خطبة عن قوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)
ديسمبر 1, 2018خطبة عن السنن الربانية (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)
ديسمبر 1, 2018الخطبة الأولى ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (55) :(64) ص
إخوة الإسلام
حديثا اليوم -إن شاء الله- عن : مخاصمة أهل النار بعضهم بعضا ، كما قال الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (64) ص ، فعندما يعاين الكفرة أعداء الله ما أعده الله لهم من العذاب الأليم، وما أصبحوا فيه من الهول والفزع عظيم، يمقتون أنفسهم ،كما يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا ، بل تنقلب كل محبة وصداقة لم تقم على أساس من الإيمان إلى عداء ، قال الله تعالى : ( الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) [الزخرف : 67] ، ففي ذلك اليوم يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً ، ويحاج بعضهم بعضاً، ويفضح بعضهم بعضا ، ويتبرأ كل منهم من الآخر ، يتبرأ العابدون والمعبودون ، والأتباع والسادة المتبوعون ، والضعفاء والمتكبرون ، والإنسان وقرينه ، بل ويخاصم الكافر أعضاء جسده ، وتعالوا بنا إلى القرآن الكريم ، لنرى هذه المخاصمة وتلك المجادلة واضحة جلية : – أما مخاصمة العابدين والمعبودين : ففي قوله تعالى : ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ – وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ – مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ – فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ – وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ – قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ – تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ – إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ – وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) [ الشعراء : 91-99 ] ، هكذا يخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها ، ويسوون بينها وبين الخالق ، وقد خاب وخسر من رفع المخلوق إلى مرتبة الخالق ، وكل من عبد من دون الله آلهة ، فقد سوى بين الخالق والمخلوق ، وهذا هو الظلم العظيم ، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه : ( يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) [ لقمان : 13 ]
أما الصالحون الأخيار الذين عبدوهم وهم لا يعلمون ، أو عبدوا بغير رضاهم كالملائكة وصالحي البشر ، فإنهم يتبرؤون من عابديهم ، ويكذبون زعم العابدين وافتراءهم ، فالملائكة لم طلبت هذه العبادة ، ولا رضيت بها ، والذين طلبوها هم الجن، كي يضلوا البشر عن الطريق المستقيم ، فهؤلاء الضالون هم عابدون للجن لا للملائكة ، قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ – قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ) [ السبأ : 40-41 ] . وهذا عيسى ابن مريم ( عليه السلام ) يتبرأ يوم القيامة من الذين اتخذوه إلهاً ، وعبدوه من دون الله ، قال الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ – مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ … ) [المائدة : 116-117] ،هذا هو موقف جميع المعبودات التي لم ترض باتخاذها آلهة ، فإنها تتبرأ من عابديها ، وتكذبهم في دعواهم ، وتقرُّ بعبوديتها لله ربها ،قال الله تعالى : ( وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ – وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) [ النحل : 86-87 ] .وقال الله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ – فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ – هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) [ يونس : 28-30 ] .
– وأما تخاصم الأتباع مع قادة الضلال من أصحاب الفكر ، والنظريات الضالة ، والمبادئ المناقضة للإسلام ، فقد ذكرها الله في موضع آخر فقال تعالى : ( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ – وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ – هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ – احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ – مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ – وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ – مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ – بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ – وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ – قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ – قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ – وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ – فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ – فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ- فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ – إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ – إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) [ الصافات : 19-35 ] .هكذا يتلاوم أهل النار في عرصات القيامة ، فالأتباع يقولون لقادة الضلال : أنتم الذين كنتم تزينون لنا الباطل ، وتغروننا بمخالفة الحق ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) [البقرة : 257] ، ولكن القادة والعظماء ، ورجال الفكر والزعماء ، يرفضون هذا الاتهامات ، ويقولون لهم : أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم فقد اخترتم الكفر ، ولم يكن لنا من سلطان عليكم ، إن طغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية .
أيها المسلمون
أما مخاصمة الضعفاء للسادة من الملوك والأمراء ،والحكام والرؤساء ،الذين كانوا يتسلطون على العباد ، ويشدُّوا أزرهم ، ويعينوهم على باطلهم بالنفس والمال ، والاعلام الكاذب ، فقد ذكرها الله تعالى في قوله تعالى : ( وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ) [ إبراهيم : 21 ] . يقول (سيد قطب) – رحمه الله – في كتابه الظلال : ( وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا ) [ إبراهيم : 21 ] أي الطغاة المكذبون ، وأتباعهم من الضعفاء المستذلين .. ومعهم الشيطان .. ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات .. برزوا (جميعاً) مكشوفين .. وهم مكشوفون لله دائماً ، ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون لا يحجبهم حجاب ، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق .. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار ، وبدأ الحوار : ( فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ ) والضعفاء هم الضعفاء . هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة . ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله . والضعف ليس عذراً ، بل هو الجريمة فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً ، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحرية – التي هي ميزته ومناط تكريمه – أو أن ينزل كارهاً . والقوة المادية – كائنة ما كانت – لا تملك أن تستبعد إنساناً يريد الحرية ، ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد ، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . أما الضمير. أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها ، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال ، من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة ، وفي التفكير، وفي السلوك ؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله ، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ؟ لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة . فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة ، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً .. كلا ، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان !
إن المستضعفين كثرة ، والطواغيت قلة . فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ؟ وماذا الذي يخضعها ؟ إنما يخضعها ضعف الروح ، وسقوط الهمة ، وقلة النخوة ، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان ،إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير . فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان ،إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء .. ، وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة !! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم : ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ ) [إبراهيم : 21] ،وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم ؟ أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة ، وتعريضهم إياهم للعذاب ؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال ،ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال، قال الله تعالى : ( قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ) [إبراهيم : 21] . وهو رد يبدو فيه البرم والضيق : ( لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ) . فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد ؟ إننا لم نهتد ونضلكم . ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا ، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال ! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله . فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها ، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حساباً لقدرة القاهر الجبار . وإنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله .. والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ) [ الأعراف : 28 ] ، ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي ، فيعلنوا لهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر . فقد حق العذاب ، ولا راد له من صبر أو جزع ، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ، وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله . لقد انتهى كل شيء ، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص :( سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ) [ إبراهيم : 21 ] .
لقد قضي الأمر ، وانتهى الجدل ، وسكت الحوار .. وهنا نرى على المسرح عجباً.. نرى الشيطان .. هاتف الغواية ، وحادي الغواة .. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان ، أو مسوح الشيطان ! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء ، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ إبراهيم : 22 ] . إن الشيطان حقاً لشيطان ! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار .. إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور ، وأغرى بالعصيان ، وزين الكفر ، وصدهم عن استماع الدعوة .. ، هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة ، حيث لا يملكون أن يردوها عليه – وقد قضي الأمر – هو الذي يقول الآن ، وبعد فوات الأوان :( إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له ، وليس له عليهم من سلطان ، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم ، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم ، فاستجابوا لدعوته الباطلة ، وتركوا دعوة الحق من الله :( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم يؤنبهم ، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم ، يؤنبهم على أن أطاعوه ! ، قال تعالى : ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم يتخلى عنهم ، وينفض يده منهم ، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم ، ووسوس لهم أن لا غالب لهم ، فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا ، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ : ( مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) [ إبراهيم : 22 ] ثم يبرأ من إشراكهم به ، ويكفر بهذا الإشراك : ( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه : ( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ إبراهيم : 22 ] . فيا للشيطان ، ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه ، ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوهم
أيها المسلمون
وفي موضع آخر يذكر الله تخاصم الضعفاء والسادة المستكبرين فيقول الله تعالى : ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ – قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) [ المؤمن : 47-48 ] . وهذه الآيات الكريمة تأتي بعد الإخبار بما كان من استعلاء فرعون من تذبيحه الأطفال ، ومحاولته قتل موسى ، ومحاورته ذلك المؤمن الذي واجه فرعون ودحض حجته وباطله ، وكيف وقف الشعب موقف التابع الذي ينفذ رغبات الطاغية ، فيقوم أفراده بالتذبيح والإيذاء والمطاردة ، هؤلاء الذين كانوا في الدنيا أعواناً للظلمة المجرمين يعلمون في يوم القيامة فداحة الجريمة التي وقعوا فيها ، ويقولون للسادة أمثال فرعون : ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ) [المؤمن : 47] ، ولكن السادة لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يستطيعون نصر أنفسهم فيقولون : ( إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) المؤمن : 48 . وهذا الموقف يدلنا على الجواب الذي يمكننا أن نواجه به المقولة الباطلة التي يرددها بعض الظلمة حيث يقولون لأتباعهم : اتبعوني ، وأنا أتحمل وزركم إن كان عليكم وزر ، فإن تحملهم مثل أوزار الذين يضلونهم ، لا يمنع العذاب عن الذين اتبعوهم ، قال الله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ – وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) [ العنكبوت : 12-13 ] . وقال الله تعالى في موضع آخر محدثاً عن مخاصمة الضعفاء للمستكبرين : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ – قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ – وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سبأ : 31-33 ] . فالأتباع والضعفاء يتهمون سادتهم وزعمائهم قائلين لهم : أنتم الذين حلتم بيننا وبين الإيمان ، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل إلينا من ربنا ، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة ، ويقولون لهم : أنتم المجرمون ، كل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا ، ولم يكن لنا عليكم من سلطان ، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة : بل مكركم بنا في الليل والنهار أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب ، فالمؤامرات والمؤتمرات ، ووسائل الإعلان في مختلف العصور التي تصور الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، وما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم باطلة ، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله ، ونشرك به والحق أن الجميع خاطئون ، وهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم .
ويصف الحق هذا التخاصم بين أهل النار عند دخولهم النار فيقول سبحانه وتعالى : ( هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ – جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ – هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ – وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ – هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ – قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ – قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ – وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ – أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ – إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) [ص : 55-64] . فهؤلاء الذين كان بعضهم يرحب ببعض في الحياة الدنيا ، ويوقِّر بعضهم بعضاً ، يتحول حالهم في ذلك اليوم فيقول بعضهم لبعض : ( لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ – قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) [ ص : 59-60 ] ، ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد من كانوا أحبابه في الدنيا من العذاب والآلام ، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك في ذلك ، كذلك يقول ربنا تبارك وتعالى . – كما يقع الخصام في ذلك اليوم بين الكافر وقرينه الشيطان ، قال الله تعالى : ( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ – أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ – مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ – الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ – قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ – قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ – مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) [ ق : 23-29 ] . ويبلغ الأمر أشده في المخاصمة عندما يخاصم المرء أعضاءه ، قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ – حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ – وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ فصلت : 19-21 ] .
أقول قولي وأستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
عندما يعاين الكفار العذاب الشديد الذي أعده الله لهم ، يلجؤون إلى التكذيب والإنكار ، ويزعمون أنهم كانوا صالحين ، ويكذبون بشهادة الملائكة والمرسلين والصالحين الذين يشهدون عليهم ، فعند ذلك يختم الله على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك يقولون لأعضائهم : ” بعداً لكنَّ وسحقاً ، عنكن كنت أجادل ” ، فقد أخرج مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي . ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ. وَيُثْنِى بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ فَيَقُولُ هَا هُنَا إِذًا – قَالَ – ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ. وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْهَدُ عَلَىَّ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِى يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ ». وهذا الحوار الذي يجري بين العبد وجوارحه موضع عجب واستغراب ، وقد أضحك هذا الموقف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ فَقَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ ». قَالَ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ قَالَ يَقُولُ بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ عَلَى نَفْسِى إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّى قَالَ فَيَقُولُ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا – قَالَ – فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ انْطِقِي. قَالَ فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ – قَالَ – ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ – قَالَ – فَيَقُولُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا. فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ ».
– ومن المخاصمة : أن يخاصم البدن في يوم القيامة الروح : قال ابن كثير : ” وقد روى ابن منده في كتاب ( الروح ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت . ويقول الجسد للروح : أنت أمرت ، وأنت سولت .فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما ، فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير ، والآخر ضرير دخلا بستاناً . فقال المقعد للضرير : إني أرى ها هنا ثماراً ، ولكن لا أصل إليها .فقال له الضرير : اركبني فتناولها . فركبه فتناولها . فأيهما المعتدي ؟ فيقولان : كلاهما . فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما . يعني أن الجسد للروح كالمطية ، وهو راكبه ” – وفي ذلك الموقف العصيب ،يمقت الكفار أنفسهم ، قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ) [ المؤمن : 10 ] ، كما يمقتون في هذا اليوم كل الذين كانوا لهم أنصاراً وخلاناً في الدنيا ، ويدعون عليهم ، ويطلبون لهم المزيد من العذاب ، قال الله تعالى : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا – وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا – رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) [ الأحزاب : 66-68 ] ، ولشدة حنقهم على من أضلهم يسألون الله أن يريهم الذين أضلوهم ليدوسوهم بأقدامهم ، قال الله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) [ فصلت : 29 ] ،وعندما يدخلون النار ترتفع أصواتهم بلعن بعضهم بعضاً ، ثم يتمنى بعضهم لبعض مزيداً من العذاب ، قال الله تعالى : ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ) [ الأعراف : 38 ] .نعم ، صدق الله العظيم ، حين قال وقوله الحق : (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (64) ص
الدعاء