خطبة عن حديث (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ)
مارس 30, 2019خطبة عن حديث (مَنِ ابْتُلِىَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ)
مارس 30, 2019الخطبة الأولى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (31) الفرقان
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .القرآن الكريم : لا تشبع منه العلماء ،ولا تلتبس به الألسن ،ولا تزيغ به الأهواء ،ومن تركه واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً .القرآن الكريم : هو كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله ،وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه
وموعدنا اليوم -إن شاء الله- مع آية من كتاب الله ، نتلوها ، ونتفهم معانيها ، ونسبح في بحار مراميها ، ونعمل إن شاء الله بما جاء فيها ، مع قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (31) الفرقان ، وتعالوا بنا بداية نتعرف على أقوال علمائنا من أهل التأويل والتفسير حول هذه الآية : قال ابن عاشور : هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقِيَه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم . وفيه تنبيه للمشركين ليَعْرِضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال مَن كذّبوا من قوم نوح وعاد وثمود . وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممّن هم يومئذ مُعرِضون عنه ، وفي تفسير الطبري : يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَكَمَا جَعَلْنَا لَك يَا مُحَمَّد أَعْدَاء مِنْ مُشْرِكِي قَوْمك , كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ مَنْ نَبَّأْنَاهُ مِنْ قَبْلك عَدُوًّا مِنْ مُشْرِكِي قَوْمه , فَلَمْ تُخَصَّص بِذَلِكَ مِنْ بَيْنهمْ . وفي تفسير الألوسي : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين فإنه تسلية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، والبلية إذا عمت هانت، والعدو يحتمل أن يكون واحدا وجمعا، أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مرتكبي الجرائم والآثام، وقوله تعالى: وكفى بربك هاديا ونصيرا ،وعد كريم له عليه الصلاة والسلام بالهداية إلى كافة مطالبه والنصر على أعدائه، أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات التي من جملتها تبليغ ما أنزل إليك، وإجراء أحكامه في أكناف الدنيا إلى أن يبلغ الكتاب أجله، وناصرا لك عليهم على أبلغ وجه.
أيها المسلمون
إن الصراع بين الحق والباطل سنة كونية ، تحكم أمر المجتمعات البشرية ،اقتضتها الحكمة الإلهية ،ليتحقق في دنيا الناس قوله تعالى -: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الله الخبيث من الطيب} [آل عمران: 179]، فلا يتميز الخبيث من الطيب في دنيا الناس إلا من خلال المدافعة عبر الشدائد والمحن والابتلاءات، إذ لو كان الإيمان مجرد لفظة يتشدق بها الإنسان ليفوز بلقب “المؤمن” أو “المسلم” لسهل أمر اعتناق هذا الدين ولدخل في زمرته كل من هب ودب دون أن يتميز المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق عليم اللسان. وشاء ت حكمة الله وعدله سبحانه وتعالى أن يجعل لأنبيائه ورسله وأتباعهم من المؤمنين أعداءً من الطغاة والمجرمين، فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْـمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، ثم أوضح سبحانه في موضع آخر حقيقة هؤلاء الطغاة المجرمين، فقال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا…} [الأنعام: 112], فهم شياطين من الإنس ومن الجن، يتصل بعضهم ببعض على وجه خفيٍّ لمواجهة الحق المتمثِّل في دعوة الأنبياء والرسل – عليهم السلام – وأتباعهم إلى يوم الدين . فوجود هؤلاء الطغاة المجرمين أمر مقدَّر ومقرر كوناً (لا شرعاً). قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]، وأن الله قدر ذلك لحِكَم عظيمة، من أهمها: التمييز والتمحيص، والابتلاء والاختبار، واتخاذ شهداء من المؤمنين، وحصول محبوب الله من عبودية الصبر وتحمُّل الأذى. ثمَّ بعد ذلك محق هؤلاء الطغاة وإزالتهم وشفاء صدور المؤمنين منهم. وأن الله – عز وجل – قد يملي لهؤلاء الطغاة ويمهلهم إلى أجل، حتى تتحقَّق حكمته السابقة، كما جاء في البخاري : « إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ »
أيها المسلمون
وفي قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (31) الفرقان ، ففي هذه الآية الكريمة يتحدث الحق تباركت أسماؤه، مسلياً نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الله تعالى بعث محمَّدًا ﷺ على فترة من الرُّسل، واصطفاه على جميع الخلق بحمل الرِّسالة وأداء الأمانة، وهيَّأه للصَّبر على ما سيناله من قومه من أذى واحتقار واستنكار، وأعلَمه أنَّه سَيُؤْذَى ويُحرم من البقاء مع أهله وعشيرته، ففي «الصَّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها (فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا ، حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ » . فَقَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ ،وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) ، فتيقَّن ﷺ أنَّه سَيُؤذى من قِبَل قومه؛ لأنَّها سنَّة الله في أنبيائه إذ لم يأت أحد بمثل ما جاء به إلاَّ آذاه قومه وأنكروا عليه رسالته، فلذلك أنزل الله عليه آيات مبيِّنات فيها تسلية وبيان أنّه سيُصيبه ما أصاب الأنبياء من قبله، ومنها قول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان:31]، بل وأخبره تعالى أنَّه سيُقال له ما قد قيل للرُّسل من قبله من التَّكذيب والافتراء والاستهزاء، فلا يزيده ذلك إلاَّ صبرًا وعزمًا على تبليغ الرِّسالة وأداء الأمانة، قال الله تعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيم﴾ [فُصِّلَت:43]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الأنعام:34].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (31) الفرقان، فهذه الآية وغيرها جاءت مصداق ما أخبر به ورقة بن نوفل، ليكون على أهبة الاستعداد لما سيُلاقيه من قومه من الأذى والتَّكذيب والطَّرد واللَّعن، قال الإمام أبو شامة المقدسي رحمه الله: «وهذه سنَّة الله تعالى في الأنبياء والمرسلين مع قومهم غيرِ الموَفَّقين للإيمان منهم؛ فإنَّهم يُظهرون لهم العداوة والأذى على الجملة، ويشتدُّ عليهم الفطام عمَّا كان آباؤهم عليه، فيُبالغون في أذى نبيِّهم والَّذين آمنوا به، فيضطرُّونهم إلى الخروج عنهم كما جرى لنبيِّنا وأصحابه، ولعلَّ ورقةَ سمع ذلك من أهل الكتاب الَّذين عرف منهم صفة النَّبيِّ محمَّد ﷺ ووقت مبعثه» ،وقد تفنَّنت قريش في إيذاء النَّبيِّ ﷺ، فآذوه بأفواههم أوَّل ما صدع بالحقِّ وأبان عيب آلهتهم وسفَّه أحلامهم، فكذَّبوه، ورموه بالشِّعر والسِّحر والكهانة والجنون، ورسول الله ﷺ مُظهرٌ لأمر الله، داعٍ إلى ما جاء به من الهدى والحقِّ، لا يخاف في الله لومةَ لائمٍ، وعزَّاه ربُّه بما أنزل عليه من الآيات الكاشفة زيف آلهتهم الَّتي يعبدون من دون الله، فأبطل الله مزاعمهم، كقوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُون * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِين * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُون * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِين * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون﴾ [الطور:29-36] إلى غير ذلك من الآيات البيِّنات في هذا المعنى.
فهذه سنَّة الله في خلقه يبتلي أولياءه من الأنبياء والصَّالحين، حتَّى إذا صبروا مكَّنهم ونصرهم على أعدائهم، فكان فيهم أسوة حسنة لمن جاء بعدهم ممَّن يقتفي أثرهم ويدعو بدعوتهم، فالنَّبيُّ ﷺ أسوة للدُّعاة، وسيرته نبراس لهم وضياء، ليعلموا أنَّ الله يختبرهم ويمحِّصهم ويبتليهم بأعداء يؤذونهم في ذواتهم وأعراضهم، لكنَّ العاقبة للمتَّقين، فليتأمَّلِ العبدُ سياق هذه الآيات وما تضمَّنته من العبر وكنوزِ الحِكَم؛ فإنَّ النَّاس إذا أرسل إليهم الرُّسل بين أمرين: إمَّا أن يقول أحدهم: آمنَّا، وإمَّا ألاَّ يقول ذلك، بل يستمرُّ على السَّيِّئات والكفر، فمن قال: آمنَّا، امتحنه ربُّه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار ليتبيَّن الصَّادقُ من الكاذب، ومن لم يقل: آمنَّا، فلا يحسب أنَّه يعجز الله ويفوته ويسبقه؛ فإنَّه إنَّما يطوي المراحل في يديه. وسُئل الشَّافعي :: أيُّما أفضل للرَّجل أن يُمَكَّنَ أو يُبتلى؟ فقال: لا يمكَّنُ حتَّى يُبْتَلَى، والله تعالى ابْتَلَى أولي العزم من الرُّسل، فلمَّا صبروا؛ مَكَّنَهم. فلا يظنُّ أحدٌ أنَّه يخلص من الألم البتَّة، وإنَّما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألَمًا مستمرًّا عظيمًا بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمرِّ» ، ويقول الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي رحمه الله : « لسنا نجهل هذا من سنن الله، فلمْ نَشُكَّ لحظةً منذ وضعنا قدَمنا في طريق الإصلاح الدِّيني ورفعنا الصَّوت بالدَّعوة إليه في أنَّ الله سيديل للحقِّ من الباطل، وأنَّه يبتلي أولياءه بالأذى والمحنة؛ ليمحِّصهم ويكمِّل إعدادهم للعظائم، ولم نزل على يقين تتجدَّد شواهده أنَّ في المصائب الَّتي تصيبنا في سبيل الإصلاح شحذًا لهممنا وإرهافًا لعزائمنا وتثبيتًا لأقدامنا، وإلفاتًا للغافلين عنَّا إلى موقعنا من الأمَّة وموقفنا من أعدائها، وقد أَلِفْنَا هذه المكائد الَّتي تُنصب لنا حتَّى ما نُبَالي بها، .. »
الدعاء