خطبة عن خشية الله بالغيب وثمارها ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
مارس 13, 2021خطبة حول ( موقف الاسلام من: بدعة الدين الإبراهيمي ،ووحدة الأديان )
مارس 20, 2021الخطبة الأولى: قذائف الحق ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (18) الأنبياء، وقال الله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (48) سبأ
إخوة الإسلام
إن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم ،بدأ منذ أن خلق الله الإنسان, قال الله عز وجل: { يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) طه ،فمنذ تلك اللحظة ابتلى الإنسان بكيد الشيطان, وصراعه معه, ومازال الشيطان يكيد لآدم ،حتى أهبط لهذه الدنيا, وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض ,يقول الله عز وجل :{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (36) البقرة ,وبعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ؛ ظلت أجيال من بني آدم على الهدى قرونا طويلة ، يتوارثون الهدى والإيمان عن أبيهم آدم (عليه السلام) كما جاء في تفسير قول الله جل وعلا: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (213) البقرة ,قال ابن عباس : (كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ،هذا أحد الأوجه في تفسير الآية, وبناء عليه نستطيع أن نقول :إن الأجيال التالية لآدم ظلت وفية للحق ، وللتوحيد الذي تلقته عن آدم (عليه السلام) حتى أثر فيهم هذا الشيطان؛ فانحرفوا عن التوحيد, واندرست معالمه, فاحتاج الأمر إلى بعثة نبي يجدد الإسلام والتوحيد ،فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ،وبعد بعثة هؤلاء الرسل (عليهم السلام) صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم ,وبين أعداء الرسل من الشياطين وأتباعهم, ولذلك يقول الله تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ } (31) الفرقان , وبعد بعثة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه ,فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعداء كثيرون من المجرمين, ومن الأكابر، قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (123) الأنعام ,وما أبو جهل, وعتبة, وأبو لهب, وشيبة, وغيرهم إلا أمثلة ونماذج لأعداء الرسل عليهم السلام, ثم الدين ،وهم وأمثالهم يحاربون دعوته صلى الله عليه وسلم عبر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
أيها المسلمون
فمن صور الصراع بين الحق والباطل التي سجلها القرآن الكريم :انتفاضة الخليل إبراهيم ( عليه السلام) لتقويض عبادة الأصنام التي عكَفَ عليها قومُه، واستنقاذهم من هذا الضلال المبين؛ حتى يكون الدين كلُّه لله، وحتى لا يُعبَد في الأرض سواه، ثم ما كان من مقابلة الباطل لهذا الحقَّ بأعنف ما في جعبته من سهام الكيْد والأذى، حتى انتهى به إلى إلقائه حيًّا في النار، لكن هذه الحملة باءت بالفشل، قال الله سبحانه: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 68 – 70] فكانت الغَلَبة والعاقبة للحق وأهله ،لإبراهيم(عليه السلام) .
ومعركة أخرى بين الحق والباطل رفَع لواءها نبي الله موسى – عليه السلام – ضد فرعون، الذي تمادَى به الشر والنُّكْر والباطل؛ حتى قال لقومه: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، وحتى قال لهم: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]. وقال متوعِّدًا الحقَّ وأهله بالنكال وأليم العذاب: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: 127]. ولكن إرادة الله للحقِّ أن ينتصرَ، وللباطل أن يندحِر، أعقبتْ هلاك فرعون وجنوده، ونجاة موسى ومَن معه؛ كما قال الله سبحانه: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 63 – 68].
وتلك معركة الحق مع الباطل، التي استعرت نيرانُها بين خاتم النبيين وإمام المتقين – عليه أفضل الصلاة والتسليم – وبين قومه من صناديد قريش وأشياعهم، الذين حسبوا أنهم قادرون على إطفاء نور الله بأفواههم، وإيقاف مَدِّ الحق الذي دَهَمهم في عُقر دورهم، فلم تكن العاقبة إلا ما قَضَى الله به من ظهورٍ لدينه وغلبةٍ لجُنده، وهزيمةٍ لعدوِّه، وقطْعٍ لدابره، تجلَّت صورته في نهاية الأمر في وقوف رسول الهدى – صلوات الله وسلامه عليه – أمام هذا البيت المشرَّف يوم فتح مكة، يطيح بالأصنام من فوقه، تاليًا قولَ ربِّه سبحانه: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]. وهكذا مكَّن الله لنبيِّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقامتْ دولة الإسلام في حِقبة يسيرة من الزمن، حتى دانتْ أعظم الدول والممالك للمسلمين، وارتفَع العرب بالإسلام، وأعزَّ الله الأمة حين رفعت القرآن.
أيها المسلمون
إن الصراع بين الحق والباطل سنة ربانية، ولولا الصراع بين الحق والباطل لم يقم علم الجهاد ،ولم تخلق الجنة والنار، قال الله تعالى :{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] فهذه هي سنة الله في الصراع بين الحق والباطل، وهي لا تقف عند حد أو زمان أو مكان، بل هي ماضية مضي الليل والنهار، هكذا أراد الله وقدر، وهكذا حكم ودبر، فهو الملك الحق، يعلم ما كان وما يكون ،ولا يخفى عليه شيء، فحكمته بالغة، وحجته دامغة، وقهره ظاهر، وأمره ظافر، وكل من عصاه خاسر. وما يريده أعداء الله تعالى اليوم هو طمس ذلك المعلم العظيم، ومحاولة الوصول إلى هدف عقيم، قد سبقت حكمة الله خلافه، فهم يريدون أن يميعوا معالم هذا الصراع إلى صراعات ونزعات عرقية، أو وطنية، أو وثنية، ويمحوا ذلكم الصراع بين الحق الجلي والباطل العمي. إنهم يريدون – كما يزعمون وأنى لهم ذلك – أن يقولوا للناس لا عداء بين الأمم، ولنعشْ في أمن وأمان ،كأننا عالم واحد، لا خلاف ولا نزاع بيننا، ولتذهب تلكم العقائد البالية – كما زعموا قاتلهم الله – ولنبني العالم على نوع من الوئام والسلام، والبعد عن كل دين بما في ذلك الإسلام فما يريده الأعداء اليوم: هو صرف النظر عن القضية العظمى، وهي: أن هذا الدين الاسلامي هو الدين الحق، ولا بد من التميز والمفاصلة على أساسه المتين، وحبله الرفيع القوي الموصول برب العالمين، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل ،لذا فهم اليوم يصبون غضبهم على الدول الإسلامية صباً، وينزلون العذاب على أهلها قتلاً وضرباً، أليس في هذا دليل على أن طريق الصراع بين الحق والباطل ماضٍ مهما دندن هؤلاء وطبلوا، ومهما دعوا إلى السلام وحاولوا، كيف يدعون إلى هذه الشعارات الزائفة، ومنهم في كل بلاد مرعوبة وخائفة.. كيف يدعون إلى ذلك، وهم قد سلكوا أخبث المسالك ،فكفانا غفلة ،وكفانا ضياعاً ، وكفانا تبعية، فعودوا إلى ربكم ،وافهموا دينكم ،وأطيعوا نبيكم، وكفانا خزياً وعاراً ودماراً ،فمن يريدون اليوم تحويل الصراع إلى صراعات سطحية، ويعرضون عن منهج الله ،هم يعملون أنهم في سراب، ويحفرون في رمل يباب، ومأواهم إن لم يتوبوا إلى عذاب، لقد قال الله تعالى عن ذلك الصراع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [التوبة: 123]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 123، 124]، ومعظم آيات القرآن تتحدث عن هذه السنة الربانية التي لا يردها راد، ولا يضيق بها واد ،فالصراع منذ القدم قائم بين الموحدين والملحدين، بين المشركين والمسلمين، بين المسلم النقي والكافر الشقي، بين من {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وبين من إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم ونفرت وكرهت، بين من يرجون الله واليوم الآخر، وبين من لا يرجون لله وقاراً، بين أهل الطهر والعفاف، وبين أهل الباطل المستكبرين. وستبقى سنة الله ماضية، والظافر من كان في الحياة على البلاء صابر، والخاسر من كان لكل حق مكابر، ولا ينجو يوم القيامة إلا من رحم ربك.
أيها المسلمون
ولقد انبرى لمحاربة الإسلام الكثيرون فتحطموا، وتكسرت على حقيقته الثابتة نظرياتهم وأقوالهم المزخرفة، وتكشفت بنوره تزييفاتهم وأكاذيبهم وأباطيلهم، وظل الإسلام بحقه ونوره يتحدى كل مخالف له، ويصرع كل مصارع، ويطحن كل محارب ، قال الله تعالى :{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. إنه موقف رهيب انفرد به هذا العصر، أن ينبعث أناس من أبناء جلدتنا ليطعنوا الدين باسم الدين، ويحاربوا الفضيلة ،وينشرون الرذيلة. لقد استُخدم هؤلاء استخدام العبيد الرعاع لخدمة اليهود والنصارى ،في نشر الأفكار والأخلاق التي تناقض الإسلام وأخلاقه وهديه. لقد قامت صحف ومجلات وكتاب يهاجمون ما أسموه (التقاليد) وهم يقصدون الدين الذي ورثه المسلمون عن آبائهم وأجدادهم وينادون بضرورة تحطيمها وتخليص المجتمع من أغلالها. لكن حتى يتم الصراع الكوني، قامت طائفة لله تقارع ذلك الفساد السابق، وذاك الانحراف الخطير عن مجريات الكون والدين، بالقلم والبيان، فردوا تلك الشبه، وصارعوا الباطل وقاوموه، وردوا الفساد وضللوه، فالغرب هو الذي نحى الشريعة الإٍسلامية من البلاد، التي وطئتها أقدامه في أثناء الغزو الصليبي ،والغرب هو الذي يقول: إن الإسلام السياسي هو الخطر الجديد الذي يهدد العالم، والذي يجب أن تجند له قوات الغرب، بل قوات العالم كله.. وهم مع هذا لا يصرحون في كثير من الأحيان بمحاربة الإٍسلام، ولكنهم يلبسون على الأمم بمسميات، ومنها (محاربة الإرهاب).
أيها المسلمون
إن قذائف الحق مستمرة ،والله سبحانه وتعالى يقمع كل باطل ،ويجند من يشاء لخدمة الحق , وإن تولى عنه أهله استبدلهم بمن يحبهم ويحبونه ،ويحملون الحق على أعناقهم ،ويتشرفون به ،ويستعلون بإيمانهم، قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } [لأنبياء 18 – 20] . قال السعدي في تفسيره : يخبر تعالى، أنه تكفل بإحقاق الحق ،وإبطال الباطل، وإن كل باطل قيل وجودل به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان، ما يدمغه، فيضمحل، ويتبين لكل أحد بطلانه :{فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: مضمحل، فانٍ، وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل، شبهة، عقلية ولا نقلية، في إحقاق باطل، أو رد حق، إلا وفي أدلة الله، من القواطع العقلية والنقلية، ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه ،فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد. وهذا يتبين باستقراء المسائل، مسألة مسألة، فإنك تجدها كذلك، ثم قال: {وَلَكُمْ } أيها الواصفون الله، بما لا يليق به، من اتخاذ الولد والصاحبة، ومن الأنداد والشركاء، حظكم من ذلك، ونصيبكم الذي تدركون به {الْوَيْلُ} والندامة والخسران. ليس لكم مما قلتم فائدة، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها، وتعملون لأجلها، وتسعون في الوصول إليها، إلا عكس مقصودكم، وهو الخيبة والحرمان، ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فالكل عبيده ومماليكه، فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك، ولا معاونة عليه، ولا يشفع إلا بإذن الله، فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل لله منها ولد؟! فتعالى وتقدس، المالك العظيم، الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الصعاب، وخشعت له الملائكة المقربون، وأذعنوا له بالعبادة الدائمة أجمعون، وفي هذا من بيان عظمته وجلالة سلطانه وكمال علمه وحكمته، ما يوجب أن لا يعبد إلا هو، ولا تصرف العبادة لغيره.
أيها المسلمون
قذيفة الحق: قذيفة ربَّانية في وجه كل باطل، تُزلزل كيانه، وتحطم أركانَه، وتقهره وتُهلكه، حتَّى يصل الهلاك إلى دماغه؛ فيعطب ويتلف، يقول الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]. ومَن القاذف إلا الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، فهل ترى للباطل وأهله من باقية؟ وأي شيء سيبقى للباطل حتى يعيده ويبدؤه؟ ،فلن يبق منه شيء أبدًا لأنَّه سيضمحل ويزول، فإنَّ الحق أبلج، والباطل لجلج، ففي الصحيحين 🙁عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنه – قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُمِائَةِ نُصُبٍ ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ « جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، جَاءَ الْحَقُّ ، وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ »،
قذيفة الحق: وإن ناوأها المناوِئُ، وكادَ لها الكائد، وحاول أن يمكرَ بأهلها الماكر، وأراد أن يطمس صورتها، فإنَّه سيأتي يومٌ يقول فيه مَن كان على ذلك الباطل: { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51] وسيعترف بأنَّه كان على باطل وضلال، قال تعالى :{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}يونس:32
قذيفة الحق: كالمطر النازل من السماء؛ حيث تسيل به الأودية، وتفيض به العيون، وتسقى به الأرض بعد موتها، وينتفع بها الخلق منافِع شتَّى، وأمَّا الباطل فلو كان كثيرًا كثيفًا، فمآله إلى زوال ،وسفال واضمحلال؛ قال الله تعالى :{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية: قذائف الحق ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قذيفة الحق: كلمة ما كانت تُقال لِتُقمَع، بل لكي يظهر أثرُها ويسْطَع، ويزهق الباطل ويُقلع، ولئن ابتُلي صاحبها فلا بدَّ له من أصدقاء صدق يُدافعون عنه، ولا يُبقونه لظلم السجَّان، ولا لطغيان السلطان، ولا لتجاهل الأصحاب والخلاَّن ،وتأمَّل في حالة رسول الله محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – حينما كان يعرض الإسلام على القبائل والوفود، ويطلب منهم نصرتهم؛ وذلك لأنَّ كلمة الحق عزيزة، وصاحبها عزيز، فلا بدَّ مِن نصرته وحمايته، وتأمل قول الفاروق عمر – رضي الله عنه -: (إنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له)، فالحق لا بدَّ له من قوَّة تَحْمِيه، وتزيح العقبات والعراقيل التي تواجهه، وصدق الله القائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
و(كلمة الحق) تحتاج لأشخاص يقولونها ويقولون بها، ويثبتون عليها ولا يتراجعون عنها؛ لأنَّها (حق)، والحق لا رجعة فيه.
(قذيفة الحق): لها ضريبةٌ ،اشتكى منها كثيرٌ مِمَّن قالها، وكثيرٍ من الناس بُعد عن قائلها، إمَّا خوفًا مِمَّا سيحصل لهم من أذى السلطان أو الناس، أو أنَّ كثيرًا من الناس لا يُعجبهم الصدع بالحق؛ لأنَّ لسان حالهم كلسان حال من قال: (مَا سَمِعْنا بهذا في آبائنا الأولين)، ومِمَّا جاء عن أبي ذر قوله: (مَا زَالَ بِي الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى مَا تَرَكَ الْحَقُّ لِي صَدِيقًا)، فكلمةُ الحقِّ ثقيلةٌ على النفس، ولهذا لا يتحمَّلها إلا القليل، لكن إن أرضيت بها الرحمن، فسيجعل لك من بعد عُسْرٍ يُسرًا.
(قذيفة الحق): قد تكون سهلةً ميسَّرة إن كانتْ لا تغضب الناس، ولكنَّها مُرَّة للغاية إن قلتها أمام من تظن أنَّهم سيأبونها ويُعرضون عنها، ويثنون أعطافهم نكاية بصاحبها، وفي مسند أحمد : (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِى وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَداً شَيْئاً وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ).
(كلمة الحق) تقال في أي مكان، فهي كلمة نورانيَّة، وحجَّة ربانيَّة، ومنحة إلهيَّة، وفي مسند أحمد : (عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ – وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ – قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْعَةَ الْحَرْبِ – وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ – عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَلاَ نُنَازِعُ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ) .
الدعاء