خطبة عن ( من حكمة الله في الابتلاء )
نوفمبر 5, 2022خطبة عن (اتباع الهَوَى واتّخَاذَه إِلَهَا )
نوفمبر 6, 2022الخطبة الأولى ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) (1) :(13) الجن ، وروى الترمذي في سننه بسند صححه : ( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْىَ فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا فَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا وَأَمَّا مَا زَادُوهُ فَيَكُونُ بَاطِلاً فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لإِبْلِيسَ وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ مَا هَذَا إِلاَّ مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الأَرْضِ فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا يُصَلِّى بَيْنَ جَبَلَيْنِ أُرَاهُ قَالَ بِمَكَّةَ فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ هَذَا الَّذِى حَدَثَ فِي الأَرْضِ).
إخوة الإسلام
لقد كان الجن قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يسترقون أخباء السماء، وهو ما يوحيه الله لملائكته، قال القرطبي: (كان الجن يقعدون مقاعد لاستماع أخبار السماء، وهم المردة من الجن، كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء ،حتى يلقوها إلى الكهنة، فحرسها الله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: (فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) ، ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حديثه الذي رواه البخاري في صحيحه : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ – وَهْوَ السَّحَابُ – فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِىَ فِي السَّمَاءِ ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » )) ، وفي صحيح البخاري أيضا : (أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ – وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ – فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ ، فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا ، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ، فَيُقَالُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ » ، وفي رواية : (قَالَتْ عَائِشَةُ – رضى الله عنها – سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ « إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا . قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ ، فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ » ، وهكذا فإن الجن كان يستمعون لأخبار السماء، ثم يلقون ذلك إلى الكهان من الإنس، فيزيدون على الكلمة مائة كذبة من عندهم، وقد اختلف العلماء في استراق الجن للسمع بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم : فقال قوم: إن استراق الجن لأخبار السماء قد زال بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك زالت الكهانة، وقال آخرون: إن استراقهم باق بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام ،والقول الراجح : أن الرمي كان قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يكن في الشدة مثلما كان بعد مبعثه تمسكاً بحديث ابن عباس ، وقال القرطبي: (والقول بالرمي أصح لقوله تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) [الجن: 8]. وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منا ومنهم، وروي في صحيح مسلم : (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رُمِىَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِىَ بِمِثْلِ هَذَا ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّهَا لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ – قَالَ – فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ بِهِ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ ».وهذا يدل على أن الرجم قبل المبعث، واشتدت الحراسة بعد المبعث، فمنعوا من ذلك أصلاً) ، وقوله تعالى: (فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ) [ الجن: 9]. فإنما يحمل على التشديد في حراسة السماء، فكل من يحاول من الشياطين استراق السمع بعد المبعث، فإن له شهاباً رصداً يرمى به، وذلك صيانة للوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أن يصل الشياطين إلى شيء منه. واختلف العلماء: هل كانت الشهب تأخذ الجن قبل استراق السمع أم بعد استراقهم؟ ،وظاهر القرآن أن الرمي يكون بعد الاستراق لعطفه عليه بالفاء الدالة على التعقيب في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ) [ الحجر: 18]. وقوله تعالى : (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) [ الصافات: 10].
أيها المسلمون
والعلوم والأخبار يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالأمور الغيبية، والقسم الثاني: ما يتعلق بالعلوم والأخبار التي تتعلق بالأمور المشهودة, أو الإخبار عن الوقائع الماضية، أما بالنسبة للقسم الأول فيمكن تقسيمه إلى قسمين: أ- أن تكون من الغيبيات التي استأثر الله بعلمها. ب- أن تكون من المغيبات التي قضى الله أمرها في السماء وأصبحت معلومة لذوي الاختصاص من الملائكة أو من البشر، مما يطلع الله عليه من شاء من رسله. أما بالنسبة للقسم الأول: … أنه من اختصاص الله، ولا يمكن لأي مخلوق في هذا العالم أن يعرف عنه شيئاً، سواء كان في ذلك الملائكة أو الجن أو الإنس، لأن الآيات القرآنية قد أخبرت أن علم ذلك لله وحده دون سواه، ولا يكون التحدث عن شيء من هذا الغيب إلا من قبيل الافتراء على الله، وهو يناقض الإيمان، ومدعيه كافر، لمعارضته الآيات القرآنية الدالة على اختصاص الله بذلك قال الله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) [الأنعام: 59] ، وقال الله تعالى : (قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل: 65]. أما بالنسبة للثاني: وهو المغيبات التي قضى الله أمرها في السماء ، وأصبحت معلومة لذوي الاختصاصات من الملائكة أو من البشر… إلخ. فقد تقدمت فيه الأحاديث من أن الله إذا قضى الأمر في السماء، بأن يتكلم بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، فيلخص هذا القول ويمضي في الملائكة حتى يفزعوا منه، فيعلمون أن الله لا يقول إلا الحق، فيسمع مسترق السمع من الجن الكلمة، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقي الكلمة، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها الكاهن مائة كذبة ، وفي الأحاديث الواردة بهذا الصدد دليل على أن الجن يسترقون السمع من الملائكة، وكانوا يقذفون بالشهب خصوصاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فما تسمعه الملائكة بعد إلقاء الأمر إلى جبريل قد خرج عن الغيب الذي اختص به الله، إذ علمت به الملائكة، فعندئذ تحاول الجن استماع ذلك، فربما يسمعون كلمة، وربما لا يسمعون، لأن الشهب لهم بالمرصاد ، وأما قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن: 26]. فقد قال القرطبي: (اختص الله بعلم الغيب فهو له وحده، إلا ما شاء الله من اطلاع بعض الرسل، لأنهم مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ، وقال العلماء رحمهم الله تعالى: لما تمدح الله سبحانه بعلم الغيب ،واستأثر به دون خلقه ،كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم, ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه، ممن يضرب بالحصى ،وينظر في الكتب ،ويزجر بالطير، ممن ارتضاه من رسول ،فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله ،مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه) ، والآية لا تناقض ما تقدم من الأحاديث الدالة على استراق للسمع بعد أن يلقي الله كلامه إلى جبريل، لأن الجن قد منعوا من استراق السمع أصلاً، وما يستمعونه عندئذ لا يعتبر غيباً بالنسبة للملائكة ولمسترق السمع، كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن صياد، وفي موت النبي سليمان (عليه السلام) دلالة على عدم معرفة الجن علم الغيب،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما القسم الثاني : وهو ما يتعلق بالعلوم والأخبار التي تتعلق بالأمور المشهودة, أو الإخبار عن الوقائع الماضية، فبالنسبة لهذا القسم : فإن الجن يمكن أن تخبر به الإنس، لأن الجن عندهم القدرة على الانطلاق في آفاق فسيحة, والتنقل بين الأماكن البعيدة، لما ميزهم الله بذلك عن الإنسان، فمثلاً: قد يسافر رجل من بلد إلى بد آخر, ويحمل بعض الأغراض معه، فإن الجن بحكم تنقلهم السريع يمكن أن يخبروا شخصاً آخر ممن يتصلون به عن الساعة التي تحرك فيها، و في أي شيء يركب، وما هي الأغراض التي يحملها ،فيكون هذا بالنسبة للإنسان غيباً من الغيوب ،لكونه لم يشاهده، ولم يبلغه بطريق من طرق العلم المعتادة ، وأما بالنسبة للجن فهو واقع محسوس، وهو في واقع الأمر ليس من علم الغيب، وإنما هو مشاهدة، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأي العين، فهو حضور بالنسبة للجن, ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث، حيث يرى الجن – ولا نرى نحن البشر – ما وراء الأبواب الموصدة أو الجدر القائمة ونحوها ،وقد يخبرون الإنس عن الوقائع الماضية بحكم أعمارهم الطويلة التي تزيد على أعمار الإنس، فقد يخبرون شخصاً يعيش اليوم عن حدث وقع قبل مائة عام أو أكثر، وقد يموت الميت ويبقى قرينه من الجن، فيخبرون عن أحوال الميت، وقد حصل من ذلك الكثير كما ذكر ابن تيمية . وهذا الإخبار من قبل الجن للإنس عن الأحوال الماضية والأمور المغيبة عن الإنسان قد يكون الجني فيها صادقاً وقد يكون كاذباً، إذ أن في الجن من يشبهون الإنس في الصدق والكذب، بل إن صفاتهم بشكل عام تفوق صفات الإنس سوءا. ومن جهة أخرى فإنه لا يصح الوثوق بشيء من أخبارهم لانعدام مقاييس تحديد الصادقين والكاذبين منهم بالنسبة إلينا، لكونه عالماً مغيباً عنا، ولفجور من تلقي إليهم الجن بهذه الأخبار، فيذيعونها بدورهم بين الناس، مع ما يصطنعونه من قبل أنفسهم من الكذب. وكثير من الناس في الجاهلية من كانت الجن تخبرهم ببعض الأمور التي تغيب عن الإنس. قال ابن تيمية: (والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه، وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات, ويعينه على بعض الأمور. وأمثال هؤلاء كثيرون ، ومن هذا القبيل ما يخبر به بعض من يتصلون بالجن في الوقت الحاضر، حيث تخبرهم الجن عن بعض الوقائع التي تجري في أماكن بعيدة لا يراها الإنس، أو قد يخبرون عن اسم الشخص ،وما يتعلق بأحواله مما لا يعلمه إلا هو ،أو بعض المقربين له، فيخبره بهذه الأمور الجني الذي يأتيه، ثم يقوم الشخص بدوره بإخبار ذلك إلى بعض من يدخلون عليه، فيدهش الإنسان لهذه الأمور، وإنما هي في الواقع غيب بالنسبة له، ولمن لا يعلم ذلك من بني جنسه من الإنس الذي لا يعلمون مثل ذلك، ولكنها أمور مشهودة بالنسبة للجن، ووظيفتهم في هذه الحالة نقل هذه الأمور إلى من يخدمونهم من الإنس مقابل طاعتهم لهم، ولذلك فإنك تجد أكثر الذين يتعاملون من الجن مع الإنس تاركين للصلاة والعبادات الأخرى، مهينين للقرآن الكريم، كأن يكتبوه بنجاسة، أو يقلبون بعض الآيات القرآنية، أو يقرأون ويكتبون بعض الطلاسم والأدعية غير مفهومة المعنى، مما يرضاه الجن الكفرة مقابل جلب سحر، أو منع شخص عن زوجته، وغير ذلك مما هو واقع ومشاهد في كل عصر. فليحذر المسلم الدخول على أمثال هؤلاء، وليعلم أن الذي يخبرون به ليس من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وإنما هو من الأمور المشهودة للجن والغائبة عن الإنس. والشياطين إنما تتسلط على ما لم يذكر اسم الله عليه، كما إذا دخل الإنسان بيته فإنهم يدخلون معه، وإذا أكل ولم يسم فإنهم يأكلون معه، أو قد يدخر الإنسان شيئاً ولا يذكر اسم الله عليه، فإن الجن تعرفه، وقد تسرق الجن بعض الأموال أو المتاع مما لم يذكر اسم الله عليه. وأما من ذكر اسم الله ، فإنه لا سلطان للجن على ذلك بسرقته أو معرفة مكانه، والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون ويدخرون مما ذكر اسم الله عليه والجن لا تعلم به)
الدعاء