دروس رمضان (شهر رمضان) (مراحل تشريع الصيام)
مارس 2, 2025درس شهر رمضان: سيرة (نبي الله إبراهيم) عليه السلام
مارس 2, 2025(1)
دروس شهر رمضان (أسماء الله الحسنى)
إنما سمي المؤمن مؤمنا: لأنه يؤمن بالغيب بأركانه الستة، والتي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث جبريل: (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
والإيمان بالله تعالى هو أصل الإيمان، وما بعده فهو تابع له.
والسؤال: كيف نتعرف على الله تعالى؟، والجواب: عن طريق آياته المنظورة: (الكون المنظور)، وتدبر آياته المسطورة: (القرآن الكريم)، ونتعرف على الله تعالى عن طريق (أسمائه الحسنى، وصفاته العلى)،
وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف:180، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الاسراء:110، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»،
وليس المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) مجرد ذكرها، أو ترديدها، أو حفظها، ولكن المقصود بإحصائها: معرفتها، وتعلمها، والعمل بها، والعمل بها يكون بأمرين: الأول: (دعاء الله تعالى بهذا الاسم، عملا بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف:180 ،الأمر الثاني: التخلق بها، فتظهر في سلوك المؤمن وعمله). واليوم إن شاء الله تعالى نتعرف على اسمين من أسماء الله الحسنى وهما: (الرَّحْمَن الرَّحِيم)
اسم الله: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)
فهذان الاسمان من أسماء الله الحسنى مشتقان من الرحمة، وهي تعني: الشفقة والعطف والحنان، أما رحمة الله: فهو رحمن رحيم بكل مخلوقاته، وهو أرحم من كل رحيم، لأن رحمته مطلقة ليس لها حد، وصور رحمته لا تحصى ولا تعد، واسمه (الرحمن) أشد مبالغة من اسمه (الرحيم)،
وقد ورد ذكر هذين الاسمين في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ففي القرآن الكريم، ورد اسم (الرحمن:45مرة)، ومنها قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (36) الزخرف، وقوله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (33) ق، وقوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) الملك:3،
(2)
وورد اسم (الرحيم:115مرة)، ومنها قوله تعالى: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (54) البقرة، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (143) البقرة، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (16) النساء،
وورد ذكر الاسمين مجتمعين: (الرحمن الرحيم:6مرات)، ومنها قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (2)، (3) الفاتحة، وقوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (163) البقرة، وقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) الحشر: (22)
وورد ذكر الاسمين: (الرَّحْمَن) و(الرَّحِيم) في السنة المطهرة، كما في سنن أبي داود: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِىَ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». وفي صحيح البخاري: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ»،
وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ – رضي الله عنه. أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي. قَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ »، وفي سنن أبي داود: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
وقيل: أنه من معاني اسم الله (الرَّحْمَن): أنه ذو الرحمة الشاملة لكل الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة،
و(الرَّحْمَن) هو الاسم الذي لا يشارك الله تعالى فيه غيره، قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الاسراء:110)،
أما اسم الله (الرَّحِيم): فقد وصف الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (128) التوبة ، وقد ظهرت آثارُ رحمته سبحانه في الخليقة كلها، فما مِنْ أحدٍ مسلمٍ أو كافرٍ إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، ففيها يتعايشون، ويؤاخون، ويوادُّون، وفيها يتقلَّبون، ولكنّها للمؤمنين خاصةً في الآخرة، ولاحظّ للكافرين فيها.
ورحمة الله تعالى تشمل المؤمنين كلهم يوم القيامة: قال تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (43) الاحزاب، فبرحمته يدخلهم الجنة: ففي الصحيحين: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ
(3)
«لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ». قَالَ رَجُلٌ وَلاَ إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «وَلاَ إِيَّايَ إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَلَكِنْ سَدِّدُوا». وفي رواية: (قَالَ «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ». قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ»
أيها المسلمون
وللإيمان باسمه تعالى: (الرَّحْمَن) و(الرَّحِيم) آثار في عقيدة المسلم وسلوكه، فمن آثار الإيمان بهما: اثبات صفة الرحمة لله رب العالمين، فنؤمن ونعتقد أن الله تعالى رَّحْمَنٌ رَّحِيمُ ،فتعشقه وتحبه القلوب، وتشتاق إلى لقائه النفوس المؤمنة.
ومن آثار الإيمان باسمه تعالى: (الرَّحْمَن الرَّحِيم): ظهور رحمة الله على الخلق: فبرحمته أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، فلم يترك عباده لأهوائهم وشهواتهم، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، ليتبين لهم طريق الرشد من طريق الغي، وطريق الهدى من طريق الضلالة. وليخرجوا بهذا الهدى من الظلمات إلى النور. وليسعدوا ويفلحوا في دنياهم وفي أخراهم. فامتثال أوامره سبيل إلى رحمته، واجتناب نواهيه سبيل إلى رحمته، والوقوف عند حدوده سبيل إلى رحمته.
ومن آثار رحمته: أن علمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وعلمنا أسماءه الحسنى وصفاته العلى، وعلمنا ما لم نكن نعلم،
ومن رحته اطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، قال تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (73) القصص، ومن رحمته بسط الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فانشأ السحاب، وانزل المطر، وانبت الأرض، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الاعراف:57، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (46) الروم،
ومن رحمته خلق لنا الانعام، من: (الابل والبقر والغنم): قال تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (5) النحل،
ومن رحمته وضع الرحمة في قلوب مخلوقاته: ففي الصحيحين واللفظ لمسلم: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلاَئِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ».
(4)
ومن رحمته تبارك وتعالى بعباده: أن رحمته سبقت غضبه: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ
رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي». وفي رواية له: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي». وفي رواية له: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي». ومن رحمته بعباده المؤمنين أن ادخر لهم (99) رحمة ليوم القيامة، ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ بَيْنَهُمْ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ».
ومن رحمته أن خلق لعباده المؤمنين الجنة يتنعمون فيها: ففي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ فَقَالَتْ هَذِهِ يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ. وَقَالَتْ هَذِهِ يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ – وَرُبَّمَا قَالَ أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ – وَقَالَ لِهَذِهِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا».
ومن رحمته سبحانه وتعالى: أن احتجب عن خلقه، فلو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل مخلوقاته، ففي صحيح مسلم: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ – وَفِى رِوَايَةِ أَبِى بَكْرٍ النَّارُ – لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
ومن رحمته أن يعيذ عباده برضاه من سخطه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ففي صحيح مسلم كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
ومن رحمته تعالى: أن خلق الذكر والانثى، وجعل بينهما المودة والرحمة: قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (21) الروم
ومن رحمته تعالى: أن أحوج الخلق إلى بعضهم، فلولا ذلك لتعطلت الحياة، قال تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (32) الزخرف،
ورحمة الله تعالى واسعة، قال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (7) غافر، وقال تعالى: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
(5)
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (156)، (157) الأعراف،
وهناك رحمة خاصة بالمؤمنين: قال تعالى: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (53) الزمر، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ».
والله تعالى هو أرحم بعباده من رحمة الأم بولدها: ففي صحيح البخاري: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ». قُلْنَا لاَ وَهْىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ .فَقَالَ «اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»، وفي رواية لمسلم: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ». قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».
ومن مظاهر رحمته -جل جلاله- بعباده: قبول التوبة، والعفو عن العصاة، ومغفرته لذنوبهم؛ ففي صحيح مسلم: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». وفي رواية له: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ».
ومن الصور الدالة على رحمته: أنه تكفّل برزق عباده جميعًا، ولم يَكِل أحدًا إلى أحد؛ فلا الأولاد وُكِلُوا لآبائهم، ولا الآباء لأولادهم؛ بل الجميع تحت فضله وكرمه وإحسانه، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) [العنكبوت:61]، وقال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6].
ومن الرحمة: رحمة العبد بنفسه؛ وتكون بإنقاذها من كل ما يؤذيها ويسبب هلاكها، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29]. ويدخل في هذه الصورة: السعي في فكاكها من عذاب الله؛ وذلك بطاعته، والقيام بما أوجب، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:10-11]،
ومن آثار رحمته: أنه على قدر حظ الإنسان من الرحمة، ترتفع درجته عند الله؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام أرحم الناس، وكان خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم أوفرهم نصيباً من هذا الخلق، حتى كانت رسالته رحمة للعالمين، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107، وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران:159،
ومن آثار الرحمة: أن الرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل، وتثير مكنون الفطرة، وتبعث على صالح العمل، وتغلق أبواب الخوف واليأس، وتشعر المؤمن بالأمن والأمان؛ لأنه سبحانه الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ولم يجعل في الدنيا إلا جزءاً يسيراً من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون،
(6)
ومن آثار رحمة الله: إن المؤمن إذا علم أن الله إذا فتح أبواب رحمته لأحد فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها. كانت مخافته من الله. ورجاؤه في الله.
أيها المسلمون
ومن آثار الإيمان باسمه تعالى: (الرَّحْمَن الرَّحِيم): أن يتخلق المؤمن بخلق الرحمة: فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحيما، فكان صلى الله عليه وسلم يعطف على الأطفال ويرقّ لهم، يقبّلهم ويضمّهم، ويلاعبهم ويحنّكهم بالتمر، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»، وصلى مرّة وهو حامل أمامة بنت زينب، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وكان إذا دخل في الصلاة فسمع بكاء الصبيّ، أسرع في أدائها وخفّفها، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ»،
وضرب صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التلطّف مع أهل بيته، حتى إنه كان يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب البعير، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه قال: .. (رَأَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، وَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ)، وكان عندما تأتيه ابنته فاطمة رضي الله عنها يأخذ بيدها ويقبلها، ويجلسها في مكانه الذي يجلس فيه،
ومن مظاهر الرحمة: ما جاء في مسند أحمد: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا جَاءَ خَادِمُ أَحَدِكُمْ بِطَعَامِهِ قَدْ كَفَاهُ حَرَّهُ وَعَمَلَهُ فَإِنْ لَمْ يُقْعِدْهُ مَعَهُ لِيَأْكُلَ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً مِنْ طَعَامِهِ».
وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم البهائم التي لا تعقل، فكان يحثّ الناس على الرفق بها، وعدم تحميلها ما لا تطيق، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». وفي سنن أبي داود: (دَخَلَ صلى الله عليه وسلم حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ». فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَفَلاَ تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».
ومن صور الرحمة في حياتنا: رحمة المؤمنين بعضهم ببعض؛ فإنّ الله عز وجل قد وصفهم قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح:29، وفي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ»، وفي الصحيحين: (عن النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ»، وروى مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: “مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
(7)
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”. وروى مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: “إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ؛ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ (أي وجدت ثوابي وكرامتي في عيادته) يَا ابْنَ آدَمَ؛ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ؛ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي”. وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: “بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ”. وفي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: “عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ”.
وأحوج الناس إلى رحمة الإنسان وشفقته وإحسانه وبرّه: الوالدان -الأم والأب-؛ لأنهما أقرب الناس إليه، وسبب وجوده؛ قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24].
والتراحم صفة تزرع في المجتمع المسلم الوحدة والألفة والتماسك: روى مسلم في صحيحه عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».
فالمؤمن يجب أن يكون رحيما بمن يتعامل معهم، فيرحم الضعفاء والمصابين، والعجزة وكبار السن، والأيتام والأرامل، والفقراء والمساكين، فيقضي لهم حاجتهم، ويفرج عنهم كربهم، ويساعد محتاجهم، ويعين ذا الحاجة منهم، ويرحم أولاده وزوجته، ووالديه، وأرحامه، فالرحمة تنال عباده الرحماء: (ففي صحيح البخاري: (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «ارْجِعْ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ،فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ». فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ».
أيها المسلمون
أما عن الأسباب المعينة على الرحمة: فمن الأسباب التي تعين المسلم على الرحمة: طاعة الله ورسوله، والعمل بالكتاب والسنة، قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) آل
(8)
عمران :(132)، وقال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (155) الانعام، وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (56) النور، ورحمة الله قريب من المحسنين: قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (56) الأعراف،
ومن أسباب الرحمة: أن يسأل المؤمن ربه الرحمة، ففي سنن الترمذي: (عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَيْلَةً حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ)، والمؤمن يعزم عند سؤال الله الرحمة: ففي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ»
ومن أسباب لين القلب: اطعام المساكين ومسح رأس اليتيم، ففي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ»
ومن أسباب لين القلب: تلاوة القرآن واستماعَه، وذِكرُ الموت، وشُهُودُ الجنائز، وزِيارة القُبُور؛ وكثْرةُ ذِكر الله، وحضور مجالس الذِّكر؛ وزِيارَةُ المرضى، ومُخالَطة المساكين والفُقَراء والضُّعَفاء، والاعتِبار بحال أهل البَلاء
أيها المسلمون
وبعد أن تعرفنا على اسمين من أسماء الله الحسنى وهما: (الرَّحْمَن) و(الرَّحِيم)، فماذا يجب على المسلم تجاههما؟، فنقول: يجب على المسلم بعد أن تعلمهما، أن يعمل بهما، فيسأل الله تعالى بهما، عملا بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف:180، فيقول في دعائه مثلا: يا رحمن يا رحيم ارحمنا رحمة واسعة لا نشقى بعدها أبدا، وفي سنن الترمذي: (أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ بِجَلاَلِكَ وَنُورِ وَجْهِكَ أَنْ تُلْزِمَ قَلْبِي حِفْظَ كِتَابِكَ)، وفي مسند أحمد: (قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ)، وثانيا: أن نتخلق بخلق الرحمة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ »، فإحصاؤها يعني : معرفتها، وتعلمها، والعمل بها، والعمل بها يكون: (دعاءً وتخلقاً).
(9)
اسم الله (العظيم)
العظيم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي يعظمه خلقه، ويهابونه ويتقونه، فله صفة العظمة في كل شيء، فالله تعالى عظيم في ذاته، وعظيم في صفاته
قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله تعالى: «العظيمُ الجامعُ لجميعِ صفاتِ العظمةِ والكبرياءِ، والمجدِ والبهاءِ الذي تحبُّه القلوبُ، وتعظِّمُه الأرواحُ،
ويعرفُ العارفونَ أنَّ عظمةَ كلِّ شيءٍ، وإن جَلّتْ في الصفةِ، فإنها مُضْمَحِلةٌ في جانبِ عظمةِ العليِّ العظيمِ).
واللهُ تعالى عظيمٌ له كلُّ وصفٍ ومعنىً يوجبُ التعظيمَ، فلا يقدرُ مخلوقٌ أنْ يُثْنِيَ عليه كما ينبغي له، ولا يُحصِي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسِه، وفوقَ ما يُثْنِي عليه عبادُه. وفي صحيح مسلم: يقول صلى الله عليه وسلم: (لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
والله تعالى عظيم، وكبير، وكل ما دونه فهو صغير ذليل.
والله عظيم: فقد جاوز قدره حدود العقول، حتى لا تتصور الاحاطة بكنهه وحقيقته،
واسم الله (العظيم) ورد ذكره في القرآن الكريم تسع مرات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ البقرة:255، وقوله تعالى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ التوبة:129، وقوله وتعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ الواقعة:74
كما جاء ذكره في السنة النبوية: ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ،سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»، وفي سنن أبي داود: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ « أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطانُ: حُفِظَ مِنِّي سائرَ اليومِ»
واسم الله (العظيم) من الاسماء التي لا يُنازع الله تعالى فيها، ففي سنن أبي داود وغيره: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»
وعظمةُ اللهِ سبحانَه وتعالى لا تكيَّفُ ولا تحدُّ، ولا تمثَّلُ بشيءٍ، ويجبُ على العبادِ أن يعلَمُوا أنه سبحانَهُ عظيمٌ كمَا وصفَ نفسَهُ بذلك، ووصفَهُ به رسولُه – صلى الله عليه وسلم – بلا كيفيةٍ ولا تحديدٍ، وقدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قالَ: «تفكرُوا في آلاءِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ»، وفي لفظ: «تَفكَّروا في خلقِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ»، وتعظيم الله تعالى أصل العبادة وحقيقتها، قال الله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (74) الواقعة،
(10)
فمن أبرز سمات المتقين، تعظيم الله تعالى، وتعظيم شعائره، وعدم الاستخفاف والاستهزاء بآياته
فمن عظم الله سبحانه وقدره حق قدره، تحقق فلاحه ونجاحه، وسعادته في دنياه وأخراه،
ومن عظم الله عرف أحقية الله عز وجل بالذل والخضوع والخشوع والانكسار، وعظّم شرعه ،وعظّم دينه، وعرف مكانة رسله.
وقد أمر الله رسوله أن يسبحه بهذا الاسم في ركوعه، ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم : (وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»،
وثبت أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يقول في ركوعه وسجوده:(سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ)
وفي سنن النسائي: (كان يَقُولُ صلى الله عليه وسلم فِي رُكُوعِهِ «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ». ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ».
وتعظيم العبد لله تعالى يولد الخوف من المعظم، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (67) الزمر، وفي تفسير القرطبي: في قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (88): (95) مريم، قال ابن عباس: (اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان، فصار من ذلك الشوك في الحيتان والأشجار)، وقال كعب: (فزعت السماوات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول، وغضبت الملائكة، فاستعرت جهنم، وشاك الشجر، واكفهرت الأرض وجدبت، حين قالوا: اتخذ الله ولدا)
ومن عظمة الله تعالى في قدرته: أنه يحفظ السموات والأرض، قال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ البقرة:255
(11)
ومن دلائل عظمة الله تعالى: عظمة مخلوقاته: ففي سنن أبي داود: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ».
ولما كان الله تعالى عظيما، فلا يُستشفع به على مخلوقاته، ففي سنن أبي داود: (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ جُهِدَتِ الأَنْفُسُ وَضَاعَتِ الْعِيَالُ وَنُهِكَتِ الأَمْوَالُ وَهَلَكَتِ الأَنْعَامُ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ» وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ «وَيْحَكَ إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ، إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ لَهَكَذَا». وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ «وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ». قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ «إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ»
ولما كان الله عظيما، ووجه الله عظيما، فلا يُسأل بوجهه، لأن الله تعالى أعظم من أن يسأل به الإنسان شيئاً من حطام الدنيا، ومن سُئل بوجه الله؛ فينبغي له أن يُعطي السائل ما لم يكن في سؤاله إثم أو ضرر يلحق بالمسؤول، فقد روى الطبراني: (أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ. وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ، مَا لَمْ يُسْأَلْ هُجْرًا} أَيْ أَمْرًا قَبِيحًا لَا يَلِيقُ.
ومن دلائل عظمة الله: أن عظمة الخلق دليل على عظمة الخالق، قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (20) (22) الذاريات
أيها المسلمون
وللإيمان باسمه تعالى(العظيم) آثار في عقيدة المؤمن وسلوكه، وحياته، فالمؤمن يعظم الله تعالى حق تعظيمه، ويقدره حق قدره، وذلك بوصفه بما يليق به، والاكثار من ذكره وشكره والثناء عليه بما هو أهله
ومن تعظيم الله تعالى: أن يُطاع رسوله، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) النساء:64،
ومن تعظيم الله تعالى: أن يصدق كتابه، وأن يحكم في الأرض بشرعه،
ومن تعظيم الله تعالى: أن تعظم شعائر دينه، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (32) الحج
ومن تعظيم الله تعالى: أن يعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) الحج:30،
وجاء في كتاب (صفة الصفوة): (قال نافع: خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع، فقال له عبد الله: هلم يا راعي فأصب من
(12)
هذه السفرة. فقال: إني صائم، فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم، فقال الراعي: أبادر أيامي الخالية، فعجب ابن عمر، وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه وتعطيك ثمنها، قال: إنها ليست لي، إنها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟!، فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول (فأين الله؟؟؟) قال : فلم يزل ابن عمر يقول: قال: الراعي فأين الله، فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم)
ومن مظاهر تعظيم العبد لله تعالى: أن تعلم أن الله تعالى يسمع كلامك، ويرى مكانك، ويعلم سرك وعلانيتك، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (5)، (6) آل عمران، وقال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (61) يونس
ومن مظاهر تعظيم العبد لله تعالى: كمال محبته لله، وتعلق قلبه به، والشوق إلى لقائه، قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (17)، (18) الانعام، وقال تعالى : (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (2) فاطر
ومن مظاهر تعظيم العبد لله تعالى: التفكر في بديع صنعه، وعظم مخلوقاته، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) (3)، (4) الملك، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) (15): (20) نوح
ومن مظاهر تعظيم العبد لله تعالى: تعظيم الذنب، ففي البخاري: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ »،
وفي الحلية عن ابن عباس أنه قال: (يا صاحبَ الذَّنْبِ لا تأمَنْ سوءَ عاقبتِهِ. ولَما يَتْبَعُ الذَّنْبَ أعظمُ منَ الذَّنبِ.. إذا عملتَهُ قلَّةُ حيائِكَ ممَّن على اليمين وعلى الشِّمال ـ وأنت على الذَّنبِ ـ أعظمُ من الذَّنبِ.. وضَحِكُكَ وأنتَ لا تدري ما اللهُ صانعٌ بكَ أعظمُ من الذَّنبِ.. وفَرَحُكَ بالذَّنبِ إذا ظفرتَ به أعظمُ من الذَّنبِ.. وحُزْنُكَ على الذَّنبِ إذا فاتَكَ أعظمُ منَ الذَّنبِ.. وخَوْفُكَ من
(13)
الرِّيحِ إذا حَرَّكَتْ سِتْرَ بابِكَ وأنتَ على الذَّنبِ، ولا يضطربُ فؤادُكَ منْ نَظَرِ اللهِ إليكَ أعظمُ منَ الذَّنبِ إذا عملتَهُ).
ومن الآيات القرآنية التي تثير في نفوس المؤمنين دلائل العظمة التي تليق بذي الجلال والإكرام آية الكرسي. قال تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (255) البقرة،
وفي صحيح مسلم: (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ. قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ «وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ». وفي رواية أحمد: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ لَهَا لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ»،
ومن الأحاديث الدالة على عظمة السماوات، ما رواه ابن حبان في صحيحه: (عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة».
وفي سنن أبي داود: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ جُهِدَتِ الأَنْفُسُ وَضَاعَتِ الْعِيَالُ وَنُهِكَتِ الأَمْوَالُ وَهَلَكَتِ الأَنْعَامُ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَيْحَكَ أَتَدْرِى مَا تَقُولُ» وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ «وَيْحَكَ إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ لَهَكَذَا». وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ «وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ». قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ «إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ»
أيها المسلمون
والغفلة عن تعظيم الله حق تعظيمه ومعرفة حق قدره يعود إلى الجهل به؛ قال ابن القيم رحمه الله: فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب سبحانه في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالًا، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حقَّ عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته؛ قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ نوح: 13
(14)
ومن أهم أسباب عدم تعظيم الله تعالى: الوقوع في المعاصي، قال ابن القيم: (وكفي بالمعاصي عقوبة أن يضمحل في قلبه تعظيم الله)، ومنها: التساهل في أوامر الله، ومنها: عدم تدبر القرآن، والغفلة عن ذكر الله تعالى، ومنها: النظر فيما حرم الله
ومن أهم ما يعين المسلم على تعظيم الله تعالى: تحقيق العبودية الكاملة لله، وتدبر القرآن، والتفكر في خلق الله، والدعاء
ومن عظمته أنه لا تراه العيون في الدنيا، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول،
وتعظيم الله يعود على العبد بفوائد كثيرة؛ منها: أن المسلم الذي امتلأ قلبه بعظمة الله لديه ثقة مطلقة بالله، فتجده هادئ البال، ساكن النفس، مهما ضاقت به السبل،
واستشعار عظمة الله تملأ القلب رضًا وصبرًا.
ومعرفتنا بعظمة الله تُورِث القلب الشعور بمعيته سبحانه، وتمنحنا الطمأنينة في المحن، والبصيرة في الفتن،
واستشعار عظمة الله ومعيته تبعث في النفس معنى الثبات والعزة، وتقوِّي العزائم حتى في أشد حالات الضعف.
وثبت في الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنه – قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ .فَضَحِكَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) الزمر:67.
وثبت في المسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة»،
(15)
اسم الله (الشكور- الشاكر)
اسم الله (الشكور) ورد في القرآن الكريم في أربع مواضع، ومنها، قوله تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (30) فاطر، وقوله تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (34) فاطر، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (23) الشورى
واسم الله(الشاكر): ورد في القرآن مرتين، في قوله تعالى: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (158) البقرة، وقوله تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (147) النساء
(الشكور والشاكر): هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم الجزاء، فشكره لعباده مغفرته لهم.
والله تعالى(شكور): (فهو شكور للحسنات يضاعفها)،
وهو (شكور): يشكر اليسير من الطاعات، فيثيب عليها الثواب الكثير،
والله (شكور): فهو يعطي الجزيل من النعم، ويرضى باليسير من الشكر
والله (شكور): فمن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة، تقرب الله إليه بأكثر منها، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً».
والشكر من أعلى المقامات الإيمانية، وأرقى العبادات القلبية، أمر الله -عز وجل- به في مواطن كثيرة في كتابه، ولعظم مكانة الشكر وأثره الإيماني والتعبدي على حياة المسلمين، فقد شن إبليس -لعنه الله- الغارة على تلك العبادة العالية، وجعل جل تركيزه صرف الناس عن شكر ربهم والثناء على نعمائه، وذلك لأن إبليس يعلم جيدا عاقبة الشاكرين وأثر الشكر في تغيير حياة الناس، قال تعالى: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 17], وللأسف الشديد صدّق إبليس ظنه على كثير من الناس، فقل شكرهم وغاب ثناؤهم، وقال الله في ذلك: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف:10].
وشكر العبد لله تعالى: يكون بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافا، وبالجوارح طاعة وانقيادا،
والشكر نوعان: شكر عام: بوصف الله تعالى بالجود والكرم والبر والاحسان
وشكر خاص: بالتحدث بالنعمة: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (11) الضحى
والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد أعم من الشكر، فأنت تحمد العبد على (صفاته ومعروفه)، ولكنك لا تشكره إلا على المعروف فقط
أيها المسلمون
أما عن آثار الإيمان باسمه(الشكور والشاكر) في سلوك المؤمن وحياته، فمنها:
(16)
ما دام الله تعالى يشكر على القليل فلا نستصغر ولا نحتقر الأعمال الصالحة مهما كانت قليلة ،قال الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (261) البقرة، وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (160) الانعام، وفي صحيح مسلم: (جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقِةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ». وفي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ – وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ – وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر) في سلوك المؤمن وحياته: أن الله سبحانه وتعالى يجازي بالقليل من الأعمال جنات عرضها السموات والأرض، وفي صحيح البخاري: (عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا ، فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ » . قَالُوا وَلاَ ، أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ »
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): أن المؤمن يشكر الله تعالى على نعمه، قال الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (114) النحل، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (15) سبأ، وقال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (152) البقرة، وقال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (172) البقرة،
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): الإقرار بفضل الله ونعمه والاعتراف بها: فهذا نبي الله يوسف يقول: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) [يوسف: 38]، وهذا سليمان -عليه السلام- يقول: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، وهذا ذو القرنين بعد بناء السد يقر أنه ما تم إلا بفضل ربه فيقر قائلًا: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) [الكهف: 98]، بل هذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: “والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا” (متفق عليه).
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): شكر من أجرى الله نعمه إليك على أيديهم: فإن شكر الناس من شكر الله -تعالى-، ففي سنن الترمذي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ اللَّهَ»، وفي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أُعْطِىَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ »، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ»
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): استخدام النعم في الطاعة: قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]،
(17)
ومن الشكر: إخراج حق الأموال من الزكاة الواجبة ومن الصدقات المستحبة: وكذلك بإخراج زكاة العلم بتعليمه، وزكاة الصحة بإعانة الضعيف، وفي مسند أحمد: (وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ وَتَهْدِى الأَعْمَى وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ وَالأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ ». قَالَ أَبُو ذَرٍّ كَيْفَ يَكُونُ لِي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ فَمَاتَ أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ». قَالَ بَلِ اللَّهُ خَلَقَهُ. قَالَ «فَأَنْتَ هَدَيَتَهُ». قَالَ بَلِ اللَّهُ هَدَاهُ. قَالَ «فَأَنْتَ تَرْزُقُهُ». قَالَ بَلِ اللَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ. قَالَ «كَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلاَلِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ وَلَكَ أَجْرٌ»
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): المحافظة على النعمة بالاقتصاد فيها وعدم التبذير: قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 30]
وأيضا: التمتع بالنعمة بالمعروف وعدم كنزها: ففي سنن أبي داود: (عَنْ أَبِى الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي ثَوْبٍ دُونٍ فَقَالَ « أَلَكَ مَالٌ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «مِنْ أَيِّ الْمَالِ». قَالَ قَدْ أَتَانِيَ اللَّهُ مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ «فَإِذَا أَتَاكَ اللَّهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ». وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ».
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): أن يجود العبد ويكرم: فما دام يعلم أن الله -عز وجل- شكور سيجزيه بإحسانه إحسانًا وجنة وغفرانًا، فلن يبخل ولن يتردد أن يجود وينفق ويعطي، فالله -تعالى- هو القائل: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء:19]، وهو القائل لأهل الجنة وهم غارقون في نعيمها: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) [الإنسان:22].
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): أن يأمن العبد من زوال نعم الله عنه: فقد قضى الله -عز وجل- وأبرم أن من شكر نعمته زاده، ومن كفرها نزعها منه، قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، وهذا مثال حي لقرية كفرت بنعم الله فنزعها منها، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، فبعد الأمن حل محله الخوف، وبعد الرزق الرغد حل محله الجوع!
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): أن يتعلق قلب العبد بالمنعم الشكور وحده فينسب إليه الفضل في كل أمر، ولا يشرك به أحدًا من خلقه -وإن شكرهم-، فيبرأ العبد من نسبة النعم إلى كده وعرقه أو إلى ذكائه وفطانته، بل إلى المنعم المتفضل بها، الذي إن شكرتَها أنت شكر هو -عز وجل- لك ذلك بأجره ومكافأته.
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): أن الله يجازي على النية الصالحة؛ فالله الشكور يشكر حتى على النية الحسنة ولو لم تترجم إلى عمل فعلي، فلو تمنيت أن تكون
(18)
غنيا لتتصدق بأموالك على الفقراء فإن الله سيجازيك على هذه النية الحسنة، وحلاوة الشعور بأن الله يشكرك أحلى من كل عطاء تأخذه، فهو يشكر لعباده حسن الأداء، أفلا يشكرون له حسن العطاء: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]. وعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ”، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ” فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ ” (صحيح الترغيب)،
ومن آثار الإيمان باسمه: (الشكور والشاكر): التفاني والاجتهاد في طاعة الله تعالى، شكرا له على نعمه، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ « أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا». فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ)،
وشكر النعم يزيدها، فقد قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) إبراهيم:7، ومن الشكر: شكر الوالدين: قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (14) لقمان
أيها المسلمون
وقد بين الله تعالى أن أكثر الناس غارق في النعم، وغافل عن الشكر، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (243) البقرة، وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (13) سبأ،
وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلاَّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا » وَفِى حَدِيثِ الْمُرَادِىِّ « بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا ».
والله تبارك وتعالى لا يزيده شكر الشاكرين، ولا يضره كفر الكافرين بالنعم، وجحود الجاحدين، قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (7) الزمر،
فالمستفيد من الشكر هو الانسان الشاكر، قال تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) النمل:40، وقال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (147) النساء
والمتضرر من كفر النعمة هو الانسان، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا
(19)
يَصْنَعُونَ) (112) النحل، فكفران النعم يعرض الناس للعذاب، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) إبراهيم: (28)، (29)، وقال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (15): (19) سبأ، وفي صحيح البخاري: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – لَمَّا دَعَا قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ « اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» . فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ – يَعْنِي – كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ فَكَانَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ ثُمَّ قَرَأَ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) (10): (15) الدخان
وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من زوال النعم، ففي صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِك، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِك، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك}
(20)
اسم الله (الرَّزَّاقُ– الرازق)
الرزق ليس مقصورا على الأموال.. ولكن الرزق أشمل من ذلك: (فهو كل ما ينتفع به)
(فالمال والصحة، والولد والزوجة والعلم والصحبة والجيران والجوارح والإيمان والدواب والاطعمة والملبوسات والسكن، ومن الرزق اللسان الصادق ومحبة الناس والجمال والاخلاق والقناعة والرضا ….) كل ذلك من الرزق
وقد ورد اسم (الرَّزَّاقُ) في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (58) الذاريات، وقد قرأ ابن محيصن وغيره (الرازق)
وورد الاسم في السنة المطهرة: ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا. فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ».
وجاء اسم الله تعالى (الرَّزَّاقُ) بصيغة المبالغة لتعني (الكم والنوع)، فالله يرزق ويعطي كثيرا ،ويرزق الكثير من الكائنات والمخلوقات، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (6) هود
فالله تعالى هو (الرَّزَّاقُ): يرزق خلقه، ويتكفل بأقواتهم،
ورزقه سبحانه وسع كل المخلوقات، المؤمن والكافر، والولي والعدو، والضعيف والقوي، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (126) البقرة، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي مُوسَى – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لَيْسَ أَحَدٌ – أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ – أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»
ولكن هناك رزق خاص بالمؤمنين (مثل القلوب المؤمنة، والعلم النافع، والإيمان الصادق، والرزق الحلال الذي يعين على الطاعات، والأخلاق الكريمة، والحكمة، والفقه في الدين)، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (269) البقرة، وفي الصحيحين: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»
أيها المسلمون
ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين: (الرَّزَّاقُ– الرازق):
أن المتفرد بالرزق هو الله وحده، فلا نبتغي الرزق من غيره، قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) سبأ (24)، وقال تعالى: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (64) النمل
(21)
وما دام الخالق والرازق هو الله، ولا يشاركه في أحد، إذن فلنعبده ولا نشرك معه غيره، قال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) (73) النحل، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (40) الروم، وقال تعالى: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (21) الملك، وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (60) العنكبوت، ومن دعاء الرسول كما في الصحيحين: (اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ)
ورزقك هو ما انتفعت به، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النفع فيما رواه مسلم: (عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي – قَالَ – وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ». وفي رواية له: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِي مَالِي إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاَثٌ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَي ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ».
ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين (الرَّزَّاقُ– الرازق): أن أرزاق الله تعالى لا تنفد ولا تتوقف، ولو سأله جميع الخلق لأعطاهم، وما نفدت خزائنه، ففي صحيح مسلم: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)، وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَمِينُ اللَّهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ ».
ونؤمن أيضا: أن الله تعالى فضل بعضنا على بعض في الرزق، فيجعل من يشاء غنيا، ويجعل من يشاء فقيرا، وذلك لعلمه بحالنا، وهو خبير بما يصلحنا، قال تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (71) النحل، فالله تعالى من أسمائه (الحكيم) فهو يفعل كل شيء بحكمة ولحكمة، وعن علم وخبرة، فالله تعالى جعل في الناس فقراء وأغنياء، لأنه لو بسط الرزق لجميع عبادة سيبغون في الأرض، ولكن الفقر يصبح دافعا وسببا للاجتهاد وإظهار الخبرات والكفاءات والتفوق للخروج منه إلى الاكتفاء أو الغنى، قال تعالى: (ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الشورى (27).
وجاء في بعض الأخبار: (إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالقلة، ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصح إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لكفر)… وفي قول آخر: (إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، فلو بسطت له لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي بقلوبهم، إني عليم خبير).
وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (30) الاسراء
(22)
ونؤمن أيضا: أن كثرة الرزق في الدنيا لا تدل على محبة الله تعالى للعبد، وأن قلة الرزق لا تعني كراهية الله للعبد، قال تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (15): (20) الفجر، وقال تعالى: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (36)، (37) سبأ، وقال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) (55)، (56) المؤمنون،
ونؤمن أن كثرة الأموال والأولاد ليست هي التي تقرب من الله، ولكنه الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (37) سبأ
وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ)،
ونؤمن أيضا: أن تقوى الله تعالى سبب للرزق والبركة فيه، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (66) المائدة، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (96) الأعراف، وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (2)، (3) الطلاق،
وقد وعد الله المؤمنين الشاكرين بالزيادة في الرزق: فقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) إبراهيم: (7)، وتوعد الله المصرين على المعصية بعدم البركة في الرزق، أو الحرمان منه، ففي مسند أحمد: (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ)،
ومن المعلوم أن أعظم الرزق هو(الجنة)، قال تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (4) الانفال، وقال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) (11) الطلاق
والمؤمن لا يطلب رزقه بالحرام، أو بالحرص والتقتير والبخل، ولكنه يطلبه بالحلال، وينفق مما آتاه الله بغير اسراف ولا تبذير، ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ».
وفي سنن البيهقي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«لاَ تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ يَمُوتُ حَتَّى يَبْلُغَهُ آخِرُ رِزْقٍ هُوَ لَهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ مِنَ الْحَلاَلِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ»، وفيه: « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ وَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ»
(23)
وفي سنن ابن ماجه: (أن صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ قُرَّةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَىَّ الشِّقْوَةَ فَمَا أُرَانِي أُرْزَقُ إِلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّى فَأْذَنْ لِي فِي الْغِنَاءِ فِي غَيْرِ فَاحِشَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامَةَ وَلاَ نُعْمَةَ عَيْنٍ كَذَبْتَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ طَيِّبًا حَلاَلاً فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ).
ومن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلالَ: دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد: أمسك عليّ بغلتي، فأخذ الرجل لجامها، ومضى وترك البغلة، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافئ بها الرجل على إمساكه بغلته فوجد البغلة واقفة بغير لجام، فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاما، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال علي رضي الله عنه: إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدر له.
وقد تساهل الكثير في الكسب وتحصيل المال، وهذا دليل على فساد الناس في هذا الزمان ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ»
والمؤمن لا يسأل الناس الرزق، ولكن إذا جاءه بغير سؤال فليقبله، ففي صحيح مسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ». وفيه أيضا: (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى». وفيه أيضا: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ». وفي مسند البزار: (عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: لَوْ أَعْطَيْتُهُ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَيَقُولُ: يَا عُمَرُ، مَا آتَاكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَلاَ إِشْرَافِ نَفْسٍ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ قَالَ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ فَرَدَدْتُهُ، فَلَمَّا جِئْتُهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكَ أَنْ رَدَدْتَ مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ قُلْتُ: إِنَّ خَيْرًا لَكَ أَلا تَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ أَنْ تَسْأَلَ النَّاسَ، وَمَا جَاءَكَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَهُوَ رِزْقٌ رَزَقَكَ اللَّهُ).
والمؤمن لا يجحد نعم الله تعالى فيحرم منها نفسه، أو يمنعها من خلقه، ففي سنن النسائي: (عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنِي رَثَّ الثِّيَابِ فَقَالَ أَلَكَ مَالٌ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَالَ فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُهُ عَلَيْكَ )، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ »
(24)
وواجب على صاحب المال أن ينفق مما آتاه الله، ويتصدق ويحسن على عباد الله المحتاجين، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) البقرة: (254)، وفي الصحيحين: (أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ »، وفيهما: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»،
والمؤمن يرضى بما قسم الله له من الرزق بكل أنواعه، ففي سنن الترمذي: (فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ »، وفيه: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ)، وفي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ»
والإيمان بأن الله هو (الرَّزَّاقُ) يثمر صدق التوكل على الله، فهو يعلم أن رزقه مكتوب، ففي صحيح البخاري: (قال رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ)، وفي صحيح مسلم: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَيُكْتَبَانِ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَيُكْتَبَانِ وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ».
وعلى المؤمن أن يشكر الله تعالى على رزقه ونعمه صباح مساء، ففي سنن أبي داود: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ. فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ».
وفي قوله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (39) سبأ، روي في بعض الأخبار: (عن نبي الله سليمان عليه السلام: أنه رأى نملة تجر حبة قمح وبجهد إلى بيتها فقال لها سليمان عليه السلام: كم يكفيك من حبوب القمح لمدة سنة؟، قالت النملة: حبتان. قال سليمان عليه السلام: سوف أضعك في صندوق وأجعل لك حبتين لمدة سنة بدل بحثك عن حبوب القمح، وأغلق عليها الصندوق وجعل لها حبتين وجاء لها بعد سنة فوجد النملة أكلت حبة وتركت الحبة الثانية فاستغرب وغضب نبي الله سليمان عليه السلام وقال للنملة: لماذا تكذبين علي؟، تقولين تكفيني حبتين في السنة وأنتِ خلال سنة أكلتي حبة واحده فقط، قالت النملة: كانت تكفيني حبتين وكان الله لا ينساني ويرزقني، أما عندما أقفلت علي الصندوق ولم استطع أن أخرج فأكلت حبة وأدخرت حبة ثانية لأعيش بها قدر المستطاع حتى لا أموت، وخشيت أن تنساني).
وفي قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (22)، (23) [الذاريات]. سمعها أعرابي وهو يطوف بالبيت، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله، من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى
(25) اليمين؟!، وعن جابر رضي الله عنه؛ أن النبي (ﷺ) قال: (لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ) (حلية الأولياء وصححه الألباني)
ونحن نؤمن أن الأرزاق مقسُومةٌ وفق علمه وحكمته تعالي، ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَو يُؤخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ. فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنه قال: “قَالَتْ أُمُّ حَبيبَةَ زَوْجُ النبيِّ (ﷺ): اللَّهُمَّ أَمْتعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ الله (ﷺ)، وَبأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبأَخي مُعَاوْيَةَ، فَقَالَ النبيُّ (ﷺ): “قَدْ سَألْتِ اللَه لآجَالٍ مَضْرُوبَة، وأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَّابٍ في النَّارِ أَوْ عَذَابٍ في الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وأَفْضَلَ” رواه مسلم
وما دام الأرزاق مقسومة ومعلومة ومؤكدة، إذن فلم الهم؟، وأين التوكل على الله الرزاق؟، ففي مسند أحمد: (أن نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً»،
ويحكي أنه جلس إبراهيم بن ادهم رحمه الله يوما ووضع بين يديه بعضا من قطع اللحم المشوي فجاءت قطة فخطفت قطعة من اللحم وهربت، فقام وراءها وأخذ يراقبها فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم في مكان مهجور أمام جحر في باطن الأرض وانصرفت فازداد عجبه وظل يراقب الموقف باهتمام وفجأة خرج ثعبان أعمى ، يخرج من الجحر في باطن الأرض ويجر قطعة اللحم إلى داخل الجحر مرة أخرى، فرفع الرجل رأسه إلى السماء وقال سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضا.
ومما أورده ابن كثير -رحمه الله-: “أن الغراب إذا فقس عن فراخه البَيْض خرجوا وهم ِبيضٌ، فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أيامًا، حتى يسودّ الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيّض الله -تعالى- طيورًا صغارًا كالبرغش فيغشاه، فيتقوت به تلك الأيام حتى يسودّ ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفروا عنه، حتى إذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق”
أرأيتم كيف يتولى الله رزق الضعفاء حين يتخلى عنهم أقرب الأقرباء الرحماء؟! إنها منتهى الرحمة من الله وكمال الربوبية.
ويذكر أحدهم: أنه كان لديه هرٌّ يهتم به، وبطعامه، وكان يعطيه كل يوم ما يكفيه من الطعام، ولاحظ رب البيت أن الهر لم يَعُد يكتفي بالقليل مما يقدّم له من الطعام، فأصبح يسرق غير ما يُعطى له، فرصده صاحبه وجعل يراقبه، فوجده يذهب بالطعام إلى هرٍّ أعمى، فيضع الطعام أمامه ليأكله
(26)
والأصل في الرزق أنه لا يأتي وحده، ولكن يُسعي إليه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الملك: (15)، وقال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (10) الجمعة، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ فَقَالَ « أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ». قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ «ائْتِنِى بِهِمَا». فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ وَقَالَ «مَنْ يَشْتَرِى هَذَيْنِ». قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ وَقَالَ «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ». فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا». فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِى فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِى غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِى دَمٍ مُوجِعٍ ». وفي صحيح البخاري: (عَنِ الْمِقْدَامِ – رضي الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، وفيه أيضا: (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ»،
وقد رأى الفاروقُ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: (من أنتم؟، قالوا: نحن المُتوَكِّلون على الله، فعَلاهم عمر رضي الله عنه بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة)،
ولكن هناك بعض الحالات قد يأتي الرزق فيها بغير أسباب، كما كان الأمر في شأن (مريم ابنة عمران) عليها السلام، قال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (37) آل عمران، ومع ذلك فقد أمر الله تعالى مريم في موضع آخر أن تعمل بالأسباب، فقال الله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (25) مريم
ونحن نؤمن أن المالك الحقيقي للمال هو الله تعالي، ونحن مستخلفون فيه، لذلك ينبغي علي الإنسان أن يحسن استخدامه وتوظيفه ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (27)، (28) الأنفال. وقال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا
(27)
مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (7) الحديد، وفي صحيح البخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ). وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلاَنٌ. لِلاِسْمِ الَّذِى سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ».
وليعلم المسلم أيضا أن نعم الله عز وجل لا يمتلكها أحد، وإنما هي بمثابة الجوار، ليتمتع بها بما يرض الله عز وجل، فإذا أحسن الإنسان جوار النعم لازمته، وبارك الله له فيها، وإذا أساء جوارها فارقته ،وأثم إثما كبيرا. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ (ﷺ) فَرأى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَشَى إليها فأخذَها ثُمَّ مسحَها فَأكلَها ثُمَّ قال لي يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ” أخرجه ابن ماجه
ومالك لن يصحبك في قبرك، فليكن انفاقك منه زادك إلى آخرتك: ففي الصحيحين: (أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ». وفي صحيح البخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ»
وقد وصف الله عباده المؤمنين فقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (274) البقرة، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) (261): (264) البقرة،
ومن الأسباب الجالبة للرزق، والتي هي بمثابة مفاتيح للرزق، الاستغفار والتوبة: قال سبحانه حكاية عن نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح: 10-12]. وذكر الإمام القرطبي عن أبي صبيح قال: “شكا رجل إلى الحسن –الجدوبة-، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: أدع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، فقيل له: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار،
(28)
فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله -تعالى- يقول في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح: 10-12]. وقال تعالى حكاية عن هود -عليه السلام-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود: 3].
ومن أسباب الرزق ومفتاح من مفاتيحه: التقوى: وهي امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، والوقاية من سخطه وعذابه عز وجل، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3]. وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
ومن أسباب الحصول على الرزق: التوكل على الله تعالى، قال تعالى: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت: 17].
ومن أسباب الرزق العظيمة: التفرغ لعبادة الله جل جلاله: ومعنى تفرغ العبد لعبادة الله، أي أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، وليس المقصود بالتفرغ ترك السعي لكسب المعيشة، والجلوس في المسجد ليلاً ونهاراً، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ». ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة: ففي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ»، ومن الأسباب الشرعية للرزق: صلة الرحم: ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، وفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ» وَمَعْنَى قَوْلِهِ «مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ». يَعْنِى زِيَادَةً فِي الْعُمُرِ. ومن أسباب الرزق ومفاتيحه: الإنفاق في سبيل الله: قال الله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]. فالصدقة والإنفاق في سبيل الله من أسباب الرزق وسعته. وكذلك الإحسان إلى الضعفاء والفقراء؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم” [البخاري].
فإذا ما ضاقت الدنيا بعبد في بقعة من البقاع؛ فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء:100].
(29)
اسم الله (الحفيظ – الحافظ)
الحفيظ والحافظ: تعني: الذي يحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم وما تكن صدورهم، وهو الذي يحفظ أولياءه من الذنوب، ويحميهم من الشياطين،
والحفيظ والحافظ: هو من يحفظ السموات والأرض وما فيهما، فلا تزول ولا تندثر, قال تعالى : ﴿وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ البقرة:255، وقال تعالى: ﴿وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ الصافات:7، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فاطر:41،
والحفيظ والحافظ: هو – سبحانه – من يحفظ عبده من المهالك، ومن مصارع السوء، قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ الرعد:11: أَيْ: بأمره سبحانه، ممَّا لم يُقدَّر، فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه.
وقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ وَرَاءَكَ إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ. وقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الْجِنُّ.
وقد ورد اسم الحفيظ في القرآن مرتين، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ هود:57، وقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ سبأ:21،
وورد اسم الله الحافظ مرتين منها قوله تعالى: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ يوسف:64، ومرة بصيغة الجمع، فقال تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الحجر:9
وحفظ الله لخلقه نوعان: عام، وخاص: أما الحفظ العام: فحفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها، ويحفظ بنيتها، وتمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة قال تعالى : ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50
والحفظ الخاص: حفظه الخاص لأوليائه، فيحفظهم عما يضر إيمانهم من الشبه والفتن والشهوات، فيعافيهم منها، ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية،
ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ الحج:38
(30)
وفي سنن الترمذي: (احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك، وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ): أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعدِّيها، يحفظك في نفسك، ودينك، ومالك، وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله.
أيها المسلمون
من آثار الإيمان باسم الله “الحفيظ” و ”الحافظ”:
أنَّ الحافظ هو الله وحده لا شريك له، وأن المحفوظ هو من حفظه الله، وأن الله تعالى هو من يحفظ الانسان من الأمراض والمهالك والأعداء، وليست التمائم أو الحفاظات، أو الكتب والحجب، أو الخرزات، ولا غيرها، ففي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلاَ وَدَعَ اللَّهُ لَهُ». وفيه: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً أُرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ «وَيْحَكَ مَا هَذِهِ». قَالَ مِنَ الْوَاهِنَةِ قَالَ «أَمَا إِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْناً انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِىَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَداً»
ونؤمن أن الله تعالى هو الحافظ لكتابه الكريم، فقد تكفل الله بحفظه من التَّحريف والتغيير والتبديل، على مرِّ العصور والدهور، قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)
ونؤمن أن الله تعالى يحفظ من حفظ حدوده، واجتنب محارمه، قال تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) (النساء:34)، وجاء في سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».
وعلى المؤمن أن يحفظ الواجبات: كالصلاة، قال تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى) (البقرة:238). وقال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المؤمنون:9، والمعارج:34). فمن حافظ على الصلوات، وحفظ أركانها، حفظه الله من نقمته وعذابه؛ وكانت له نجاة يوم القيامة.
وفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْماً فَقَالَ «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُوراً وَبُرْهَاناً وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلاَ بُرْهَانٌ وَلاَ نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَىِّ بْنِ خَلَفٍ»
(31)
وروى الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: (إذا حافظ العبد على صلاته فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له: حفظك الله كما حفظتني، وصعد بها إلى السماء ولها نور تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها).
وأما المحافظة على الوضوء؛ فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُحافِظُ على الوضوء إلا مؤمن) (رواه أحمد وابن ماجه).
ومما أمر الله بحفظه: السّمع والبصر والفؤاد، قال سبحانه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36). فاحفظْ سمعك، فلا تسمع إلا ما يرضيه، واحفظْ بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أنْ يتعلّقا بما يغضبه ويسخطه، وينْشغلا بغيره.
ومما أمر سبحانه وتعالى بحفظه الفروج، قال سبحانه: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور:30). ومدح المؤمنين بذلك فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون:5-6). وفي صحيح البخاري: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»
ومما أمر الله بحفظه الأيمان، فقال: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) (المائدة:89)، لأنّ حفظ اليمين؛ يدل على إيمان المرء وورعه، فكثيرٌ من الناس يتساهل في الحلف والقسم، وقد تلزمه الكفارة وهولا يدري، أو يعجز عنها، فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه،
وكلما كان وفاء العبد بحفظ حدود الله وشرائعه أعظـم، كان حفـظ الله له كذلك، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: 40). وفي سنن الترمذي: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ »
ومما يلزم المؤمن حفظه أيضًا ما جاء في هذا الحديث؛ فقد روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حقَّ الحياء)، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: (ليس ذاك؛ ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبِلى، ومَنْ أرادَ الآخرةَ تركَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فعل ذلك استحيا من الله حقَّ الحياء).
ونؤمن أن الله تعالى يحفظ أعْمال عباده؛ فلا يضيع شيءٌ منها؛ ولا يخفى عليه، صغيراً كان أو كبيرا، ويوافيهم بها يوم الحساب إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر، ولا يَنسى الله منها شيئاً؛ قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً) (النبأ:29). وقد وكَّل الله بذلك حفظة كراماً من الملائكة.
(32)
قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 10 -12). وقال تعالى: (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (الطارق:4)، وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49).
ومن حفظ الله -تعالى- لعبده المؤمن: تثبيته له في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم:27] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف:13].
ومن حفظ الله -تعالى- لعبده المؤمن في دينه: حفظه له من الشبهات والشهوات، وتبصيره بالحق والباطل، ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يدعو به صلاة الليل: “اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم”(رواه مسلم).
ومن حفظ الشهوات ما يصرفه -تعالى- عن عبده المؤمن من الوقوع في الشهوات المحرمة، قال -تعالى- عن يوسف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]،
ومن صور حفظ الله للعبد: حفظ عقله وصحته وقوته، وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّع بعقله وقوته، فوثب يوماً من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك فقال: “هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر”.
ومن صور حفظ الله للعبد: حفظه لماله وأولاده وإصلاح ذريته؛ كما في قوله -تعالى-: (أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبَوَيْهِمَا”،
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَعِتْرَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ”، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنِّي لَأُصَلِّي فَأَذْكُرُ وَلَدِي فَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي”.
ومن صور حفظ الله لعبده: حفظه له من شرور الجن وشر كل ذي شر، قَالَ مُجَاهِدٌ: “مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ: وَرَاءَكَ! إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ”.
(33)
وقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: “لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ؛ لَتَخَطَّفَكُمُ الْجِنُّ”.
ومن صور حفظ الله لعبده: أن يحفظه عند موته، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (27) إبراهيم وقال أحد السلف: إذا احتضر المؤمن يُقال لملك الموت: شمَّ رأسَه فيقول: أجد في رأسه القرآن، فيُقال: شمَّ جوفَه، فيقول: أجد في جوفه الصيام، فيُقال: حفِظَ نفسَه فحفظَه الله عز وجل؛
ويجوز إطلاق هذا الاسم على الخَلق، فقد جاء ذلك في قوله تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (ق: 32). ويوسف: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55).
أيها المسلمون
وهناك صور متعددة لحفظ الله تعالى لعباده المؤمنين: فالحفيظ حفظ إبراهيم عليه السلام من النار ﴿ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء:69،70]،
والحفيظ: حفظ يونس عليه السلام في بطن الحوت ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]،
والحفيظ: حفظ موسى عليه السلام وهو طفل رضيع ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7]،
وحفظه وقومه من فرعون وجيشه الجرار ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]، والحفيظ: حفظ يوسف عليه السلام في غيابةِ الجُبِّ وفي السجن ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]،
والحفيظ: حفظ هاجر ورضيعها إسماعيل عليه السلام بوادٍ غير ذي زرع ( فإن الله لن يُضيِّعَنا..)
والحفيظ: حفظ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم من كيد ومكر مشركي قريش ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] فخرج من بينهم وهم متربصون به على باب داره ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]،
(34)
وحفظه وصاحبه إذ هما في الغار ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وحفظه في الطريق إلى المدينة، وفي كل مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36]، ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67].
أيها المسلمون
وهناك أسباب لحفظ الله لعبده المؤمن: ومنها: الدعاء؛ فإذا ضاقت عليك الأرض وكثرت المخاطر؛ فارفع يديك إلى السماء وقل: يا حفيظ احفظني بحفظك ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:64].
فعلى المسلم أن يدعو الله تعالى أن يحفظه من كل سوء، ففي مسند أحمد: (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي »
وفي المستدرك للحاكم: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: اللهم احفظني بالإسلام قائما واحفظني بالإسلام قاعدا واحفظني بالإسلام راقدا ولا تشمت بي عدوا حاسدا واللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك)
وفي سنن الترمذي: (أن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضى الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ ».
وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَصَّ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . وَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « صَدَقَكَ وَهْوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ »
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّى بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ».
(35)
وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئاً حَفِظَهُ». وفي سنن البيهقي: (عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى الْغَزْوِ فَشَيَّعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَنَا قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مَعِي مَا أُعْطِيكُمَاهُ وَلَكِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :«إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ وَأَنَا أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دَينَكُمَا وَأَمَانَاتِكُمَا وَخَواتِيمَ أَعْمَالِكُمَا ».
ومن أسباب حفظ الله للعبد: التحصن بالأذكار المشروعة التي وردت في الكتاب والسنة، قال ابن القيم -رحمه الله-: “أذكار الصباح والمساء بمثابة الدرع، كلما زادت سماكته لم يتأثر صاحبه، بل تصل قوة الدرع أن يعود السهم فيصيب من أطلقه”،
وفي الحديث: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ” (صحيح أبي داود)،
وعن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال: “أما إنك لو قلت حين تمسي: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك إن شاء الله -تعالى-” (رواه مسلم).