خطبة عن حديث (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ)
فبراير 2, 2019خطبة حول قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)
فبراير 2, 2019الخطبة الأولى (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه : (عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع هذا الحديث النبوي الشريف ، والذي يبشر فيه صلى الله عليه وسلم المؤمن بأن أمره كله له خير ، وإن كان الظاهر أحيانا يكون خلاف ذلك ، ولكنه يؤمن بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، وفيما بلغ عن ربه . (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ) أي: أن حاله تستدعي العجب؛ وذلك لأنه يؤجر في الأحوال كلها، في حال الضراء، وفي حال السراء ، فالمؤمن يدور بين هذا وهذا، وهو مأجور، والله -عز وجل- يدبّره، ويقيض له من الأسباب التي يحصل له فيها رفع الدرجات، ومغفرة الذنوب، وتكثير الحسنات، سواء كان ذلك مما يُجريه عليه من الأمور السارة التي تستوجب الشكر، ولهذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمن؛ لأن المؤمن هو الذي من شأنه أن يشكر الله، فهو يعرف نعمه عليه، وأما الكافر فإنه جحود، ينكر نعمة الله -عز وجل- عليه، ومن ثم فإنه يضيف عبوديته وشكره وتقربه إلى غير الله -تبارك وتعالى-، فيعبد معه إلهاً آخر، وأما المؤمن فشأنه آخر،(إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )، أي: أصابه شيء يسره من عافية في بدنه، ومن نعمة تُسدى له في مشرب، أو مطعم، أو ملبس، أو ولد، أو غير ذلك مما يحصله الإنسان من المسارّ، يكون شاكراً لله -تبارك وتعالى- بقلبه، فيقوم ذلك بقلبه استشعاراً لإفضال الله، وإنعامه عليه – جل جلاله-، ثم أيضاً يكون ذلك بلسانه، بالثناء على الله -جل جلاله-، وبشكره وحمده على ما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك أيضاً يكون ذلك بالجوارح، بتعبيدها لربها وخالقها، فكلما ازداد الإنسان نعمة كلما ازداد عبودية وشكراً لله . والمؤمن :(وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) والضراء: هي الأمر الذي يتضرر به الإنسان ويتألم له في نفسه، أو أهله، أو في ماله، أو في ولده، وإن كان ذلك يسيراً؛ ففي الصحيحين : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ » ، فالمؤمن الحق يعلم أن أمره كله له خير ،وأن الله تعالى يريد ويحب ويدبر له الخير، ومراده جل وعلا أن يرحمه ،ويغفر له ،ويكرمه ،ويسعده في الدنيا والآخرة ، فيؤجره على القليل بالكثير ، ويعظم له الأجور ، ويرفع له الدرجات، وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا »، فالمؤمن الحق يؤمن بالقدر خيره وشره فلا يصيبه إلا ما قدره الله ، قال الله تعالى : {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} التوبة 51، . وفي سنن ابن ماجة : ( أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ». وفي سنن الترمذي بسند صحيح ، يقول صلى الله عليه وسلم : (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » ، والمؤمن الحق مضمون له الرزق والأجل ،لا ينتقصان ولا يزيدان ،بتقدم ولا بتأخر ،ولا إقدام ولا إحجام ، وفي مسند البزار (عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ ، فَقَالَ : هَلُمُّوا إِلَيَّ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا ، فَقَالَ : هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ ) .فالرزق والأجل بيد الله ،ولن تستطيع قوة علي وجه الأرض أن تنازع الله فيهما، فنفرده جل وعلا دون غيره بالخوف والرجاء ،والتوكل ،والاستغاثة ،والاستعانة، والتوجه، والدعاء ، والسؤال ،والعبادة ،والركوع ،والسجود ، والولاء والبراء . فلا يصدنك الخوف أو الحرص على الرزق والأجل من الصدع بكلمة الحق ،والدعوة إلى الخير ،وإصلاح ذات البين ،والاهتمام بالشأن العام ،والتصدي للظلم والفساد ،فإنه لا ينقص من رزق ،ولا ينقص في الأجل ، وفي مسند أحمد وصححه الألباني : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ ». والمؤمن الحق لا يدعو بدعوى الجاهلية ولا يضاهي قول الجاهلين الذين قال الله تعالى فيهم : {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} آل عمران 168. والمؤمن الحق يستمد قوته وعزيمته من إيمانه بالله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا.
أيها المسلمون
ومن خلال تدبرنا لهذا الحديث يتبين لنا : أن المؤمن يتقلّب بين مقام الشكر على النعماء ، وبين مقام الصبر على البلاء ، فيعلم علم يقين أنه لا اختيار له مع اختيار مولاه وسيّده ومالكه سبحانه وتعالى .وهو مع ذلك يعلم : أنه ما مِن شدّة إلا وسوف تزول ، وما من حزن إلا ويعقبه فرح ، وأن مع العسر يسرا ، وأنه لن يغلب عسر يُسرين ،فلا حزن يدوم ولا سرور ، ولا بؤس يدوم ولا شقاء، فالمؤمن يرى المنح في طيّـات المحن ،ويرى تباشير الفجر من خلال حُلكة الليل ، ويرى في الصفحة السوداء نُقطة بيضاء ،وفي سُمّ الحية ترياق ، وفي لدغة العقرب طرداً للسموم ، والمؤمن ينظر في الأفق فلا يرى إلا تباشير النصر ،رغم تكالب الأعداء ، وينظر في جثث القتلى فيرى الدمّ نوراً، ويشمّ رائحة الجنة دون مقتله ،ويرى القتل فوزاً ، فقد قال حرام بن ملحان رضي الله عنه لما طُعن : فُـزت وربّ الكعبة ! ،وعندها تساءل الكافر الذي قتله غدرا : وأي فوز يفوزه وأنا أقتله ؟ المؤمن إن جاءه ما يسرّه سُـرّ فحمد الله ، وإن توالت عليه أسباب الفرح فرِح من غير بطر .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والمؤمن يخشى من ترادف النِّعم أن يكون استدراجا ، ومن تتابع الْمِنَن أن تكون طيباته عُجِّلت له ، فهذا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ – رضى الله عنه – أُتِىَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّى ، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ ، إِنْ غُطِّىَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ ، وَإِنْ غُطِّىَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ – وَأُرَاهُ قَالَ – وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّى ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ – أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا – وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ) رواه البخاري . والمؤمن إذا أصابه خيرٌ شكره ، ونسب النّعمة إلى مُسديها ، ولم يقل كما قال الجاحد : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) القصص 78، أو كما يقول المغرور : ( إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الفجر 15، فالمؤمن في كل أحواله يتدرّج في مراتب العبودية : بين صبر على البلاء وشكر للنعماء قال شيخ الإسلام ابن تيمية : العبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها الى شكر ، وذنب منه يحتاج فيه الى الاستغفار ، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما ، فإنه لايزال يتقلب في نعم الله وآلائه ، ولا يزال محتاجا الى التوبة والاستغفار . فالعبد يعلم أنه عبدٌ على الحقيقة ، ويعلم بأنه عبدٌ لله ، والعبد لا يعترض على سيّده ومولاه
أيها المسلمون
ومِمَّا يُستفاد من هذا الحديث أيضا : – الحث على الإيمان وأن المؤمن دائما في خير ونعمة. – والحث على الصبر على الضراء، وأن ذلك من خصال المؤمنين. – والحث على الشكر عند السراء، لأنه إذا شكر الإنسان ربه على نعمة فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم، – ويجتمع للمؤمن عند النعم والسراء، نعمتان: نعمة حصول ذلك المحبوب، ونعمة التوفيق للشكر الذي هو أعلى من ذلك. وبذلك تتم عليه النعمة. ويجتمع له عند الضراء، ثلاث نعم: نعمة تكفير السيئات، ونعمة حصول مرتبة الصبر التي [ هي ] أعلى من ذلك، ونعمة سهولة الضراء عليه. لأنه متى عرف حصول الأجر والثواب، والتمرن على الصبر، هانت عليه. ومِمَّا يُستفاد من هذا الحديث أيضا : – من أراد السعادة الكاملة في الدنيا فعليه بهذين الأمرين عبادة الله مع تعويد النفس على الصبر.– وإن المرض وسائر المكاره بل الصحة وسائر المحاب سنة ربانية للابتلاء والامتحان، فالعبد مبتلى في كل شيء، فيما يسره ويحبه، وفيما يسوؤه ويكرهه ، قال الله تعالى : ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]. ومِمَّا يُستفاد من هذا الحديث أيضا : أن المؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، يلجأ دائماً إلى الله تعالى في السراء والضراء، فهو يصبر على البلاء، ويرضى بالقضاء، ويشكر في الرخاء، ويسأله العون وتفريج الكروب فهو على كل شيء قدير. وأن الإيمان نصفه شكر على النعماء، ونصفه صبر على البأساء والضراء.
الدعاء