خطبة عن ( ثمار خلق العفو )
يناير 12, 2016خطبة عن (خلق العفو )
يناير 12, 2016الخطبة الأولى ( الصحابة وخلق العفو )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (14) التغابن ،
إخوة الاسلام
خلق العفو من سمات الصالحين، ومن صفات المتقين، الذين شرفت نفوسهم وطهرت قلوبهم وعلت عند الله مراتبهم؛ قال سبحانه وتعالى في وصفهم وبيان جزائهم: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134]. وقال سبحانه مبينا السبل التي تؤدي إلى تقواه: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ﴾ [البقرة: 237]. فهؤلاء الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم وغرس خُلقَ العفوِ والتسامح في نفوسهم، وإن قوبلوا بالصدّ والإعراض والقطيعة؛ فكانوا مثالا يحتذى في العفو والصفح عمن أساء إليهم.
فهذا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- خاض من خاض في عرض ابنته الطاهرة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- في حادثة الإفك ومنهم ابن خالته مِسْطَح بن أُثاثه –رضي الله عنه- قبل أن تنزل براءتها من فوق سبع سموات، وكان الصديق يُنفق على مِسْطَح -رضي الله عنه- فلما بلغه ما يقول في الصديقة – رضي الله عنها – منع عنه ما كان يُعطيه إياه، فأنزل الله جل وعلا بعد أن برأها سبحانه مما رميت به –رضي الله عنها- (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]. . فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق رضي الله عنه وعن ابنته”.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستهزئ به رجل ويتهمه بالبخل والظلم فيعفو عنه ويصفح؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عنه ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أن عُيَيْنَة بْنَ حِصْنِ بْن حُذَيْفَةَ دَخَلَ عَلى عمر فقَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ بْن قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ».
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر، أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغِض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22].
وهذا أبو ذر رضي الله عنه، يقول لغلامه يوما: “لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغِيظك. قال: لأجمعَنّ مع الغيظ أجرًا، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى”. وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده :{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى. وكلّم الشعبيُّ ابن هبيرة في قوم حسبهم فقال إن كنت حبَسْتَهم بباطلٍ فالحَقُّ يُطْلِقهم ، وإن كنتَ حبستهم بحقّ فالعفو يَسَعُهم. وقال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه) ، وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: “لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة ”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( خلق العفو ) 2
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقال علي بن الحسين: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء علينا عفونا. فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله! فيقوم ناس من الناس، وهم الأقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتجالس في الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. وقال: بئس القوم قوم ختلوا الدنيا بالدين، وبئس القوم قوم عملوا بأعمال يطلبون بها الدنيا. (حلية الأولياء )
وهكذا كان أئمة السلف رحمة الله عليهم أجمعين متخلقين بهذا الخلق الكريم؛ فهذا الربيع بن خثيم رحمه الله، شتمَه رجل، فقال له: «يا هذا، قد سمع الله كلامك، وإنّ دون الجنة عَقبَة، إن قطعْتُها لم يَضُرَّني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شَرٌّ مما تقول». وهذا الإمام البخاري رحمه الله، يقول له بعض أصحابه: «إنّ بعض الناس يقع فيك!». – لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا ماذا سيقول؟ ربما يبادر ويقول مباشرةً: ماذا يقولون؟! ومتى؟! ومَن هم؟! أما الإمام البخاري رحمه الله تعالى لما قيلت له هذه الكلمة: «إن بعض الناس يقع فيك»، قال: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، وتلا أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43].
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-رغم ما ألحقه به أعدائه من أذى وظلم وعدوان، كان- رحمه الله- يقول :”فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله، فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم، فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية، لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له”. يقول الإمام ابن القيم : يا ابن ادم .. إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لايعلمها إلا هو , وإنك تحب أن يغفرها لك الله , فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده , وأن وأحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده , فإنما الجزاء من جنس العمل … تعفو هنا يعفو هناك , تنتقم هنا ينتقم هناك تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك. قال الشافعي رحمه الله :
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ * * أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ * * لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ * * كَأَنَّمَا قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ * * وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ
الدعاء