وعالم بأسرارها رقيب عليها .وأن يتبع السيئة الحسنة تمحها ،
قال تعالى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } هود 114.
فالإنسان إذا أساء سيئة في سريره فليحسن حسنة في سريره،
وإذا أساء سيئة في علانية فليحسن حسنة في علانية.
والحسنات التي تمحو السيئات كثيرة، منها الوضوء، الصلاة، الصيام، الحج ، ذكر الله عز وجل …كلها مكفرات .
أيها المسلمون
وكما رغبنا الاسلام في خلق مراقبة الله فقد حذرنا من التخلي عن هذا الخلق وترك العمل به
فعدم المراقبة من صفات المنافقين .قال تعالى:
(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) [النساء/107، 108].
والمعنى: “يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة، ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه، وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه، مطلع عليهم حين يدبِّرون – ليلا- ما لا يرضى من القول، وكان الله – تعالى- محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه منها شيء”
ومن خطورة عدم التخلق بمراقبة الله ،تعريض الحسنات للضياع.
فعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا الله عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ الله صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ:
«أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» رواه ابن ماجة.
وقال: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ الله تعالى» رواه مالك في الموطأ.
=====================================
19- من أخلاق المسلم : خلق ( الأمانة )
قال الله تعالى في محكم آياته (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الاحزاب 72 ،
وفي سنن البيهقي قال صلى الله عليه وسلم « لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ )
والأمانة : هي كل ما ائتمن الإنسان عليه وأُمر بالقيام به
والأمانة يدخل فيها أنواع كثيرة ، منها :
الأمانة العظمى هي الدين والتمسك به ، قال تعالى :
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الاحزاب 72
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : الأمانة تعم جميع وظائف الدين .
ومن الأمانة تبليغ هذا الدين ، فالرسل أمناء الله على وحيه ، ففي البخاري ومسلم(فَقَالَ صلى الله عليه وسلم « أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً »
وكذلك كل من جاء بعده من العلماء والدعاة، فهم أمناء في تبليغ هذا الدين
وكل ما أعطاك الله من نعمة فهي أمانة لديك يجب حفظها واستعمالها وفق ما أراد منك ، فالبصر أمانة ، والسمع أمانة، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، واللسان أمانة ، والمال أمانة أيضاً ، فلا ينفق إلا فيما يرضي الله . والعرض أمانة ، فيجب عليك أن تحفظ عرضك ولا تضيعه ، فعلى المسلم أن يعلم أن الجوارح والأعضاء كلها أمانات، يجب عليه أن يحافظ عليها، ولا يستعملها فيما يغضب الله سبحانه؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: (الْعَيْنُ تَزْنِي ، وَالْقَلْبُ يَزْنِي ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزْنَا الْقَلْبِ التَّمَنِّي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ مَا هُنَالِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ). أخرجه أحمد
والولد أمانة ، فحفظه أمانة ، ورعايته أمانة ، وتربيته أمانة .
ففي صحيح البخاري (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ
« كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ – وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ »
والعمل الذي توكل به أمانة ، وتضييعه خيانة ،فقد روى البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » . قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ »
والولاية والحكم والإمارة كلها أمانة وهكذا قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما سأله أن يوليه كما في صحيح مسلم (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِى قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ
« يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ فِيهَا ».
والسر أمانة ، وإفشاؤه خيانة ، ولو حصل بينك وبين صاحبك خصام فهذا لا يدفعك لإفشاء سره ، فإنه من لؤم الطباع ، ودناءة النفوس ، قال صلى الله عليه وسلم : كما في سنن الترمذي ( عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ » .
ومن أشد ذلك إفشاء السر بين الزوجين ، وشاهده في صحيح مسلم (أن أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا »
ومن الأمانة ، الودائع ، وهذه يجب المحافظة عليها ، ثم أداؤها كما كانت .
ومن صور الأمانة في حياتنا الأمانة في العبادة: فمن الأمانة أن يلتزم المسلم بالتكاليف، فيؤدي فروض الدين كما ينبغي، ويحافظ على الصلاة والصيام والزكاة وبر الوالدين، وغير ذلك من الفروض التي يجب علينا أن نؤديها بأمانة لله رب العالمين ,عَنْ عَبْد ِاللهِ بْنِ عَمْروٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا، فَقَالَ : مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا ، كَانَتْ لَهُ نُورًا ، وَبُرْهَانًا ، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نًورٌ ، وَلاَ بُرْهَانٌ ، وَلاَ نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ ، وَفِرْعَونَ ، وَهَامَانَ ، وَأبَيِّ بْنِ خَلَفٍ ). أخرجه أحمد والدارمي وقال عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه (مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ )
ومن الأمانة أن يؤدي المرء ما عليه على خير وجه، فالعامل يتقن عمله ويؤديه بإجادة وأمانة، والطالب يؤدي ما عليه من واجبات، ويجتهد في تحصيل علومه ودراسته، ويخفف عن والديه الأعباء، وهكذا يؤدي كل امرئٍ واجبه بجد واجتهاد. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا : أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم قَالَ 🙁 إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ). أخرجه البيهقي وصححه الألباني
أما عن الأمانة في البيع والشراء : فالمسلم لا يغِشُّ أحدًا، ولا يغدر به ولا يخونه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ ، فَإِذَا هُوَ طَعَامٌ مَبْلُولٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا.
وفي رواية : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا ، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي. ) أخرجه “أحمد” “مسلم” التِّرمِذي.
ولقد اتصف النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره بالأمانة ، ولقب بين قومه ( بالصادق الأمين )
حتى وقومه يعادونه لم ينفوا عنه هذه الصفة , كما جاء في حوار أبي سفيان وهرقل ، حيث قال هرقل : سَأَلْتُكَ : هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِر)البُخَاريّ
ولقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة دليلا على إيمان المرء وحسن خلقه،
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ). أخرجه أحمد
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ قَالَ: (لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ. أخرجه أحمد ،
ولقد كانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع الوصية بالأمانة فقال
” وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا – وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ – أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ – ثُمَّ قَالَ – لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ ). أخرجه أحمد
وفي قصص السابقين يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نماذج لأهل الأمانة ، لنقتدي بهم
، قال صلى الله عليه وسلم وهو يحكي لأصحابه رضي الله عنهم : في الحديث المتفق عليه
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ ، قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم –
« اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِى اشْتَرَى الْعَقَارَ فِى عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ ، فَقَالَ لَهُ الَّذِى اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّى ، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ . وَقَالَ الَّذِى لَهُ الأَرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا ، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ ، فَقَالَ الَّذِى تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِى غُلاَمٌ . وَقَالَ الآخَرُ لِى جَارِيَةٌ . قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ ، وَتَصَدَّقَا »
وقصة آخرى يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الأمانة ، والوفاء بالوعد ، ففي البخاري
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ . فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا .قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ . قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً . قَالَ صَدَقْتَ . فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا ، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً ، فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً ، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً ، فَرَضِىَ بِكَ ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ، فَرَضِىَ بِكَ ، وَأَنِّى جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا ، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِى لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا . فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَهْوَ فِى ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا ، يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ ، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِى طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى أَتَيْتُ فِيهِ . قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَىَّ بِشَيْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّى لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِى جِئْتُ فِيهِ . قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِى بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا »
أيها المسلمون
جعل النبي صلى الله عليه وسلم نزع الأمانة من قلوب الرجال عند فساد الزمان من علامات الساعة , ففي الحديث المتفق عليه (عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ ، قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ ، حَدَّثَنَا: أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ ، قَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِن قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ ، فَنَفِطَ ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا ، وَلَيْسَ فَيهِ شَيْءٌ (ثُمَّ أ\\َخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ) فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ ، لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ ، حَتَّى يُقَالَ : إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا ، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أَجْلَدَهُ ، مَا أَظْرَفَهُ ، مَا أَعْقَلَهُ ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ ، وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ يَهُودِيًّا ، لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لأُبَايِعَ مِنْكُمْ ، إِلاَّ فُلاَنًا ، وَفُلاَنًا ).
وقد أمر الشارع بحفظ الأمانة وأدائها ، وذم الخيانة ، وحذر منها في نصوص كثيرة منها
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) النساء 58،
وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الانفال 27،
=============================================
20- من أخلاق المسلم : خلق ( التقوى )
يقول سبحانه عن المتقين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الحديد 28..
ويقول سبحانه( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة 27.ويقول سبحانه (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات 13
ويقول سبحانه ( وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ) مريم 71 ، 72..
ويقول سبحانه ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) النحل 128.
وقوله تعالى (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ) مريم 63،
وروى ابن حبان في صحيحه والطبراني في معجمه واللفظ له عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ :
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ : (أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا رَأْسُ أَمْرِكَ ..) ،
ومعنى التقوى : أن تجعل بينك وبين ما حرّم الله حاجبا وحاجزا ووقاية.
وعرّفها الامام علي بن أبي طالب .فقال:
( هي الخوف من الجليل.. والعمل بالتنزيل .والقناعة بالقليل.. والاستعداد ليوم الرحيل)
وسأل عمر كعبا فقال له: ما التقوى؟.. فقال كعب: يا أمير المؤمنين.. أما سلكت طريقا فيه شوك؟.. قال: نعم. قال: فماذا فعلت؟.. فقال عمر : أشمر عن ساقي.. وانظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى.. مخافة أن تصيبني شوكة. فقال كعب: تلك هي التقوى..
نعم فتقوى الله ..تشمير للطاعة، ونظر في الحلال والحرام، وورع من الزلل، ومخافة وخشية من الكبير المتعال .وقال بعض الصالحين: التقوى:(أن يراك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك) ..
والتقوى محلها القلب ففي صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ».
وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ
كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »…
فليست التقوى مظهرا يكون عليه العبد.. فيطأطأ رأسه أو يتمتم بشفتيه.. ولكن التقوى في القلب ففي الحديث: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلا أَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )
والتقوى هي منبع الفضائل كلها.. فالرحمة والوفاء والصدق والعدل.. والورع والبذل والعطاء.. كلها ثمرات من ثمار شجرة التقوى.. التي تنبت في القلب… وتثمر في الجوارح
والتقوى.. هي التي تصحبك إلى قبرك.. فهي المؤنس لك من الوحشة.. والمنجية لك من عذاب الله في يوم الحسرة
(دخل سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه المقبرة يوما .. فنادى:
( يا أهل القبور.. ما الخبر عندكم:… إن الخبر عندنا ..أن أموالكم قد قسمت ..
وأن بيوتكم قد سكنت.. وإن زوجاتكم قد زوجت.. ثم بكى ثم قال: والله..
لو استطاعوا أن يجيبوا.. لقالوا:.. إنا وجدنا.. أن خير الزاد التقوى ).
والسؤال كيف يتقي العبد ربه؟.. فأقول :
أن تتقي الله في أقوالك وأفعالك وأحوالك ..فتقدم أمر الله على أمرك. .وتقدم قول الله على قولك.. و تقدم حكم الله على حكمك.. وتقدم قضاء الله واختيار الله على اختيارك .
قال تعالى:( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة 216 ويقول سيدنا عمر.(والله لا أبالي. على خير أصبحت أم على شر.. لأني لا أعلم ما هو الخير لي ولا ما هو الشر لي)..
وتقوى الله في قلبك :أن يكون قلبك سليما فلا غل ولا حسد ولا كراهية ولا ضغينة ..
(قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ
« كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ». قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ
« هُوَ التَّقِىُّ النَّقِيُّ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْىَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ »..
تقوى الله في قلبك أن تكون متواضعا… فلا كبر ولا عجب ففي مسند احمد (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلاً وَرَأْسِي دَهِيناً وَشِرَاكُ نَعْلِى جَدِيداً – وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ – أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ ذَاكَ الْجَمَالُ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ ».
وتقوى الله.. تكون في تعاملك.. فلا غش ولا خداع ولا كذب.. لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ) صحيح ابن حبان ..
وتقوى الله تكون في مطعمك ومشربك: فلا يدخل جوفك الحرام فإذا أكل العبد الحرام.. فلا تقبل منه طاعة.. ولا دعاء ولا صلاة ولا صوم ولا حج ..
وتقوى الله تكون في جوارحك… في لسانك: قال عقبة بن عامر:
((مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: “يَا عُقْبَةُ , أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ” رواه الترمذي
وتقوى الله تكون في بصرك: قال تعالى:(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) غافر 19..
قال ابن عباس: (هو الرجل يكون مع القوم.. فإذا مرت المرأة بهم نظر إليها إذا غفلوا عنه.. وإذا فطنوا ..غض بصره ..وقد اطلع الله على ما في قلبه أنه يود أن يرى عورتها)،
وفي الحديث: (فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ) رواه احمد ..
وتقوى الله تكون في رحمك وأقاربك : ففي الحديث: ((يقول الله عز وجل: (إِنِّي أَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.. خَلَقْتُ الرَّحِمَ.. وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنْ أَسْمَائِي.. فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ.. وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ ) الترمذي وغيره …
وتقوى الله تكون في أهل بيتك.. مع زوجتك وأولادك : فلا ظلم .. ولا سوء عشرة.. وقد قيل: ((إن الرجل ليكتب عند الله جبارا وليس عنده إلا أهل بيته)..ومن التقوى أن لا تبخل في الإنفاق على أهل بيتك ففي صحيح مسلم (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ »
ومن التقوى ..أن تعدل بين نسائك إن كانوا أكثر من واحدة ففي سنن ابي داود (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ ».
كيف تحقق التقوى؟ : يكون تحقيق التقوى بعدّة أمور على المرء أن يستعين بها ليكون من المُتقّين بإذن الله تعالى ونذكر منها :
إخلاص النيّة لله وحده في سائر الأعمال؛ فالنيّة هيَ مدار الأعمال وعليها يكون قبولها عند الله عزَّ وجلّ، فأنت تُقبل على الله بقلبك قبل الإقبال عليه بجسدك في أداء المناسك والعبادات، فإذا أخلصت فؤادك وقلبك لله أنزل الله عليه اليقين والإيمان وألبسكَ ثوب التقوى فكُنت أحقَّ بها وأهلها.
القيام بالفرائض التي افترضها الله عزَّ وجلّ عليك؛ فأولى ما يجب أن تقوم بتأديته أولاً هو تأدية الفرض ثُمّ التوسّع بعد ذلك في النوافل والسنن، لأنَّ القيام بالعبادات المأمور تأديتها شرعاً هوَ من التقوى التي تجعل بينك وبين النار والعذاب وقاية وحرزاً.
الابتعاد عن المُحرّمات والمعاصي كبيرها وصغيرها، فلا يُعقل أنّك تتقي الله بأفعال تقودكَ إلى سوء المُنقلب في الآخرة وإلى عذاب الله يوم القيامة، وكلّما كُنت أكثر بُعداً عن الوقوع في المُحرّمات ألبسكَ الله ثوبَ التقوى الذي به تخشع الجوارح والأركان وتطمئن.
الإكثار من العبادات السريّة والتي تكون بمنأى عن أعين الناس؛ كإخراج الصدقات، وإغاثة المنكوبين من دون البحث عن السُمعة والإشهار، فكلّما كانَ العمل بينك وبين الله دون أن يطّلع عليه أحد من الخلق كانَ أزكى وأطهر وأعظم أثراً في نفسك وهذهِ هي التقوى.
عليكَ أن تتذكّر ثمار التقوى وترغّب نفسك بها، وهذه الثِمار هي وعود إلهيّة تكفّل الله بها لعباده المُتّقين؛ كالرزق من غير حساب، والعون عند الكرب، والفرج عند نزول المصائب، والمخرج من كلّ ضيق.
أما عن جزاء المتقين : فالتقوى سبب لثواب الدنيا و خيراتها وبركاتها يقول سبحانه:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ ) الاعراف 96،
ويقول سبحانه (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق 2،3 .
ويقول سبحانه ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) الطلاق 4..
وأما في ثواب الآخرة ونعيم الجنة فاقرأوا إن شئتم قوله تعالى 🙁 لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) الزمر (20)
وقوله تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ) القمر 54 ،55 .
وقوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) المرسلات (41) :(44)
===============
21- من أخلاق المسلم : خلق ( التوكل على الله )
يقول الله تعالى في محكم آياته(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يونس (84)
وقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (79) النمل
والتوكل على الله معناه: صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلّها،
والتوكل معناه : تفويض الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.
والتوكل معناه: قطع القلب عن العلائق .ورفض التعلّق بالخلائق. وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، لا إله إلا هو..
التوكل على الله : هو صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، وثقة بالله وفي الله، وأمل يصحبه العمل، وعزيمة لا ينطفئ وَهَجُها مهما ترادفت المتاعب..
والمتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين:
“متى رضيتَ بالله وكيلاً وجدتَ إلى كل خير سبيلاً )..
التوكل : إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة،.
التوكل: تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات ..
والتوكل غذاء الجهاد الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم مظالم الطغاة وبغي المستبدّين كما بيّنه الله تبارك وتعالى: ( وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم 12،
التوكل الحق هو الإرادة القوية، وليس العجز والكسل وليس من التوكل ترك العمل بالأسباب فمن أقوال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (أرى الرجل، فيعجبني، فإن قيل: لا حرفة له سقط من عيني)،
فالرجل العاطل عن العمل يكون محتقراً في نظر أمير المؤمنين..
وشاهد عمر بن الخطاب أناساً يتعبدون في المساجد ولا يعملون، فسألهم عن عملهم فقالوا: نحن متوكلون، فقال لهم: لا، أنتم متواكلون، وبادرهم بالدرة. أي بالعصا التي يحملها،
ثم قال: المتوكل هو الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله، أي الذي يعمل ثم يتوكل على الله .
وفي سنن الترمذي (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضى الله عنه يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ « اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ »..
وهذا إمام المتوكلين نبينا محمد قد اختفى في الغار عن الكفار، وقد لبس درعين يوم أحد ، وقال: (من يحرسنا الليلة؟)، وتعاطى الدواء، وأمر بإغلاق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال سبحانه لنبيه لوط عليه السلام:( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) هود 81،
وأوحى إلى نبيه موسى: (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) الشعراء 52،
ونادى أهل الإيمان فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) النساء 71،
فليس التوكل بإهمال العواقب وترك التحفظ، .فهناك فرق شاسع بين التوكل والتواكل
وفي صحيح البخاري(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ).
في غزوة ذات الرقاع، كما في صحيح البخاري(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُ ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِى الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – تَحْتَ سَمُرَةٍ ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ، قَالَ جَابِرٌ فَنِمْنَا نَوْمَةً ، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – يَدْعُونَا ، فَجِئْنَاهُ فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ جَالِسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –
« إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِى ، وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ ، وَهْوَ فِى يَدِهِ صَلْتًا ، فَقَالَ لِى مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى قُلْتُ اللَّهُ . فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ » . ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
ودين الإسلام يأبى أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقةً لمعصية الله الرزاق ، ففي مسند البزار ، قال صلى الله عليه وسلم : (قَالَ : هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ).
وروى الترمذي وابن ماجة والحاكم في مستدركه عن عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً »
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَالَ – يَعْنِى إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ – بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ. وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ »..
أيها الموحدون
ومن ثمار التوكل على الله أنه موجب لدخول الجنات كما قال سبحانه:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (58) ،(59) العنكبوت
بل المتوكلون حقاً يدخلون جنة ربهم بغير حساب, كما وصفهم نبيهم بذلك في البخاري: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ »)..
والتوكل مانعٌ من عذاب الله كما قال سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (28) ،(29) الملك
والتوكل صفة لأهل الإيمان يتميزون به عمن سواهم ، قال تعالى 🙁 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (2) الانفال </strong%