خطبة عن ( الْخَاسِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
مارس 13, 2021خطبة عن قذائف الحق ،وقوله تعالى ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )
مارس 17, 2021الخطبة الأولى ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (12) الملك
إخوة الإسلام
إنَّ الخشيةَ الحقةَ لله، هي التي تُربي القلبَ، حتى لا يُفرقَ بينَ مَعصيةٍ وأُخرى، فلا يُنظرُ إلى صِغَرِ المعصيةِ، ولكن يُنظَرُ إلى عظمةِ من عَصِي، ولذلك ، يقولُ الله سُبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (12) الملك، فأهلُ الخشيةِ هُم السعداءُ في الدُّنيا، الفائزونَ في الآخرةِ، والخشية : هي شدة الخوف من الله، كما في قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:49] ، وأما عن محل تلك الخشية : فهي في قلوب أهل العلم ، كما قال الله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر:28] ،وذلك لأنهم يعرفون حق الله تعالى ، ويراقبونه ، فالذين يخشون ربهم بالغيب ، هم الذين يعرفون حق الله عليهم ، ومراقبته إياهم ، في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم ، مهما تخفوا وتستروا، وهم دائماً منيبون إلى الله ، فهذه منزلة الأنبياء، قال الله تعالى 🙁 الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب:39]، وهي أيضا منزلة العلماء، وهي أعلى درجات السلوك مع الله تبارك وتعالى، وقد جاء في تفسير الوسيط لطنطاوي : إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه ، ويعبدونه كأنهم يرونه ، مع أنهم لا يرونه بأعينهم . . هؤلاء الذين تلك صفاتهم ، لهم من خالقهم – عز وجل – مغفرة عظيمة ، وأجر بالغ الغاية في الكبر والضخامة .وقوله (بِالْغَيْبِ) أي :غائبا عنهم ،أو :غائبين عنه ،أي : يخشون عذابه دون أن يروه – سبحانه – ويجوز أن يكون المعنى : يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس ، فهم يراقبونه – سبحانه – في السر ، كما يراقبونه في العلانية كما قال الشاعر : يتجنب الهفوات في خلواته … عف السريرة ، غَيبُه كالمشهد
والحق أن هذه الصفة ، وهى خوف الله تعالى وخشيته بالغيب ، هي على رأس الصفات التي تدل على قوة الإِيمان ، وعلى طهارة القلب ، وصفاء النفس . وقد روى التّرمِذي وابنُ ماجةَ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالتْ: سألتُ رسولَ اللهِ عن هذه الآيةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) المؤمنون 60، قالت: أهمُ الذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرقونَ؟ قالَ: {لا يا بنتَ الصديقِ، ولكنهم الذي يصومونَ، ويصلونَ، ويتصدقونَ، وهم يخافونَ ألا تقبلَ منهم، (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) ، وقال مسروقٌ ـ رحمه اللهُ: «كفى بالمرءِ علمًا أن يخشى اللهَ، وكفى بالمرءِ جهلاً أن يُعجبَ بعملِهِ». وقال إبراهيمُ بنُ سفيانَ: «إذا سكنَ الخوفُ القلبَ، أحرقَ مواضعَ الشهواتِ منهُ وطردَ الدنيا عنه».
وها نحن اليومَ ، وقد عاثتِ الدُّنيا بأهلِها، فأضحى المخلوقُ يخشى المخلوقَ دونَ الخالقِ، ويَرجو الْمربُوبَ دونَ الربِّ سبحانه، فعجبًا لمن يَخشى النَّاسَ، ويخافُ الناسَ، وعيونَ الناسِ، وألسنةَ الناسِ، وعقابَ الناسِ، ولا يخشى ربَّ النَّاس، فأَعمالُهُ للخلقِ، وسؤالُهُ للخلقِ، يُعطِي لِيُرضيَ فُلاناً، ويَمنعُ لِيحظى بِقُربِ فلانٍ، يُحبُّ للدنيا، ويُبغضُ للدُّنيا، فهذا قد خابَ وخسرَ، فما قامَ في قَلبِهِ الوجلُ من ربِّهِ، ولا عَرَفَ اللهَ حقَّ المعرفةِ وصَدَقَ الله العظيم إذ يقول في محكم آياته : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) الزمر 67، قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: رحمه الله : «مَنْ خَافَ اللهَ، أَخَافَ اللهُ منه كلَّ شيءٍ، ومن لم يَخَفِ اللهَ خَافَ مِنْ كلِّ شيءٍ» ، فمفهومَ هذه العبادةَ العظيمةَ، [الخشيةِ] قد غابَ في قاموسِ كثيرٍ من النَّاسِ، إِلاَّ من رَحِمَ ربُّك، فقد غَابَ في تَعامُلِنا مع ربِّنا، وفي تعاملِنا في أنفسِنا، وفي تعاملِنا مع الناسِ ، وفي أقوالِنا، وفي أفعالِنا، وفي بيعِنا وشرائِنا، وفي تربيتِنا لأبنائِنا، وفي أدائِنا في وظائفِنا، وفي تعاملِنا مع الأُجراءِ والخدمِ، بل غاب في حياتِنا كلِّها، فحل بنا ماحل ، وأصابنا ما أصاب القوم الظالمين .
أيها المسلمون
إِنَّ الإِيمَانَ بِالغَيبِ ، يُورِثُ القُلُوبَ تَوَجُّهًا إِلى اللهِ صَادِقًا ، وَاتِّبَاعًا حَسَنًا، وَيُكسِبُ النُّفُوسَ انقِيادًا تَامًّا ، وَتَسلِيمًا كَامِلاً، وَيُخضِعُ العِبَادَ لأَوَامِرِ رَبِّهِم وَنَوَاهِيهِ، وَالإيمان بالغيب بِهِ تَنقَلِبُ حَيَاةُ الأَفرَادِ مِن ضَلالٍ وَخَسَارَةٍ إِلى هدًى وَفَلاحٍ، وَتَسلَمُ المُجتَمَعَاتُ مِن أَمرَاضِ الشُّحِّ وَالشَّحنَاءِ وَالاعتِدَاءِ، وَتُجَنَّبُ أَدوَاءَ الكَذِبِ وَالبُهتَانِ وَالمَكرِ وَالخِيَانَةِ، وَتَحيَا بِهِ في النَّاسِ جُذُورُ التَّقوَى وَتَقوَى لَدَيهِم بَوَاعِثُ الوَرَعِ، وَيَسلُكُونَ سُبُلَ الصَّلاحِ وَالإِصلاحِ، وَلَو أَنَّ النَّاسَ آمَنُوا بِالغَيبِ الإِيمَانَ الحَقِيقِيَّ ، الَّذِي لا شَكَّ مَعَهُ، إِيمَانَ مَن كَأَنَّهُ يَرَى الغَيبَ رَأيَ عَينٍ بِيَقِينٍ، لأَثمَرَ ذَلِكَ لَهُم خَوفًا في القُلُوبِ وَخَشيَةً لِعَلاَّمِ الغُيُوبِ، وَلاستِقَامَةً الأَلسِنَةِ وَعملوا عَمَلاً صَالحًا بِالجَوَارِحِ، وَلاجتَنَبُوا المَعَاصِيَ وَالسَّيِّئَاتِ وَالمُنكَرَاتِ، وَلَهَدَأَت نُفُوسُهُم وَاطمَأَنَّت قُلُوبُهُم، وَلانزَاحَت عَن صُدُورِهِم كَثِيرٌ مِنَ الهُمُومِ وَالأَثقَالِ، ولَكِنَّ أَكثَرَ الناس لا يَعلَمُونَ وَلا يَعقِلُونَ، وَمِن ثَمَّ فَقَد آثَرُوا الفَانيَ عَلَى البَاقي، وَبَاعُوا الكَثِيرَ بِالقَلِيلِ، وَفُضِّلَتِ الأُولى لَدَيهِم عَلَى الأُخرَى. وَأَمَّا القِلَّةُ القَلِيلَةُ مِنَ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ، الَّذِينَ زَادَهُمُ اللهُ تَقوًى ، وَيَقِينًا وَهُدًى، فَقَد آمَنُوا بِالغَيبِ إِيمَانَ مَن يَشهَدُهُ، وَصَدَّقُوا بِهِ تَصدِيقَ مَن لا يَغِيبُ عَنهُ، وَمِن ثَمَّ فَقَد حَازُوا في دُنيَاهُمُ الطُّمَأنِينَةَ وَكَسِبُوا رَاحَةَ البَالِ، قَالَ الله سُبحَانَهُ وتعالى : ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فالمُؤمِن بالغيب مُطمَئِنُّ القَلبِ دَائِمًا، سَاكِنُ الجَأشِ أَبَدًا، إِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ، وَإِنِ ابتُلِيَ بِشَرٍّ أَو فِتنَةٍ، صَبَرَ وَتَحَمَّلَ وَلم يَنقَلِبْ عَلَى وَجهِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِيَقِينِهِ أَنَّ مَا وَقَعَ فَهُوَ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَأَنَّ بَعدَ الدُّنيَا دَارًا لِلجَزَاءِ وَالحِسَابِ، وَيَومًا تَصغُرُ فِيهِ هُمُومُ الدُّنيَا مَهمَا كَبُرَت، وَسَاعَةً تُوَفىَّ فِيهَا كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت، فَيُؤخَذُ فِيهَا لِلمَظلُومِ بِمَظلَمَتِهِ، وَيُوفىَّ فِيهَا المَهضُومُ حَقَّه، وَأَنَّ مَعَ الصَّبرِ نَصرًا، وبَعدَ الكَربِ وَالعُسرِ فَرَجًا وَيُسرًا. والإيمان بالغيب يجعل رَكعَتَينِ يَركَعُهُمَا المُسلِمٌ قَبلَ الفَجرِ، أَو تَسبِيحَةً أَو تَهلِيلَةً أَو تَكبِيرَةً أَو تَحمِيدَةً، خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا ، وَممَا طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ ، وَأَنَّ مَوضِعَ سَوطِ المُؤمِنِ في الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فِيهَا، وَمِن ثَمَّ فَقَد تَرَفَّعُوا عَنِ التَّشَاحُنِ وَالتَّنَافُسِ، وَاتَّصَفُوا بِالعَفوِ وَالتَّسَامُحِ ، وَطَهَّرُوا قُلُوبَهُم مِنَ البَغضَاءِ وَالأَحقَادِ، وَسَلِمُوا مِنَ التَّدَابُرِ وَالعَدَاوَاتِ، وَالمؤمنون بالغيب تَرَاهُم وَإِنْ غَلَبَتهُم بَشَرِيَّتُهُم، فَنَالَهُم شَيءٌ مِنَ الحُزنِ أَوِ اعتَرَاهُم ضِيقٌ في الصُّدُورِ، أَوِ اغتَمُّوا وَهُم يَرَونَ الكُفَّارَ أَوِ الفُجَّارَ أَوِ الظَّلَمَةَ قَد أَخَذُوا مِن حَقِّهِم مَا أَخَذُوا، أَو نَهَبُوا مِن نَصِيبِهِم مَا نَهَبُوا، أَو كَانَت لهم في وَقتٍ مِنَ الأَوقَاتِ الدَّولَةُ وَالغَلَبَةُ فَآذَوا مِن عِبَادِ اللهِ مَن آذَوا؛ إِلاَّ أَنَّ إِيمَانَهُمُ العَمِيقَ بِالغَيبِ وَيَقِينَهُم بِأَنَّ المَرَدَّ إِلى اللهِ، يَعُودُ بِهِم إِلى الاستِقرَارِ النَّفسِيِّ وَالاطمِئنَانِ القَلبيِّ، وَيُورِثُهُم مِنِ انشِرَاحِ الصُّدُورِ مَا لَو قُسِمَ عَلَى أُمَّةٍ لَوَسِعَهُم، وَفي الجَانِبِ المُقَابِلِ، فَإِنَّهُم مَهمَا أُعطُوا مِن دُنيَاهُم أَو فُتِحَ عَلَيهِم فِيهَا مَا فُتِحَ، فَإِنَّ إِيمَانَهُم بِأَنَّ مَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وَأَبقَى، وَأَنَّ الحَيَاةَ الدُّنيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالآخِرَةَ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى، الإيمان بالغيب يُكسِبُهُم حَمدَ اللهِ – سُبحَانَهُ – على نِعَمِهِ، وَيُلهِمُهُمُ المَزِيدَ مِن شُكرِهِ وَذِكرِهِ وَحُسنِ عِبَادَتِهِ، فَلا يَشغَلُهُم عَنِ اليَومِ الآخِرِ شَاغِلٌ، وَلا يُطغِيهِم عَلَى مَن سِوَاهُم مُكتَسَبٌ، أُولَئِكُم هُمُ المُؤمِنُونَ المُتَّقُونَ ، الَّذِينَ استَحضَرُوا في كُلِّ وَقتٍ وَآنٍ قَولَ رَبِّهِم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [فاطر: 38] ، وَقَولَهُ تعالى : ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النحل: 77]
الدعاء