خطبة عن (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
يناير 28, 2025خطبة عن (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)
يناير 30, 2025الخطبة الأولى (النظر في العواقب شأن العقلاء)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (11) الانعام، وقال تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (84) الاعراف، وقال تعالى: (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (73) يونس، وقال تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) (50): (53) النمل
إخوة الإسلام
إن العقل لهو من أفضل مواهب الله لعباده، وهو أعلى ما شرفهم به، وأرفع ما أنعم به عليهم ،فلا يقاربه شيء من العطايا والخيرات، ولا تدانيه نعمة من النعم، وهل عاش الناس في الدنيا عيشة هنيئة إلا بعقولهم؟، وهل سما قدر الإنسان إلا بسمو عقله؟، وهل انتفع ابن أدم بمثل عقله؟، فالعقل أساس الإيمان، وهو معقد الإسلام، وبه تتم محاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق، وقد قيل لعطاء بن أبي رباح: (ما أفضل ما أعطي العبد؟، قال: العقل عن الله، وقيل لعبد الله بن المبارك: ما خير ما أعطي الرجل؟، قال: غزيرة عقل، قيل: فإن لم يكن؟، قال: أدب حسن، قيل: فإن لم يكن؟، قال: أخ صالح يستشيره، قيل: فإن لم يكن؟، قال: صمت طويل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: فموت عاجل).
ولما كان العقل بهذه الأهمية، وله تلك المنزلة، أصبح النظر في عواقب الأمور، ومآلات الأعمال من شأن العقلاء، فالنظر في عواقب ومآلات الأمور والأفعال معتبَرٌ ومقصود شرعًا، وهو أصل من أصول الفقه، فالعاقل ينظر إلى العواقب، لا إلى ملذاته ومكاسبه الحاضرة، العاقل هو من فكر فيما مضى، وما هو آت، العاقل هو من آثر الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (16) (17) الاعلى، وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (20)، (21) الحديد، هذه هي حقيقة الدنيا، وتلك هي الدار الآخرة، فالعاقل من آثر الدنيا على الآخرة، واختار الباقي على الفاني، والثمين على الحقير، والغالي على الرخيص، وفي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْي أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ»، وفيه أيضا: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا»،
هذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها، ويخطب ودها الكثير من الناس، فشتان بين من رضي بها ،وبين من عرف حقيقتها، فأقبل على الآخرة، يطلبها ويعمل لها، فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً، لقد أنسى حب الدنيا الناس، وشغلهم عن طاعة الله عز وجل، الخوف منه، ألا يعقل أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشاً أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».
فيا بشرى من اشترى الآخرة بالدنيا، ويا حسرة من اشترى الدنيا بالآخرة، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ يَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وفي سنن الترمذي: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ»، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ – وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ – فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ».
أيها المسلمون
فحري بمن ابيض شعره، وتقوس ظهره، وتجعد جلده، وهو لا يزال مصرًا على حب الدنيا، والغفلة عن الآخرة، فحري به أن يحكم عقله، وأن يفر إلى ربه، وأن يعود إلى رشده، بصالح العمل، والتوبة الصادقة، فإن الأعمال بالخواتيم، وحري بمن أنعم الله تعالى عليهم، وأعطاهم من فضله: من قصر مشيد، ومركب فاره، وأثاث أنيق، ورصيد كبير، ومع ذلك لم يشكروا الله على إنعامه، ولم يحذر شدة بطشه، ومفاجأة انتقامه؛ فعليه أن يتدارك أمره، بشكر النعم، واستعمالها في طاعة المنعم، والإقلاع عن الإثم، قبل فوات الأوان، قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:99]،
وحري بمن جمع أمواله كلها، أو جلها من الحرام، فجمعها من الربا، أو الرشوة، أو الغلول، أو الاختلاس، أو مستغلاًّ لوظيفته، وخائنًا لأمانته، أو جمعها من الغش والاتجار في المحرمات، أو جمعها من مظالم الناس، والاستيلاء على حقوق الآخرين، فجمع مالًا وعدده، يحسب أن ماله أخلده، فعليه أن يحكم عقله، وأن يحذر شؤم ماله، فإنه إن أنفقه وهو من حرام لم يؤجر، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له، وإن تركه وراء ظهره كان زاده إلى النار، وفي صحيح البخاري: (عَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ – رضي الله عنها – قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فعليه أن يصفي ماله من الحرام، فإن تصفيته اليوم خير له وأنفع له من تصفيته يوم القيامة، ففي الصحيحين: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَامَ فِينَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ قَالَ «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ»،
وحري بمن تأمر على اثنين فأكثر، أن ينصح لهم، وأن يحسن إليهم، وأن يحذر من ظلمهم، ففي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
وحري بمن ابتلي بقرناء السوء، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أن يفارقهم، وأن يهجر مواطنهم، قبل أن يعض على يديه قائلًا: ﴿يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 27 – 29].
وهكذا، فكل من فكر بعقله، وفكر في أمره، وفيما قدم من عمله، كان حريًا بسرعة التوبة، وقرب الأوبة، قبل أن يُطوى الكتاب، ويُغلق الباب، ومن نسي الله تعالى نسيه، ومن نسيه أهلكه، ولا يبالي به في أي وادٍ هلك، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (19)، (20) الحشر، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ». وفي سنن ابن ماجه: (يَقُولُ صلى الله عليه وسلم- «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (النظر في العواقب شأن العقلاء)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
إن التفكر في عواقب الأمور من صفات العقلاء، فكثيرٌ من الأمور لا يمكن أن تحكم عليها ببداياتها، بل بنهاياتها؛ لأن الشيء ربما يكون خيرًا في أوله، ولكنه يكون شرًّا في آخره، وقد يكون العكس؛ ولذلك لا بد للإنسان من أن يتدبر أمره، في كلِّ ما يريد القيام به، قبل أن يبدأ بالعمل، ليعرف مداخل الأمور ومخارجها، ومصادر الأمور ومواردها، وليعرف النتائج السلبية أو الإيجابية، الناجمة عن القيام بهذا العمل أو ذاك، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”، فالعاقل إذا أراد أن يقول الكلمة في أي مجال، فإنه يتدبَّر الأمر، أي: أنه يستشير عقله قبل أن يقول كلمته، ليدرس العقلُ الكلمة في كل نتائجها، وفي كل سلبياتها وإيجابياتها، أما الأحمق فقلبه وراء لسانه، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه، قالها دون أن يدرس عواقبها ومآلاتها. وقال أيضًا رضي الله عنه: “مَن نظر في العواقب، أَمِن مِن النوائب”. وقال الشافعي رحمه الله: “صِحَة النظر في الأمور نجاة من الغرور؛ ففكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تُقدِم”.
وسُئِلَ أحد الحكماء عن الفرق بين العاقل والسفيه؟ فقال: كثير، ومنه: أن العاقل اللبيب يستفرغ فكره، ويتبصر الأمر قبل أن يباشره، والجاهل السفيه يستخف فكره، ويتبصر الأمر بعد أن ينتهي منه، نعم، فالنظر في العواقب شأن العقلاء.
الدعاء