الخطبة الأولى ( الإسلام ومبدأ المساواة بين الناس ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إخوة الإسلام
إن المتتبع لنشأة (مبدأ المساواة بين الناس) خلال المراحل المتعاقبة التي مرت بها الإنسانية منذ بداياتها الأولى في العصور السحيقة، وحتى عهد قريب، يجد أنّ الظلم ،والاستعباد ، والاستعلاء ،هي السمات السائدة في مسيرة الجماعة الإنسانية، فصراع الإنسان دائم منذ هبوطه على الأرض، وإيقاعه الظلم بأخيه إلى حد قتله ،والفوز بمتعة الحياة، وقد استمرت شريعة الغاب على هذا النهج ،الذي يقوم على التغالب، وفرض إرادة القوي على الضعيف، واستعباد الحاكم للمحكوم، وتسخير الفقير من أجل الغني· وكان من الطبيعي – في ظل هذا المناخ- أن ينزوي (مبدأ المساواة بين الناس)، بل وجدت فكرة التفرقة بين الناس منذ عصر أرسطو، الذي تنسب اليه مقولة تقسيم المجتمع إلى (طبقة سادة ،وطبقة عبيد)، ولم يكن هذا رأي أرسطو وحده، بل شاركه في ذلك مفكرون آخرون في عصور متتابعة،
ثم جاء الإسلام ،ليقول للناس ما قاله الحق تبارك وتعالى :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، وما يقوله رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم : (النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ »، وقوله صلى الله عليه وسلم: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى»،
هكذا حارب الإسلام العادات السيئة ،التي كانت منتشرة في العالم في ذلك الوقت، من ظلم الأكاسرة ،والقياصرة ،والأباطرة، ومن جبروتهم وطغيانهم، نعم حارب الإسلام كل هذه العادات ،وجعل مكانها العدل ،والمساواة ،والرحمة، ويدلّ على ذلك قول المولى تبارك وتعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (58) النساء. ،وقوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (135) النساء. ولقد تنازع عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه- وهو أمير على المؤمنين مع يهودي، فاحتكما إلى شريح، فسأل عليّ بن أبي طالب البيّنة فعجز عن إقامتها، فوجّه اليمين إلى خصمه اليهودي فحلف، فحكم بالدرع لليهودي، فاستغرب اليهودي ذلك الأمر، وقال: قاضي أمير المؤمنين يحكم لي عليه! ونطق بالشهادتين وأسلم.
أيها المسلمون
وهكذا هدم الدين الإسلامي (بمبدأ المساوة بين الناس) كل المعايير الزائفة التي أشار القرآن الكريم إلى الكثير منها, حيث يقول الله تعالى في الإنكار على أصحاب المعايير الزائفة في التفاضل: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (111) الشعراء. مما يدل على أنهم لم يؤمنوا؛ لأن مَن هم أقل منهم قد آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقالوا: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء) (13) البقرة. ولما طلب وجهاء قريش ومن كانوا يحسبون أنفسهم سادة قومهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطرد الفقراء والمساكين ،وضعاف الناس الذين التفوا حوله وآمنوا به، كعمار بن ياسر، وبلال، بحجة أنهم يريدون أن يستمعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم لا يجلسون مجلساً يكون فيه هؤلاء محل الرعاية من الرسول الكريم، نزل قول الله تعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (52) الأنعام. ، ويعيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أحد أصحابه أن عير صاحباً له بلونه, ففي الصحيحين واللفظ لمسلم 🙁عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ فَقُلْنَا يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً. فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَقِيتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ. قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ،هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ،فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ،وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ،فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الإسلام ومبدأ المساواة بين الناس ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأما الخير والحق الذي في هذا اللفظ فهو: أن المسلمين متساوون أمام الشرع في أحكامه ، وتكاليفه ،فلا يفرَّق بين شريف ووضيع في إقامة الحدود ،ولا بين الرجل والمرأة ، إذا جاء أحدهم بما يستحق به جلداً ،أو رجماً ،أو قتلاً ، وقد جاءت أمثلة عملية على ذلك ، كما أن من أوجه المساواة بين الرجل والمرأة : الوعد في الآخرة بالثواب ، والجنة ، قال الله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل/ 97 ،هذا هو المعنى الحق الذي في هذا اللفظ ، وليس هذا ما يريده من ينادي بالمساواة في الجزاء عند الله ،وعند المؤمنين ،قال الله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (28) ص ،لذلك فقد نفى الاسلام أن يستوي من آمن بالله وأنفق ماله قبل الحديبية ،وبين من آمن وأنفق بعدها ،قال الله تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) (10) الحديد، كما نفى المساواة بين المجاهدين والقاعدين بغير عذر ،قال تعالى : (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً) النساء (95) ،
وكذلك المساواة بين المرأة والرجل لها جانبان : حق ، وباطل ، فإذا أريد أنهما سواء في التكاليف والأحكام وإقامة الحدود : فالمعنى صحيح ،إلا ما استثناه النص ، وإذا أريد به أن الذكر كالأنثى في كل الأمور :فباطل ،والله تعالى يقول (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) آل عمران (36)، فالمرأة تحتاج لولي في الزواج ،وليس الرجل كذلك ،والقوامة للرجل ،لا للمرأة ،والطلاق بيد الزوج ، لا الزوجة ،والجماعة والجهاد واجبان على الرجال دون النساء ،وثمة فروق أخرى في الدية ، والعقيقة ،والميراث .ولا يعني هذا تمييز الرجل في كل الأمور ،فقد جاءت الوصية بالأم ثلاثة أضعاف الوصية بالأب ،ففي الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ : (أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ) ، وقد قدَّم الله تعالى الإناث في بعض المواضع مثل قوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ) الشورى / 49 . ولذا فإنه من دعا لمساواة المرأة بالرجل في كل الأمور :فهو داعية ضلال.
أيها المسلمون
إن الإسلام سما بالإنسان وكرّمه، وأزال الفوارق في الحقوق، وفي المعاملات بين جميع أفراده ، وإن ما تدعيه الأمم الديمقراطية اليوم من أن العالم مدين لها بمبدأ المساواة يناقضها واقعها، وسياستها وقوانينها، فحقوق الإنسان التي تتصارع الأمم على تنازع شرف وضعها، قد أعلنها المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- منذ بدء الدعوة الإسلامية مع تطبيقها، وسار على منواله الخلفاء الراشدون من بعده، وكثير من فضلاء الأمة الإسلامية الذين كانوا مفخرة التاريخ الإسلام
الدعاء