خطبة عن (دعاء الغريق)
يونيو 28, 2025خطبة عن (من عوامل الثبات في زمن الاستضعاف والاضطهاد)
يونيو 28, 2025الخطبة الأولى (حُقُوقُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام أحمد في مسنده: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ: دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً: فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلاَةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً: فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ». وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
إخوة الإسلام
الذنوب التي يقع فيها العبد، منها: ما يكون بين العبد وربه، ومنها: ما يتعلق بحق من حقوق العباد، وقد اشترط أهل العلم للتوبة النصوح شروطا ثلاثة، فيما إذا كان الذنب بين العبد وربه، وهي: الإقلاع عن الذنب، والندم على الفعل، والعزم على عدم العودة إلى الذنب، فإن كان الذنب متعلقا بحق من حقوق العباد، فيشترط فيه شرط رابع، وهو أن يتحلله من صاحبه في الدنيا، بأن يرد إليه الحق، أو يطلب منه العفو، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ)،
وحقوق العباد على العباد جماعها ثلاثة أشياء، وهي: (النفس، والمال، والعرض) وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». وفي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمِنًى «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ «فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ، أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «بَلَدٌ حَرَامٌ، أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «شَهْرٌ حَرَامٌ –(قَالَ – فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»،
وقد شددت الشريعة الاسلامية على حقوق العباد أعظم تشديد، ففي صحيح الأدب المفرد للبخاري: (قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قِبَلَ الشَّامِ، عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قَالَ: قُلْتُ: مَا بُهْمًا؟، قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شيء، وَيُنَادِي مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعْهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، حَتَّى اللَّطْمَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَكَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟، قَالَ: بالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ)، ومن قذف مسلما أو مسلمة في الدنيا، ولم يقم عليه حد القذف، أو تاب ولم يتحلل من صاحب الحق، أقيم عليه الحد يوم القيامة، ففي الأدب المفرد للبخاري: (عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَنَعَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – طَعَامًا, فَبَيْنَمَا الْجَارِيَةُ تَعْمَلُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذْ قَالَ لَهَا الرَّجُلُ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهْ، إِنْ لَمْ تَحُدَّكَ فِي الدُّنْيَا, تَحُدُّكَ فِي الْآخِرَةِ”.
أيُّها المسلمون
إنَّ حقوقَ العبادِ أمرُها شديد، قال عبدُ الله ابن الزبير -رضي الله عنهما-: لما نزلت هذهِ الآية: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر:30–31]. قال: يا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: “أيُكررُ علينا ما يكونُ بيننا، مع خواصِ الذنوب؟ قال: “نعم ليُكرَرَنَّ عليكم حتى يُرَدَّ إلى كلِ ذِي حقٍّ حقه، قال الزبير: واللهِ إنَّ الأمرَ لشديد” [رواه البيهقي وغيرهِ، وكتبَ رجلٌ إلى ابن عمرٍ -رضي الله عنهما-: (أن اكتب إليَّ بالعلمِ كله)، فكتبَ إليه: “إنَّ العلمَ كثيرٌ، ولكن إن استطعت أن تلقى اللهَ خفيفَ الظهرِ من دماءِ الناسِ، خميصَ البطنِ من أموالهم، كافَ اللسانِ عن أعراضهم، لازمًا لأمرِ جماعتهم فافعل” (سير أعلام النبلاء)،
فحقوق العبادِ لا يضيعُ منها شيءٌ، (فعَنْ عَائِشَةَ -رضي اللهُ عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ -عز وجل- ثَلاثَةٌ: دِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ -عز وجل-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة:72]. وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَغْفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ. وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الْقِصَاصُ لا مَحَالَةَ” رواه أحمد ،
وقال العلماءُ: حقوقَ العبادِ مبنيةً على المُشاحَّة، وحقوقَ اللهِ مبنيةً على المسامحةِ، أي فيما عدا الإشراكُ به سبحانه، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ” [رواه مسلم]. والجلحاء: هي الشاةُ التي لا قُرونَ لها، والقصاصُ بين البهائمِ ليس قصاصَ التكليفِ، وإنَّما هو قصاصُ مُقابلة.
أيُّها المسلم
فإن كانَ عندكَ مظالمُ لغيرك، أو حقوقٌ، فعليك أن تتحللَ منها اليومَ، قبلَ العرضِ على الحكَمِ العدل، الذي لا يَظلمُ الناسُ شيئاً، ولكنَّ الناسَ أنفسهم يظلمُون، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»؛ فاحذَر يا عبد الله من حقوق العباد فإن لها من الله طالبًا.
لذلك من خاف أن تحبط عنه حسناته يوم القيامة، فليتحلَّل من حقوق العباد اليوم ولا يظلمهم، فقد روت عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: (يُحْسَبُ ما خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا، لا لَكَ وَلا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ؟ ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء:47]، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ) رواه الإمام أحمد والترمذي.
لذلك قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (إنك أن تلقى الله عز وجل بسبعين ذنبًا فيما بينك وبينه، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد)، فلهذا فقد بلغ من تشديد النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إيذاء الناس، أنه هدَّد المجاهدين بنقص ثوابهم أو ببطلان جهادهم لو آذوا الناس في طرقهم، ومنازلهم أثناء الجهاد؛ ففي سنن أبي داود: (عَنْ أَنَسٍ الْجُهَنِىِّ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَزْوَةَ كَذَا وَكَذَا فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فَبَعَثَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلاً أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلاَ جِهَادَ لَهُ).
فهذه منزلة حقوق العباد عند الله عز وجل، فهو سبحانه لا يهملها؛ وإنما ينصف المظلوم حتى يأخذ حقَّه، فاحذروا كل الحذر من الاعتداء على حقوق الناس وإيذائهم، وتحللوا من كل من بخستموه حقَّه، قبل ألَّا يكون درهم ولا دينار. ومن المهم أن نجمع الحسنات الكثيرة: بالذكر، والصلاة، والزكاة، والصَّدَقة، وسائر الطاعات؛ ولكن الأهم من ذلك في كيفية المحافظة على هذه الحسنات لئلا تحبط أو تذهب بسبب ذنوب، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة، لمن تعجَّل في التحلُّل من أخيه كي لا تؤخذ منه حسناته يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أو مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، حَمَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ) رواه الترمذي.
أيُّها المسلمون
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة، قد تحلل من حقوق الناس، حتى لا يطلبه أحد يوم القيامة، ففي المعجم للطبراني: (عن بن عباس عن الفضل بن عباس قال (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إليه، فوجدته موعوكا، قد عصب رأسه، فقال خذ بيدي يا فضل، فأخذت بيده، حتى انتهى إلى المنبر، فجلس عليه، ثم قال لي، صح في الناس، فصحت في الناس، فاجتمعوا إليه، فحمد الله عز وجل، وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس، إنه قد دنى مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا، فهذا مالي فليستقد منه، ولا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي، ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا، إن كان، أو حللني، فلقيت الله وأنا طيب النفس)، وفي سنن البيهقي: (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا بِأَسِيرٍ وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ فَلَهَّيْنَهَا عَنْهُ فَذَهَبَ الأَسِيرُ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ :«يَا عَائِشَةُ أَيْنَ الأَسِيرُ؟». فَقَالَتْ: نِسْوَةٌ كُنَّ عِنْدِي فَلَهَّيْنَنِي عَنْهُ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ ». وَخَرَجَ فَأَرْسَلَ فِي إِثْرِهِ فَجِيءَ بِهِ فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَإِذَا عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ أَخْرَجَتْ يَدَيْهَا فَقَالَ :«مَا لَكَ؟». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ دَعَوْتَ عَلَيَّ بِقَطْعِ يَدِي وَإِنِّي مُعَلِّقَةٌ يَدِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَقْطَعُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«أَجُنِنْتِ؟». ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ :«اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْهُ لَهُ كَفَّارَةً وَطَهُورًا».
أيُّها المسلمون
ومن رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين يوم القيام، أمه سبحانه وتعالى يقضي عن العبد المؤمن ما قصر فيه من حقوق العباد، ففي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يَدْعُو اللَّهُ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنِ يَدَيْهِ فَيُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ فِيمَا أَخَذْتَ هَذَا الدَّيْنَ وَفِيمَا ضَيَّعْتَ حُقُوقَ النَّاسِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ أَلْبَسْ وَلَمْ أُضَيِّعْ وَلَكِنْ أَتَى عَلَى يَدَيَّ إِمَّا حَرَقٌ وَإِمَّا سَرَقٌ وَإِمَّا وَضِيعَةٌ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ الْيَوْمَ. فَيَدْعُو اللَّهُ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كَفَّةِ مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ».
وفي المستدرك للحاكم: (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذلي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك و تعالى للطالب: فكيف بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب، ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب، وقصورا من ذهب، مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا، أو لأي صديق هذا، أو لأي شهيد هذا؟، قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب و من يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه قال: بماذا قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإني قد عفوت عنه، قال الله عز وجل: فخد بيد أخيك فادخله الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين)، فاللهم اغفر لنا غدراتنا وفجراتنا وتحمل عنا تبعاتنا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (حُقُوقُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقد يسأل سائل: كيف تكون التوبة من ظلم العباد؟، والجواب: أولا: التوبة من ظلم الناس في دينهم: فمن كان له دور في إضلال الناس في عقيدتهم أو أخلاقهم فإن من توبته أن يقلع عن ضلاله وإضلاله، وأن يندم على فعله وإفساده للناس، ولكن توبته لا تتم حتى يبذل وسعه، لإصلاح ما أفسد، وإعلان توبته للناس، ثم يبين لهم الحق، ويدعوهم إليه. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:١٥٩-١٦٠]، فبيّن سبحانه في هذه الآية أن من شروط توبة الكاتم للحق والداعي إلى الضلال، الإصلاح، وبيان الحق للناس.
ثانيا: التوبة من ظلم الناس في أبدانهم وأنفسهم: وظلم الناس في أبدانهم وأنفسهم يكون: بالاعتداء على نفس معصومة، بالقتل، أو الضرب، أو السجن، والتضييق، والتوبة مما هو دون القتل أمر ممكن لإمكانية القصاص من الجاني، وإمكانية التحلل من المجني عليه وإرضائه بالقصاص أو غيره. فإذا تاب الجاني من ذنبه، واستغفر ربه، وسلّم نفسه، ورضى المجني عليه بالقصاص، أو ما دونه، أو عفا عن الجاني؛ فإن التوبة حينئذ قد كملت شروطها وبرئت ذمة الظالم من ظلمه لأخيه.
ثالثا: التوبة من ظلم الناس في أعراضهم: والتوبة من هذا الظلم تختلف حسب الصورة التي يظهر فيها: فإن كان الظلم بالنيْل من أعراض الناس بالغيبة والنميمة والكذب والهمز واللمز ونحوها؛ فإن التوبة لا تصحّ إلا بالتحلل منهم، وطلب المسامحة منهم، ما داموا على قيد الحياة، فإن أظهروا المسامحة وأباحوا من وقع في أعراضهم فقد برئت ذمته، بشرط الندم وعدم الإصرار. أما إذا تعذر التحلل منهم إما لموت أو خوف المفسدة التي تنجم عن إعلامهم بغيبتهم أو النميمة عليهم؛ فهناك من أهل العلم من يرى أن الذمة تبرأ بالدعاء لهم والاستغفار وأن يثني عليهم في المواطن التي اغتابهم فيها، ومع ذلك فينبغي لمن ظلم العباد بالنيْل من أعراضهم ولم يتمكن من التحلل منهم أن يكثر من الحسنات والقربات ليتمكن من الوفاء منها لهم يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم. وإن كان ظُلمه لهم بالقذف والتهم الباطلة في العرض فعليه التوبة والإصلاح كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور:٤-٥]. وإن كان الظلم للناس في أعراضهم بإشاعة الفاحشة بينهم والإسهام في ذلك بكلمة أو كتاب أو فيلم أو غير ذلك من الوسائل التي تثير الشهوات وتسهل اختلاط الجنسين وتهون أمر الفاحشة أو مقدماتها؛ فتوبة هؤلاء ـ إن كانوا صادقين ـ لا تحصل إلا بندمهم على أفعالهم واعترافهم بتحريمها، وإقلاعهم السريع عنها، وعزمهم على أن لا يعودوا.. هذا ما يتعلق بحق الله عز وجل في توبتهم من ذنوبهم، ويبقى حق العباد الذين أضلوهم وأفسدوا عليهم أخلاقهم وأعراضهم فلا تبرأ الذمة منها حتى يبذلوا الجهد المستطاع في إصلاح ما أفسدوا، وبتبرأوا من أفعالهم، ويبينوا للناس أنها باطلة وفاسدة، وأن لا يفتُروا عن الإصلاح وبذل النصح للأمة كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النمل:١١]، وقوله سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:١٦٠].
رابعا: التوبة من ظلم الناس في أموالهم: فالأصل في التوبة من حقوق الناس المالية أن ترد الحقوق إلى أهلها في الحياة الدنيا، سواء ما أخذ بطريق السرقة أو النهب والاحتيال أو الغش والتدليس أو الغصب والغلول والرشوة.. إلخ، فإذا ندم الظالم لحقوق الناس على ظلمه وعقد العزم على أن لا يعود، وأوقف ظلمه وأقلع عنه، ثم رد الأموال المسروقة أو المغصوبة إلى أهلها فقد برئت ذمته وقبلت توبته إن شاء الله تعالى.
الدعاء